لدى اجتياز "باب الجديد"، أحد أبواب مدينة تونس العتيقة الكثيرة، تجد نفسك في "سوق الحدادين"، وسط صخبه الحاد وحوانيته الكثيرة. هناك يقع دكانٌ صغير، هو آخر معاقل صناعة المسابح في تونس.
ازدهرت صناعة المسابح في بلاد المغرب العربي على امتداد قرون طويلة وترافقت مع الحضور الصوفي وانتشار مراقد ومقامات الأولياء الصالحين الذين شكل أتباعهم ومريدوهم أكبر مستهلك لها.الآن اختلف الوضع. على مشارف عقده الثامن، ما زال الحبيب الجوابي، صاحب الدكان المذكور، يكابد من أجل المحافظة على حرفته التي باتت نادرة. لا يراهن عليها لقيمتها الرمزية بل يحرص على الاستمرار فيها كونها مصدراً للرزق. قال لرصيف22: "لا أتخيل حياة أخرى لي خارج هذا الدكان، أو في حرفة أخرى. جربت التخلي عنها في السابق، وذهبت إلى فرنسا ولم أستطع البقاء هناك. كان كل شيء يجذبني إلى هذا الدكان وإلى حبات السُبحة".
الصنعة المقدسة
وروى الجوابي قصته مع صناعة السبحات التي بدأت منذ خمسينيات القرن الماضي: "دفعني والدي للعمل مع صاحب هذا الدكان الذي افتتح سنة 1939، وكان رجلاً فقيهاً وعلماً من أعلام الطريقة التجانية، ليُعلمني صناعة السبحة. يومذاك لم يكن عمري يُجاوز الخمسة عشر سنة. في هذا الدكان الصغير تعلمت أصول الحرفة. فقد كان العمل يدوياً صرفاً. كنا نصنع الحبات بخراطة يدوية ثم نصقلها بأيدينا حتى تأخذ شكلها الدائري. لم يكن إنتاج الدكان يُجاوز العشر سبحات في اليوم، أما الآن فقد تغير الأمر كثيراً بفضل الآلات الكهربائية السريعة الإنتاج".
وماذا عن عن علاقته بحرفته، أجاب: "لا أعتبرها عملاً أجني منه مالاً فقط، بل جهداً مقدساً. السبحة أداة تساعد صاحبها على العبادة وذكر الله والتقرب منه. وشُغلي يساعد الناس على العبادة ويوفر لهم آلة للذكر والتسبيح".
مقالات أخرى
عودة الأسواق الشعبية السعودية إلى الحياة
"الخيامية" فن بدأه الأنبياء واستكمله المصريون
وأضاف: "للطرائق الصوفية العديد من الأذكار التي يصعب ضبطها باليد أو بالحساب الذهني، فاستنبط كبار الصوفية والمشايخ هذه الأداة لمساعدة المريد على الذكر وجعله منقطعاً لله غير مُهتم بحساب الأذكار، الذي تضبطه السُبحة آلياً. المسابح التي أصنعها ستبقى صلة وصل بيني وبين الذاكرين في كل أرجاء العالم. فحيث يوجد صوفيون ومريدون وذاكرون ستكون السُبحة ملازمةً لهم".
واشتكى الجوابي من أن "هذه الحرفة أصبحت متروكةً وتواجه شبح الاندثار". في المدة الأخيرة، أصبح وحيداً في الميدان. فأغلب الشباب لا يرغبون في إضاعة وقتهم في تعلّم هذه الحرفة ويبحثون عن مهن أخرى ذات مردود مادي أكبر وأسرع. كذلك تلعب السوق دوراً كبيراً في إحجام البعض الإلمام بأصول هذه المهنة، فصناعة السبحة بإتقان لا تكفي، بل يتطلب الأمر سوقاً لترويج المنتوج وعلاقات واسعة مع المهتمين. لقد نجح الجوابي في بناء هذه السوق وتوسيع علاقاته خلال أكثر من نصف قرن من العمل، وهو أمر يصعُب كثيراً على أي حرفي جديد أن يفعله.
أنواع السبحات وأشكالها
يشتغل الحبيب الجوابي أساساً في صناعة سبحة الطريقة التجانية، نسبة للشيخ أحمد التجاني، وهو ينتمي إليها. لكنه يصنع كل أنواع السبحات بحسب الطلب. تتألف السُبحة التجانية من مئة حبة مقسمة بحسب أذكار الطريقة اليومية وتمسى "أوراداً" وتفصل بينها "شواهد". أما الطرائق الصوفية الأخرى فأغلبها ذات سبحات من تسع وتسعين حبة بعدد أسماء الله الحسنى، وتختلف أذكارها بحسب كل طريقة.
أما المادة الخام المُستعملة في صناعة السُبحة فهي من الخشب. يُركز مريدو الطريقة التجانية على "عود العناب" لجمال لونه ورائحته الطيبة، ولأنه من وصايا شيخهم أحمد التجاني الذي كان يتخذ سُبحة من عود العناب.
ولكن بعض الطرائق الصوفية الأخرى تُفضل عود الزيتون لأن شجرة الزيتون "مباركة". ويفضّل المتصوفة في أفريقيا جنوب الصحراء "عود اليبنوز" الأسود اللامع و"عود اليُسر" النادر. ويتم نقع السُبحة في زيت خاص يزيد العود بريقاً وطيباً.
أما شواهد السُبحة، وهي القطع التي تقسم أجزاءها، فتُصنع من عظام الحيوانات كالبقر والإبل. ويُستعمل الخيط السميك في نظم حبات السُبحة، ويُستبدل كل مدة كي لا ينفرط عقدها. وهنالك أنواع أخرى من السبحات تُتخذ للزينة وتُصنع من الفضة وأخرى تُصنع من الخشب، ولكنها كبيرة الشكل تُعلق في البيوت.
تغيرات ثقافية
ورأى المؤرخ التونسي منصور بوليفة أن "نفور الشباب من تعلم حرفة صناعة السبحة في مقابل الإقبال على بعض الصنائع الأخرى، مرتبط إلى جانب العوامل الاقتصادية المهمة والفارقة، بعوامل ثقافية. فقد ازدهرت هذه الصناعة في تونس منذ وصول الإسلام حتى النصف الأول من القرن العشرين، نظراً لتركز الكثير من الطرائق الصوفية في البلاد وانتشار الزوايا الصوفية، الأمر الذي أوجد سوقاً مزدهرة للسبحات بمختلف أشكالها وأنواعها، بحسب كل طريقة صوفية وأذكارها".
وأضاف لرصيف22: "بعد الاستقلال وتبني الدولة خيارات التحديث وانحسار دور الدين في الشأن العام، انحسر دور وانتشار الطرائق الصوفية، خاصة بعد إصدار قانون إلغاء الأوقاف الذي أفقدها رافدها المالي نهائياً. هذا الانحسار، إلى جانب مؤثرات ثقافية خارجية كموقف تيار الإسلام السياسي من التصوف ومواقف التيارات السلفية التي تعتبره ممارسة "قبورية" وحتى موقف التيارات الحداثية التي تصنفه في خانة الخرافة، هذا الانحسار أدى إلى تدهور سوق السبحات التي صارت تقتصر على فئة ضيقة من الذين حافظوا على انتمائهم الصوفي".
وأشار بوليفة إلى أن "السبحة في تونس هي سبحة ذات أغراض دينية حصراً، على خلاف ما يُعرف في المشرق العربي من سبحات تُتخذ للتسلية ويُصنع بعضها من الأحجار الكريمة كالفيروز وغيره. لذلك، لا تصوف بلا سُبحة ولا صناعة سُبحة بلا طرائق صوفية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...