مَن يسأل عن حال قطاع السياحة في لبنان، وتحديداً بعد الأزمة السورية، يعرف أن عدد السياح تناقص كثيراً، وأن مَن يأتون اختلفت أغراض زيارتهم. صار لبنان يعتمد على السياح العراقيين، أو بالأحرى على المرضى العراقيين. فأعداد هؤلاء تتزايد وباتت وزارة السياحة تحسب لهم حساباً في جداولها، كما الحال مع عدد من المستشفيات اللبنانية وأطبائها.
لكل واحد من المرضى العراقيين قصة عن معاناته مع النظام الطبي في العراق، جامعها المشترك هو الفساد، انعدام الكفاءات الطبية، تلقي علاج خاطئ يفاقم المرض، عسكرة بعض المرافق الطبية واستهدافها أمنياً، بيع الأدوية في السوق السوداء وتزوير الكثير منها. ولكن في لبنان، تأخذ معاناتهم منحى آخر فيحضر الكلام عن تكاليف العلاج الباهظة وغلاء المعيشة وحالات الاستغلال الكثيرة.نظام طبي منهار
النظام الطبي العراقي الذي كان يعتبر قبل التسعينيات من القرن الماضي الأكثر تقدماً في المنطقة، والذي قاوم العقوبات التي فرضت على العراق في التسعينيات، انهار حالياً. دمّرته الحرب ببناه التحتية وكوادره البشرية.
مواضيع أخرى:
مافيات الدواء تُغرق العراق بمنتجات فاسدة
صدّام حسين حيّ في الربيع العربي
وإلى انعدام الكفاءات الطبية، يشكو أحد الأطباء العراقيين من النقص في الأدوية والإمدادات الطبية ووسائل التخدير وحتى الضمادات. صحيح أن مستشفيات جديدة شُيّدت لكن مشاكل الفساد والرشوة والبيروقراطية والتزوير بقيت سبباً رئيسياً وراء انهيار القطاع. في المقابل، اشتكت منظمة الصحة العالمية خلال الشهر الماضي من "الحاجات الصحية غير المؤمّنة للسكان المتضررين من الصراع بسبب قلة التمويل إذ يحتاج القطاع الصحي إلى 314،2 مليون دولار لم يتوافر منها سوى 30 في المئة، لتصل الفجوة التمويلية الحرجة إلى 218،7 مليون دولار".
لبنان: وجهة مكلفة لا بدّ منها
مهما كانت الأسباب، فإن الكثير من العراقيين ماتوا وكان يمكن علاجهم بتدابير بسيطة، وكثيرون ما زالوا يتخبطون بسبب افتقارهم للقدرات المادية أو للمعارف، بينما يلجأ الباقي إلى بلدان أخرى للعلاج كالهند والأردن وتركيا ولبنان.
ينقسم المرضى العراقيون في لبنان قسمين: فئة تتلقى العلاج على حساب وزارة الصحة بموجب اتفاقات رسمية بين البلدين، وأخرى على حسابها الخاص.العلاج على حساب الوزارة
عام 2008، وقعت وزارة الصحة العراقية اتفاقاً مع "مستشفى رفيق الحريري" اللبناني الحكومي. وحتى عام 2011، وهو تاريخ وقف الخدمة، استقبل المستشفى نحو 1000 مريض. وقال مساعد المدير العام بلال المصري لرصيف22 إن "المستشفى أوقفت الخدمة بسبب الظروف الداخلية التي تمر بها (إضرابات وغيرها) وأعمال إعادة التأهيل".
قدمت المستشفى الخدمات العلاجية لمصابي الحرب. 60 في المئة من المرضى كانوا من الأطفال المصابين بتشوهات خلقية ناجمة عن الظروف الصحية والأسلحة الكيميائية. كثيرة كانت الشكاوى التي جرى تناقلها بشأن فواتير وهمية وارتفاع في التكاليف، لكن المستشفى نفى ذلك باعتبار أنه خاضع لمراقبة هيئتي التفتيش اللبنانية والعراقية.
عام 2014، أُنشئت "دائرة الاستقدام والإخلاء الطبي" في وزارة الصحة العراقية، وفي أبريل منه، وقعت الوزارة اتفاقاً مع "مستشفى الجامعة الأميركية" في بيروت كي يقدّم بموجبها الخدمات الطبية للمرضى العراقيين، إضافة إلى تدريب أطباء وممرضين عراقيين. وبناء عليه، "قمنا باستقبال 100 مريض شهرياً حتى ديسمبر 2014 لكن الوضع المالي للوزارة والاقتطاع من موازنتها بسبب انخفاض أسعار النفط انعكسا انخفاضاً في عدد المرضى الذين يأتون إلى المستشفى للعلاج"، بحسب مدير الشؤون الطبية الخارجية في الجامعة عماد صادق. وأشار صادق، المسؤول عن ملف المرضى العراقيين، إلى أن المرضى المشمولين بالعلاج هم جرحى الحرب ومرضى القلب المفتوح للأطفال والمحتاجون لجراحة العظام والأعصاب وزراعة النخاع العظمي. وأضاف: "تقوم الوزارة بإرسال ملف طبي للمستشفى في بيروت. نُقيّم الحالة على أساسه ونُقدّم لهم السعر إما كحُزمة كاملة أو حسب الحالة. وقد وصل إلى الجامعة بين عامي 2014 و2015 أكثر من 850 مريضاً عراقياً، مع العلم أن تكلفة المرضى هي بمعدل مليون دولار شهرياً". وبحسب الاتفاق، يواكب المستشفى المرضى منذ وصولهم إلى المطار (المريض ومن يرافقه)، ويؤمن لهم المنامة وثلاث وجبات يومياً، وإذا تفاقمت حالة المريض يرسل المستشفى الملف إلى الوزارة التي تدرس إمكان تغطية التكاليف الإضافية. ويشكو عدد من مرضى الوزارة في لبنان من تأخر الخدمة في بعض الأحيان، ومن اضطرارهم أحياناً إلى قطع العلاج في منتصف الطريق بحجة إمكان متابعته في العراق، وهذا ما يُعرّض المريض لانتكاسة جديدة ومشاكل مضاعفة. ويرى أحد الاطباء المتابعين للملف أن ما تقوم به وزارة الصحة العراقية هو هروب إلى الأمام، فالمبالغ التي تدفع للاستشفاء الخارجي ضخمة جداً والأجدى استثمارها في تطوير القطاع الطبي في العراق، وفي تنمية الكادر البشري من الجيل الجديد الذي يتخصص في الطب.العلاج على حساب المريض
توضح الحالات الثلاث أدناه ما يعانيه المرضى العراقيون في لبنان خلال استشفائهم على نفقتهم الخاصة.
وصفي وابنته
قبل عامين، أصيبت هبة بسرطان الدم (لوكيميا). صحيح أن العلاج في العراق مجاني، لكن الخدمة كانت سيئة ونوعية العلاج رديئة. بدأت حالة هبة بالتدهور واحتاجت لزراعة النخاع العظمي، ولا وجود لهذا التخصص في العراق، فنقلها ذووها إلى لبنان. خلال خمسة أشهر في لبنان، دفعت العائلة نحو 140 ألف دولار، إلى أن تماثلت هبة للشفاء.
أخيراً أصيب والدها وصفي بالمرض ذاته. خضع في العراق للعلاج لكن حالته تدهورت، وعندما أتى به أولاده إلى لبنان اكتشفوا أن الأطباء العراقيين كانوا قد شخصوا الحالة بشكل خاطئ، وكان يأخذ علاجاً خاطئاً. بعد عشرين يوماً على وصولهم إلى لبنان، كانوا قد دفعوا 30 ألف دولار. وقال نجل وصفي إنهم اختاروا مستشفى تكاليفه باهظة لأن "السرطان لا يلعب، وفي الواقع نحن عائلة من طبقة متوسطة، بعنا ما أمكن من سيارات وغيرها، وساعدنا عمي في كندا، وما زلنا نصارع لتأمين المال بأيّة طريقة".كرار وشقيقته
قبل نحو شهر، أصيبت شقيقة كرار (24 عاماً) بالتهاب في الكلى، فبدأت بتلقي العلاج في العراق لكن حالتها تفاقمت وتورم جسدها وصارت تعاني من صعوبات في التنفس. قصدت العائلة مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت للعلاج. لم تمضِ ثلاثة أيام على وصولهم حتى كانوا قد دفعوا نحو 6500 دولار. ولكن لماذا لم تلجأ العائلة إلى وزارة الصحة العراقية؟ قال أحد أفرادها وهو من العاملين في القطاع الصحي إن العملية طويلة ومعقدة، فـ"مَن لديه واسطة أو معارف في الوزارة له الأولوية، و80 في المئة من المستفيدين من خدمات الوزارة يستندون في ذلك إلى معارفهم، أما مَن لا يعرف أحداً فعليه تقديم طلب والانتظار 4 أشهر على الأقل للحصول على جواب، والمرض لا ينتظر".
أم خالد وابنها
تشكو أم خالد من تكاليف العلاج المرتفعة في مستشفى الجامعة الأميركية. باعت منزلها واستدانت ولجأت إلى المنظمات الإنسانية لتؤمن تكاليف علاج ابنها. تشكو أيضاً من تكاليف المعيشة في لبنان. قالت: "الأكل والمنامة والمواصلات والاتصالات، كلها باهظة الثمن، وخاصة في منطقة الحمراء في بيروت حيث مقر المستشفى".
يختار العراقيون لبنان لتلقي العلاج بسبب اللغة المشتركة والتسهيلات في تأشيرة الدخول. ولكنهم، إلى الصعوبات أعلاه، يعانون من ارتفاع تكاليف الفحوص المخبرية وصفائح الدم التي يحتاجها المريض. بعضهم يعود إلى العراق لتأمين أموال إضافية فيضطر لإيقاف العلاج، وفي حالات الوفاة تبرز تكاليف نقل الجثامين التي تصل إلى ثلاثة آلاف دولار، وفقاً لمعايير الوزن. في النتيجة، يتخبّط المريض العراقي وحيداً بحثاً عن أبسط حقوقه البديهية: الصحة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 4 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...