لن تجد تصريحاً لمسؤول مصري يقول فيه صراحة إننا نكره الثقافة والمثقفين. لكن متابعة موقف الدولة من المراكز الثقافية "الشبابية" يخبرك بالكثير عن توجهات الدولة وعن علاقتها بالشباب عموماً، وبالإبداع خصوصاً.
اللافت أن البيروقراطية المصرية لديها من اللوائح والقوانين ما يكفي ليجعل الإغلاق والملاحقة قراراً يبدو وكأنه قرار "إداري" لا سياسي، مستنداً إلى مخالفات في كثير من المراكز الثقافية بصورة تجعل الأمر كما لو أن الدولة تطبق القانون ليس إلا.
فقد بدأ الصدام البيروقراطي- الثقافي في يوليو 2014 حين وجهت وزارة التضامن الاجتماعي إنذاراً للكيانات التي تعمل في الميدان الأهلي، وليست مسجلة لدى الوزارة، أن عليها ترتيب أوضاعها وإلا فستعرض نفسها للإغلاق والمساءلة القانونية.
القرار يبدو تنظيمياً، لكن في طياته قراراً "بالمعاكسة". فالجميع يعلمون أن غالبية المؤسسات الثقافية المستقلة مسجلة كشركات أو كمنشآت فردية، لتفادي التعقيدات في قانون الجمعيات الذي يفرض الحصول على تراخيص جديدة في كل مرة تقرر أن تنظم حفلة أو عرضاً. كما يفرض قيوداً قاسية على بيع التذاكر أو على كل نشاط يدر دخلاً يسمح لها بالاستمرار، فقرار وزارة التضامن الاجتماعي كان مؤشراً إلى ما تنوي عليه الدولة.
أول نقطة ثقافية تم القضاء عليها في القانون كانت مهرجان "الفن ميدان"، وهو احتفالية دورية ثقافية انطلقت في أبريل 2011 من ميدان عابدين في وسط القاهرة، لتأسيس مساحة حرة يعبر فيها الفنانون عن أنفسهم. وتميز "الفن ميدان" بتنوعه المدهش. فتجد فيه أغاني، وورش رسم، ومسرح عرائس، ورسوم كاريكاتور ولوحات تشكيلية. باختصار كان حاضنة ثقافية لا بأس بها.
وفي أكتوبر 2015، قررت الدولة إيقاف المهرجان، حينذاك صرح محافظ القاهرة أن توقف "الفن ميدان" لم يكن لأسباب أمنية، بل لقيام المحافظة بتطوير ميدان عابدين، وعلى القائمين على المهرجان أن يواصلوا إقامته اعتباراً من أول ديسمبر المقبل.
بالطبع لم يعد الفن للميدان، ودخل القائمون عليه في متاهة تراخيص انتهت بالقضاء على المهرجان نهائياً.
وفي نوفمير 2015 دهمت قوة من مباحث المصنفات الفنية مركز الصورة المعاصرة، بمنطقة وسط البلد وتم إغلاق المركز لوجود مخالفات إدارية فيه، إحداها وجود نسخة Windows غير أصلية على أحد أجهزة كمبيوتر المركز.
لكن هل هذا هو السبب الحقيقي، أو أن معرض "مقتنيات معتقلي الثورة" الذي نظمه المركز، هو ما أثار غضب الدولة لمداهمته وتفتيشه وإغلاقه؟
ما حدث مع "الفن ميدان"، ثم مع "مركز الصورة المعاصرة"، تكرر مع مسرح روابط وغاليري تاون هاوس. ففي ديسمبر 2015 تحركت حملة من المصنفات الفنية وإدارة حي غرب القاهرة، لمداهمة الغاليري والمسرح. ثم تم إغلاق المسرح بالشمع الأحمر، لوجود مخالفات إدارية، أهمها عدم وجود مخارج طوارئ للمسرح.
ونفى ياسر جراب، مدير غاليري تاون هاوس أن يكون من ضمن الحملة ممثلون للأمن الوطني، أو السياسة من أسباب الإغلاق، مؤكداً أن “تاون هاوس" سيقوم بتسوية أوضاعه القانونية، لكن تصريحاته لا تنفي حقيقتين مهمتين: الأولى أن مسرح روابط وغاليري تاون هاوس، كانا من أهم المراكز الثقافية في القاهرة، وأنهما كمؤسستين غير ربحيتين كانتا من أوائل من قدم الفن المعاصر إلى الجمهور المصري. وأنهما كانتا نموذجاً ناجحاً، وفتحتا الباب لعشرات المؤسسات الثقافية للعمل والاختلاط بالشارع، فمن داخل تاون هاوس تكونت أفكار ومشاريع باتت مراكز ثقافية مستقلة.
الحقيقة الثانية أن تاون هاوس ومسرح روابط يعملان منذ أكثر من 20 عاماً، فلماذا يُغلقان الآن؟ بالطبع لا أحد يوافق على وجود مسرح من دون مخرج طوارئ، فآخر ما نريده هو محرقة جديدة، وطلب تعديل المسرح أو حتى نقله، قد يكون كلاماً منطقياً، لكن غير المفهوم هو إغلاق الغاليري.
مرة أخرى تنجح البيروقراطية الوظيفية في ما يخفق فيه الأمن: الآن أصبح قرار الإغلاق مستنداً إلى أسباب "منطقية" لا يمكن إغفالها. وفي الأسبوع نفسه، دهم رجال الأمن دار ميريت للنشر في منطقة وسط القاهرة، وألقوا القبض على أحد العاملين في الدار. واتهمت "ميريت" ببيع كتب ليس لها أرقام إيداع، والدار بلا ترخيص أصلاً.
هاتان التهمتان كانت كفيلتين بإغلاق الدار، لولا أن لسبب أو لآخر تراجعت الدولة، وقررت تخلية سبيل موظف ميريت، بعد استجوابه في ما وصفه هو شخصياً بأنه "كان تحقيقاً سياسياً بامتياز".
واستغرب محامي الدار سامح سمير أداء الشرطة، فالأمر لم يكن يستدعي كل هذا الصخب، مضيفاً أنهم ماضون في إجراءات ترخيص المقر الجديد كمحل تجاري وتسوية الأمر.
تقول مؤسسة "المورد الثقافي" أحد أهم المراكز الثقافية، بسمة الحسيني، التي صفّت أعمالها في مصر عام 2015، إنه "هناك حالة من اصطياد الأخطاء بناءً على القوانين التي أصدرتها وزارة التضامن الاجتماعي، والتي تجرّم تقريباً الكيانات الثقافية غير الهادفة للربح، وتهدد بسجن العاملين فيها استناداً إلى قرارات تجعل المسألة تبدو كأنها لا علاقة لها بالسياسة، إنما فقط مخالفات إدارية".
المدهش كذلك أن أحداً من أصحاب ومديري تلك المراكز لم يحاول إصدار بيان مشترك في مواجهة الدولة. بالعكس، غالبيتهم تحدثوا عن نيتهم "توفيق" أوضاعهم وتصحيح الأخطاء الإدارية.
"الأمر ربما مزيجاً بين عاملين"، هكذا يستهل حديثه الشاعر مايكل عادل، ويقول: "هناك مخالفات إدارية يجب تسويتها، لكن من جهة أخرى تبدو الدولة مرتبكة من اقتراب ذكرى الثورة في 25 يناير، ويبدو أن هناك رغبة ما في إغلاق تلك المراكز الثقافية، التي تعتبرها الدولة بؤراً شبابية ونقاط تجمع لا ترغب في وجودها الآن، وعليه شُنت تلك الحملة التي طالت العديد منها.
ربما كان أكثر البيانات وضوحاً في ربط ما يحدث بالمشهد السياسي هو البيان، الذي أصدرته الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان واعتبرت فيه أن إغلاق غاليري تاون هاوس ومسرح روابط خطوة أخرى لإقفال المجال العام في مصر، واصفاً ما حدث بأنه "حرب على الإبداع".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون