في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، ولد تيار المسرح المستقل في مصر. أنقذت ولادته الحركة المسرحية المصرية من الانهيار الذي بدأت بوادره مع السقوط المدوّي لمسرح الدولة. ورغم تخلي الدولة عن تقديم الدعم المادي واللوجستي لهذا التيار بحجة استقلاله، فقد نجحت الفرق المستقلة في تقديم عروض حرّضت على الثورة وكانت بمثابة نقد لاذع للنظام المصري آنذاك.
استمر هذا الوضع، حتى صدور قانون الجمعيات الأهلية الجديد الذي جفف منابع التمويل الأجنبي، وكانت الفرق المستقلة تعتمد عليه. قلّت العروض واختفت بعض الفرق، بينما رفضت فرق أخرى الاستسلام وبقيت تناضل وحدها برغم غياب مناخ الحرية وعدم تقبل النظام الحالي محتوى المسرح المستقل.
"الورشة": مسيرة رائدة يهددها التمويل
بعد خوضه تجارب مسرحية عدّة في فرنسا، أهمها تأسيس فرقة "مسرح الأرض والريح"، قرر المخرج حسن الجريتلي العودة إلى مصر نهاية عام 1982. بعد عودته، خاض تجارب سينمائية ومسرحية عدّة، كان أكثرها تميزاً مسرحية "فيدا" من إنتاج مشترك فرنسي مصري. وبناءً على نصيحة من المفكر الراحل لويس عوض، انضم الجريتلي إلى المؤسسة الرسمية وأدار المسرح التجريبي، ثم مسرح الهناجر، إلا أنه لم يتحمل النظام البيروقراطي المتحكم بالعمل الحكومي، فقدّم استقالته ليتفرغ للمسرح الحر.
مقالات أخرى
الرقص الشرقي، الفن المهدد بالانقراض
أبرز الفرق المستقلة على الساحة الغنائية فى مصر
بدأ تجربته الجديدة عام 1987 بتأسيسه فرقة "الورشة"، أولى الفرق المسرحية المستقلة في مصر. وعام 1992، تفرّغ للورشة فشهدت عروضها تحولاً كبيراً. بدأت نواة الورشة، مع الفنانين عبلة كامل وأحمد كمال والحكاء سيد رجب، بعروض لنصوص عالمية تم تمصيرها، وكان أولها "نوبة صحيان" وهو عرض إيطالي تناول قضايا سياسية واجتماعية من خلال حياة إحدى العاملات.
ثم جاءت المرحلة الأهم في تاريخ الورشة، عندما انتقلت من تمصير النصوص العالمية إلى استكشاف كنوز التراث المصري والعربي وجمعها، وتحديداً السيرة الهلالية. وتوالت العروض التي جمعت الحداثة والتراث، ومنها: غزير الليل، غزل الأعمار، حلاوة الدنيا.
تعمل الورشة انطلاقاً من المقولة الشهيرة "المسرح أبو الفنون". وعدا فن الأداء المسرحي اهتمت بجميع أنواع الفنون من الغناء والموسيقى، الحكي المسرحي، التمثيل، الرقص. لذلك يرى البعض أنها مؤسِّسة تيار الفن المستقل في مصر، ومساهمة في إبراز الكثير من الفنانين الموهوبين الذين صاروا نجوماً في السينما والتلفزيون والغناء.
طوال الفترة الماضية لم تواجه الورشة أزمات المسرح المستقل المتمثلة في توفير الدعم وتأمين المقر. من مقرها الدائم في وسط القاهرة، كانت تحصل على تمويل من المراكز الثقافية الأجنبية، وبعض جمعيات المجتمع المدني. إلا أن مشروع قانون الجمعيات الأهلية الجديد وضع الفرقة في مأزق حقيقي.
"تياترو": البحث عن جمهور مختلف
فور تخرجه في كلية الفنون الجميلة عام 2003، بدأت رحلة المخرج الشاب عمر المعتز بالله مع المسرح، عبر تكوينه، مع مجموعة من زملاء الدراسة، الفرقة المصرية للمسرح المستقل "تياترو". سعت الفرقة إلى إقامة منظومة حوارية بين المبدع والمتلقي لتطوير الوعي الثقافي وللتعبير عن الواقع من خلال أدواتها المسرحية.
العقبات الحقيقية التي واجهت "تياترو" كانت وما زالت تتلخص بمحاولتها خلق جمهور واعٍ ومحب للمسرح. قال المعتز بالله لرصيف22: "لم نسعَ إلى الحصول على تمويل لأن ذلك ضد مبادئ تياترو، بل سعينا إلى خلق جمهور مختلف في ظل تركة بالية من الأفكار المستهلكة والمبتذلة التي خلفتها فترات متتالية من المسرح التجاري، وتسببت بربط هذا الفن العريق بالضحك والكسب السريع".
وأضاف أن "المستقلين جاهدوا كثيراً منذ بدء الحركة المسرحية المستقلة، منذ الثمانينيات حتى الآن، في لفت نظر الدولة إلى حاجتهم لدعمها ومساندتها من دون أن تستجيب لهم".
وبرغم إيمانه بالدور الذي قام به المسرح المستقل في إنتاج فنون راقية، متحدياً الظروف المادية والسياسية القاسية، فإنه يرى أن "الفرق المسرحية المستقلة لم تُقدم حتى الآن المنتظر منها". واستشهد بالعروض التي قُدمت عن الثورة، وقال إنها "لم تخرج عن نطاق الحكي المُعتاد، ولم تعبر بشكل حقيقي عن عمق الحدث الثوري، بل قامت بتقديم نصوص مسرحية مستهلكة، وإعادة تدويرها معتمدة على الإسقاطات السياسية والاجتماعية بالطريقة المألوفة نفسها منذ الستينيات".
"المسحراتي": البحث عن المهمشين
بسبب ظروف الإنتاج وعدم وجود مكان يحتضن تدريباتهم وأبحاثهم، كانت المخرجة المسرحية عبير علي تجتمع مع أعضاء فرقة "المسحراتي"، التي أسستها عام 1989 فوق سطح منزلها تارة، وفي الحدائق العامة تارة أخرى.
إلا أن الاستمرارية كانت شرطاً أساسياً من شروط الاحتراف، ولذلك تجاوزت الفرقة العقبات التي واجهتها، واستفادت من الدعم الذي قدمته الدكتورة هدى وصفي للفرق المستقلة في الفترة التي أدارت فيها مسرح الهناجر.
اقتصر الدعم على توفير مكان للتدريب والاجتماعات، وكان هذا مفيداً لفرقة لم تجد مكاناً سوى أسطح المنازل. و"المسحراتي" فرقة تنقّب في التاريخ والجغرافيا عن كل ما هو مهمش وتلقي الضوء عليه، كما تحاول بناء ذاكرة سمعية وبصرية وتاريخية ذات خصوصية لأفرادها أولاً ولجمهورها ثانياً.
تعتمد الفرقة على دراسة جميع أشكال التعبير في الحياة اليومية المصرية، إضافة إلى الجمع الميداني لحكايات من البيوت المصرية في محاولة لتأريخ الواقع المصري اجتماعياً، وتستخدم كل ذلك كمادة للعروض المسرحية.
قدمت الفرقة الكثير من العروض وحصل بعضها على جوائز، وأبرزها: الشاطر حسن، أشباح مصرية وهو رؤية جمالية عن نص "الأشباح" لهنريك إبسن، وسبارتكوس.
وقالت عبير علي لرصيف22 إن "مسيرة المسرح المستقل ما زالت تجني ثمار رحلتها وتصارع طواحين الهواء بسبب استمرار الآليات العقيمة التي تحارب الاتجاهات الحديثة والإبداع المغاير، وبسبب مافيا الفنانين الموظفين في مسارح الدولة والذين يعتبرون أن وجود تيار مسرحي يختلف في آلية الانتاج خطراً على وجودهم، وعلى المخصصات المالية للإنتاج المسرحي الذي يحتكرونه".
وأضافت ساخرة: "من هنا تظهر دعوات مثل التساؤل: كيف تكون مستقلاً وتأخذ من الدولة دعماً؟ وكأن المسرحي المستقل ليس له حق في الدخل القومي، ومن المفترض أن يعمل خلال النهار مقاولاً ليستطيع في المساء إنتاج المسرح".
"المستقل": إضافة حقيقية برغم الأزمات
ورأت الكاتبة المسرحية رشا عبد المنعم أن "مسألة الدعم والتمويل هي أزمة المسرح المستقل منذ نشأته فإذا مولته الدولة يصبح غير مستقل بنظر البعض، وإذا حصل على تمويل أجنبي يصبح عميلاً"، لافتة إلى أنها ليست مع التمويل الأجنبي ولا ضده، "فهو خيار مطروح ومحبب في إطار التبادل الثقافي، ولا يليق بنا أن نتهم الحاصلين عليه بتلك التهم أو أن نزايد عليهم في الوطنية".
وأضافت أن "الفرق المستقلة تعمل بآلية إنتاج متحررة من بيروقراطية الدولة، وهو ما يتيح لها العمل بطرق غير تقليدية، عبر الورش والمختبرات المسرحية، ولذلك تنتج فكراً وفناً أكثر حرية".
وتابعت: "علينا أن نعترف أن المجال العام للحريات بعيداً عن أجهزة الدولة الرقابية أصبح أخيراً أكثر ضيقاً ورجعية وأقل رحابة، كما أن القوانين التي استحدثتها الدولة لهذا الغرض (قانون التظاهر، قانون اﻹرهاب)، ستنعكس سلباً على حرية الرأي والتعبير شئنا أم أبينا".
عروض باهته وتأثير ضعيف
ولفت الكاتب والناقد المسرحي جرجس شكري إلى أن "تيار المسرح المستقل كان حاضراً قبل ثورة 25 يناير، لكنه بعدها تراجع بشكل ملحوظ بسبب التغيرات السياسية". وقال لرصيف22: "الحدث الثوري كان أكبر من فكرة المسرح المستقل. نعم هناك عشرات الفرق ولكنها بلا تأثير. اعتقد البعض بعد الثورة أن مناخ الحرية سوف يجعل هذه الفرق تقدم أفضل ما لديها، ولكن هذا لم يحدث. جاءت عروض المسرح المستقل باهتة، وحاولت مواكبة الحدث كما واكبته عروض مسرح الدولة لا أكثر ولا أقل. فغالبية الفرق المستقلة بعد الثورة قدمت حكايات من الميادين".
وأضاف: "بعد أكثر من ربع قرن على ولادته، لم يخلق هذا التيار أسلوباً فنياً خاصاً به".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 20 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت