"إجت الطيارة اتخبو". كانت هذه آخر جملة قالها أبو عُدي، الفلسطيني الذي يعيش في مخيم اليرموك المُحاصر جنوب سوريا، موجهاً حديثه للمجاورين له، قبل سماع دوي انفجار عبر الاتصال الذي ربطه بـرصيف22 عبر الإنترنت، نتيجة قصف الطيران السوري على المُخيم، انقطع على إثره الاتصال، وفشلت محاولات العثور عليه لثلاثة أيام.
يعيش بو عُدي منذ عامين ونصف العام داخل مخيم اليرموك، الذي يسيطر عليه تنظيم داعش، بعد معارك مسلحة مع جماعة "أكناف بيت المقدس"، التي كانت تحمي المُخيم.
يبعُد مخيم اليرموك عن العاصمة السورية دمشق 8 كيلومترات، ويعيش فيه نحو 18 ألف لاجئ فلسطيني، من أصل 160 ألفاً فر غالبيتهم بعد اندلاع الحرب السورية. وقد أنشئ المُخيم في الأساس عام 1957 لإيواء اللاجئين الفلسطينيين الفارين من الجيش الإسرائيلي، لكن أحواله تدهورت بسبب الأزمة السورية.
ثلاثة أيام انقطع فيها صوت أبو عُدي، رد بعدها على هاتفه، مفسراً غيابه بسقوط أحد أصدقائه في المُخيم قتيلاً نتيجة القصف. وقد توقف هاتفه عن العمل نتيجة انقطاع الكهرباء عن المكان، منذ بدء ما يسميه بـ"حصار المُخيم" في سبتمبر 2012، حين بدأت المعارك بين مسلحين في المُخيم وقوات الجيش السوري، التي تتهم السكان بإيواء من تصفهم بالـ"إرهابيين والعناصر المسلحة".
مقالات أخرى
حوارات المعذَّبين والجلادين في السجون السورية
سوريون يبحثون عن الأمان في غزة
يمر اليوم داخل المخيم بتحديات كثيرة، يقول أبو عُدي إن ظروف الحياة فرضتها عليه "خصوصاً مع انقطاع الكهرباء والمياه". وهذا ما دفعه هو والسكان إلى إيجاد حلول بديلة، منها إعادة تشغيل آبار المياه المتوقفة عن العمل، والتي يصل عمق بعضها إلى ما فوق 160 متراً، ويتطلب تشغيلها وجود كهرباء قام اللاجئون بتوفيرها عن طريق المولدات. وبقيت مشكلة الحصول على وقود المولد لتشغيله، ليكون الحل في "اختراع مازوت صناعي".
ويضيف: "بعض المتُخصصين اخترعوا مازوتاً صناعياً من بقايا البلاستيك، عن طريق حرقه داخل براميل حديد حتى الانصهار، ثم إضافة بعض المواد الكيميائية إليه، لتشغيل المولدات التي تنتج الكهرباء اللازمة للإنارة الليلية وتشغيل آبار المياه".
4 ساعات فقط ينعم فيها الفلسطيني المُحاصر بكهرباء المازوت الصناعي، تبدأ من الثامنة ليلاً حتى الثانية عشرة، ترشيداً للطاقة، وحفاظاً على كمية البلاستيك الموجودة.
يروي أبو عُدي تفاصيل سير اليوم داخل المخيم: "نبدأ في السابعة صباحاً بجلب المياه من الخزانات الرئيسية للبيت، ثم تأتي مرحلة جمع الأخشاب وتكسيرها لاستخدامها في حرق البلاستيك وعمل المازوت الصناعي".
ويضيف: "بعد تأمين الوقود نشتري الحشائش، وهي خس وجرجير وفجل وبقدونس، وهي وجبتنا الصباحية، وليس لدينا سوى وجبة وحيدة رئيسية طوال اليوم تتم في السابعة مساءً، وتتكون من أرز أو عدس".
ويقول: "ليس لدينا القدرة على شراء أكثر من وجبة، فالأسعار خيالية في المخيم، إذ ارتفع سعر كيلو الأرز من 80 ليرة إلى 15 ألف ليرة سوري (50 دولار)".
"3 سنوات لم أذق فيهم طعم الخبز"، يتحدث عن الخبز الذي لا يزور المخيم بسبب الحصار، لكن تحايل السكان على ذلك الوضع دفعهم إلى إعداد "خبز العدس"، عن طريق طحنه جيداً وتحويله إلى بودرة يتم عجنها وصنع خبز منها. "طعمه سيئ ولونه أسود، لكن لا يوجد بديل منه"، يشير أبو عدي.
يضطر أبو عُدي يومياً إلى اللجوء للخزانات العامة للمياه، التي وضعتها لجنة الإغاثة الدولية "الأنروا" في الميادين، ليملأ منها الأهالي احتياجاتهم. طوابير طويلة تبدأ في السابعة من صباح كل يوم للحصول على قطرات للشرب والاغتسال.
وهو يرصد البراميل المتفجرة التي يلقيها الطيران السوري على المخيم منذ عامين ونصف العام، والتي وصلت إلى 54 برميلاً حتى الآن، بحسب ورقة يحتفظ بها، يسجل عليها تاريخ التفجيرات وعدد البراميل الملقاة.
يقول: "في كل مرة يكون متوسط القصف من 6 إلى 10 براميل، بالإضافة إلى القصف الصاروخي والمدفعي، وأنا أتحدث معك الآن والقصف مستمر".
في مارس الماضي، ااتهمت منظمة العفو الدولية في تقرير لها النظام السوري بـ"استخدام الجوع كسلاح حرب في حصار مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين". بعد شهر من ذلك، في أبريل اقتحم تنظيم داعش المخيم للمرة الأولى، ومنذ ذلك الحين يقصف الطيران السوري المخيم، ويتهم سكانه بـ"إيواء إرهابيين".
يؤكد أبوعُدي أن "المياه الموجودة غير صالحة للاستخدام الآدمي، حتى تلك التي نستخرجها من الآبار، لذلك نلجأ إلى وضعها على النار فترة طويلة وتركها تبرد حتى تصلح للشرب". ويقول: "تعودنا الضرب والقتال، وبمجرد أن نسمع صوت الطائرة من بعيد، نرسل رسائل جماعية على الهواتف المحمولة لتنبيه الجميع والنزول إلى الملاجئ، لأن غالبية الغارات تكون ليلاً".
لا يزال أبو عُدي في انتظار عودة صديقه المُقرب محمود، الذي اعتقل حين خرج لتسلم حصته من الغذاء من مندوبي "الأنروا".
"أشعر بالجوع". كانت تلك الجملة هي آخر ما كتبه محمود على صفحته على Facebook، في مارس 2015. وبعد اختفائه توقفت صفحته عن العمل. كما يتذكر أصدقاءه القابعين في سجون النظام السوري: محمود تميم وأحمد شتات وأحمد تميم ولؤي سعدية ونور الدين أبو ياسر وسلام عمار.. أسماء يحفظها جيداً.
ويضيف: "أعلم أنني سأموت في المخيم، سأقتل يوماً ما، وهو مصير كل من يعيش هنا في الحصار. لكن لا نعلم متى الموت أو كيف. أود أن أموت في معركة وليس تحت التعذيب أو الجوع".
لا يعلم أبو عُدي وأقرانه كيف سيوفرون الغذاء والمياه في المخيم، بعد قرار الأمم المتحدة رفع المخيم من قائمة الأماكن المحاصرة، بعد عجز المنظمة الدولية عن تنفيذ خطة الطوارئ التي أعلنتها في أبريل 2015. ومع تراجع دور داعش داخل المخيم، يحاول الأهالي سد احتياجاتهم عبر تهريبها من مدينة يلدا المُجاورة للمُخيم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...