في الزاوية الغربية الجنوبية من المسجد الأقصى، وبالقرب من مبنى المتحف الإسلامي، تقع مكتبة المسجد أو ما كان يُسمّى قديماً "جامع النساء". في تلك المكتبة التي تضمّ مجموعات من الكتب والمطبوعات القديمة والمخطوطات، يجلس يوسف الأوزبكي.
تنظيم الفوضى السابقة
يعمل الأوزبكي منذ مطلع العام 2013 أميناً للمخطوطات والمطبوعات القديمة في مكتبة المسجد الأقصى. قبل ذلك، كان الداخل إلى المكتبة يجدُ المخطوطات العربيّة والإسلامية التي يعود عمر بعضها إلى 900 عام، مبعثرة في زواياها أو موضوعة على الرفوف بشكل عشوائي، أو ملقاة على طاولات أو موضبة في أكياس وصناديق كرتونية بدون عناية. كانت تلك المخطوطات مرتعاً للحشرات والغبار، حتى أنها تسببت للأوزبكي ببعض أعراض الأمراض الجلدية.
لكن منذ بداية عمله، راح الأوزبكي يرتب المخطوطات ويفرزها ويجمعها ويفهرسها. ثم أُرسلت إلى مركز ترميم المخطوطات في المسجد الأقصى، حيث تم تعقيمها قبل إعادتها إلى المكتبة، وهي اليوم في حالة أفضل، مصنفة حسب قدمها، ومرتبة في أغلفة مناسبة، ومرقمة ليسهل الوصول إليها والبحث عنها.
وروى الأوزبكي لرصيف22: "كانت المخطوطات مبعثرة في منطقة من المكتبة توجد فيها أجهزة كهربائية، ما يعني درجة حرارة مرتفعة غير ملائمة للمخطوطات. وبفضل جهود دائرة الأوقاف الإسلاميّة، جرى تخصيص جزء مناسب من المكتبة لحفظ هذه المخطوطات، بحيث لا تصلها الإضاءة أو أشعة الشمس، ويُحافظ على درجة مناسبة من الحرارة".
في جولة بين الخزائن الجديدة التي تُحفظ فيها المخطوطات حالياً، ينبّه الأوزبكي إلى عدم استخدام الفلاش أثناء التصوير كي لا تتضرر. على مقربة من الخزائن يضع آلة لمراقبة درجة حرارة المكان حرصاً على المعايير المطلوبة لضمان حفظ المخطوطات. قال: "حفظ أجدادنا هذه المخطوطات لأعوام طويلة ولم تتلف، فلماذا نسمح نحن بضياعها في عصرنا؟".
مقالات أخرى:
8 دول أجنبية بينها أمريكا وإسرائيل تحتفظ بمخطوطات عربية نادرة
أبرز عمليات اغتيال الكتب في العالم العربي
تم تصوير أغلب المخطوطات والاحتفاظ بصورها إلكترونياً. وأكّد الأوزبكي: "لا نسمح للطلاب ومراجعي المكتبة بالتعامل المباشر مع المخطوطات، فذلك يؤذيها ويزيد من تعرضها للتلف. وإذا أراد طالب من خارج فلسطين الاطلاع على مخطوطة ما، نرسل الصّور الإلكترونية له، وإذا لم نكن قد صورنا المخطوطة التي يريد الاطلاع عليها، نفعل ذلك في غضون 3 أو 4 أيام ونرسلها له، وذلك تسهيلاً لعمل طلاب العلم، وبدون أي مقابل مادي".
أبرز مخطوطات المسجد الأقصى
بين مخطوطات المسجد الأقصى نصف مصحف (من سورة طه إلى سورة الإخلاص) خُطّ في القرن الثالث الهجري، ومعروض حالياً في المتحف الإسلامي في المسجد الأقصى، وقد كُتب على إحدى صفحاته: "موقوف على قبة الصخرة المشرفة". ويعتبر هذا المصحف أقدم مخطوطة في مدينة القدس.
مخطوط كتاب "التلخيص في علم رجال الحديث" للخطيب البغدادي - نسخ عام 577 هجرية في بغدادوشرح الأوزبكي الفرق بين المخطوطات "الفريدة"، و"النادرة"، و"النفيسة": "عندما نقول مخطوطة نادرة، نعني أن عدد نسخها قليل في العالم، لكن على الأقل توجد نسخ أخرى منها. أما المخطوطة الفريدة فهي النسخة الوحيدة الموجودة في العالم حتى اللحظة. بينما نطلق على المخطوطة وصف النفيسة إذا كانت لها ميزة معينة ترفع من قيمتها، كأن تكون الأقدم من بين بقية النسخ، أو تكون مزركشة بشكل جماليّ، أو تكون منسوخة بخطّ المؤلف نفسه، وهنا يكون منبع نفاستها".
في المسجد الأقصى بعض المخطوطات النفيسة، ومنها مخطوطة الأربعين النوويّة. وقال الأوزبكي: "في العالم ما يقارب 200 مخطوطة للأربعين النوويّة، ولكن نسخة المسجد الأقصى نُسِخت عن نسخة المؤلف مباشرة، وهي قريبة من عصره، فهي تبعد عن وفاته 30 عاماً فقط، وتعتبر أقدم نسخة للأربعين النوويّة، وهذا منبع نفاستها". وهنالك مخطوطات نفيسة أخرى في الأقصى مثل مخطوطة "البرهان في علوم القرآن" للإمام الزركشي، ومنبع نفاستها أنها خطّت بيد ابن المؤلف عن نسخة أبيه.
وبحسب الأوزبكي، فإن مخطوطات مدينة القدس جلّها عثماني وبنسبة تصل إلى نحو 80%، أما المخطوطات المملوكية فتصل نسبتها إلى نحو 19%، فيما لا تتجاوز نسبة المخطوطات الأيوبية أو العائدة إلى عصور أقدم الـ1%. ويرجع الأزوبكي سبب قلة المخطوطات القديمة التي يزيد عمرها عن 900 عام في القدس إلى الاحتلال الصليبي للمدينة الذي إما سرق مخطوطاتها أو دمر وأتلف أخرى. والغالبية العظمى من هذه المخطوطات تتناول العلوم الدينية واللغوية، وكتبت باللغة العربية، مع عدد قليل من المخطوطات باللغتين التركية والألمانية.
مركز ترميم المخطوطات
يتكامل عمل الأوزبكي في مكتبة الأقصى مع عمل مركز ترميم المخطوطات. يقع المركز على بعد أمتار قليلة من المكتبة، في مبنى المدرسة الأشرفية على الحائط الغربي للمسجد الأقصى بين باب السلسلة وباب الحديد، والتي تنسب إلى السّلطان المملوكي الأشرف قايتباي. يدير المركز رضوان عمرو، ويعمل فيه 10 متدربين ومرممي مخطوطات.
قال رضوان عمرو لرصيف22 إن أول إشارة إلى عمل ترميمي للمخطوطات في المسجد الأقصى كانت منذ ما يقرب 600 عام، حين أمر السّلطان المملوكي قالوون، في آخر فترة المماليك، بالاعتناء بأجزاء من المصحف الشريف التي كانت تقرأ في الصخرة منذ الفترة الأيوبية، وكان يقدر عمرها حينذاك بنحو 200 عام.
بدأ العمل على إنشاء هذا المركز عام 1999 بدعم من منظمة اليونسكو. فابتعثت دائرة الأوقاف الإسلامية خمسة طلاب من القدس إلى إيطاليا لقضاء 3 سنوات في دراسة علم ترميم المخطوطات. وكان منهم المرمم خضر الشهابي، وهو شاب ثلاثيني يعتبر أقدم مرمم مخطوطات في القدس.
عراقيل الاحتلال
وقال رضوان عمرو لرصيف22 إن رحلة إنشاء المركز وبدء عمله استغرقا وقتاً طويلاً، إلى حين تدريب المرممين وتصنيف المخطوطات وفهرستها، ومن ثم الحصول إلى المعدات والأدوات اللازمة للعمل.
وأضاف: "اشترينا المعدات والآلات اللازمة للترميم من إيطاليا عام 2005، ولكن سلطات الاحتلال الإسرائيلي احتجزتها في ميناء أسدود حتى يونيو 2008". وبعد ضغوط أردنية، حصل المركز على معداته، وتم افتتاحه رسمياً عام 2008.
عدا ذلك، يتم بين حين وآخر احتجاز الكثير من مواد ومستلزمات الترميم التي يوصي عليها المركز في ميناء أسدود، وأكّد عمرو أنه منذ بداية عمل المركز احتُجزت هناك 5 طلبيات لمن 4 إلى 6 أشهر، كما أن شرطة الاحتلال قد تعرقل دخول طلبيات لبضعة أيام على أبواب المسجد الأقصى.
عمل المركز
يضم المركز أربعة أقسام يعمل فيها 10 متدربين ومرممين، وهي قسم التصوير والمعالجة الإلكترونية، قسم التعقيم والمعالجة البيولوجية، قسم المعالجة الكيميائية، وقسم الترميم اليدوي. وأشار عمرو إلى أن المركز شرع منذ عامين يصور كل المخطوطات وأرشفتها، بهدف بناء قاعدة بيانات إلكترونية تمكّن الباحثين حول العالم من الوصول إليها.
وشرح خضر الشهابي مراحل الترميم ولفت إلى أنها قد تصل إلى نحو عشرين مرحلة، حسب درجة التلف، التي يعاني منها المخطوط. ونبّه إلى أن العمل مع المخطوطات يحتاج أولاً إلى يد حساسة ودقيقة وإلى شخص طويل البال يستطيع الصبر على الوقت الطويل الذي قد يستغرقه الترميم.
يبدأ ترميم المخطوطات بالتنظيف الجافّ الهادف إلى إزالة الأتربة، ومن ثمّ التعقيم عن طريق النيتروجين من أجل طرد الحشرات. ويقوم المرمم كذلك بغسل المخطوطات بطريقة شديدة الدقة من أجل الحفاظ على الأحبار وضمان عدم فقدان النصوص. ويشمل عمل الترميم إعادة التصميغ والتجليد والخياطة والتذهيب. "بالمختصر، نحن نحوّل المخطوط إلى مستقبل أكثر أمناً"، بحسب تعبير الشهابي.
أول ما رممه المركز كان خريطة عثمانية تعود إلى بدايات القرن العشرين وتبين حدود حكم الدولة العثمانية. وقد طبع من هذه الخريطة في برلين ست نسخ، وُجدت واحدة منها في مكتبة المسجد الأقصى مع خرائط عسكرية عثمانية أخرى. وحالياً هي أول ما يلفت نظر زائر المركز إذ علقت على لوحة كبيرة على يسار المدخل.
وقال عمرو: "هذه الخريطة عزيزة على قلوبنا في المركز لذلك قررنا تعليقها هنا. لقد كانت مثل قطع "البازل" مقطعة وكانت من المخطوطات الأولى التي عمل الفريق على ترميمها، وقد استغرق ذلك فترة طويلة، لأنه كان ترميماً وتدريباً على الترميم كذلك".
ومن المخطوطات المهمة المحفوظة لدى المركز، والتي سيبدأ بترميمها وصيانتها قريباً، مخطوطة كتاب "إحياء علوم الدين" للإمام الغزالي، وهي مخطوطة منسوخة عن المخطوطة الأصلية.
وتتوزّع مخطوطات المسجد الأقصى على أكثر من دائرة تابعة للأوقاف الإسلامية، هي مركز الترميم والمكتبة والمتحف الإسلامي. ويصعب الحصول على رقم دقيق لعدد هذه المخطوطات لعدم إتمام فهرسة كل الموجودات، إلا أن الأوزبكي يقدر عددها بـ2300 مخطوطة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...