خلال الاجتماعات الأخيرة للمعارضة السورية، في مدينة اسطنبول التركية، والتي خصصت للبحث بالمشاركة في "جنيف 2"، قيل إن القاعة اهتزت على وقع صفعة تلقاها الناطق الإعلامي باسم "الجيش الحر" لؤي المقداد، من رئيس "الائتلاف الوطني السوري" أحمد الجربا، إثر خلاف حول تمثيل الوفد الكردي داخل الائتلاف.
كانت الصفعة كافية لإظهار عمق الخلافات داخل أطياف المعارضة بين الجناحين العسكري والسياسي، أو بين مختلف الأجنحة، واشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بالتعليقات بين السخرية والاستهجان. حملت بذلك الصفعة الكثير من التأويلات حول جوهر معارضة تريد إسقاط نظام بشار الأسد، لدرجة بدت معها لغة العنف باليد أقوى من الرصاص، أو كما وصفها لؤي المقداد بالـ "تشبيح".
ليست هذه هي المرة الأولى التي تهز صفعة سياسية الاجتماعات والقاعات، ولن تكون الأخيرة. حين تغيب لغة العقل والتدبير السياسي، تحتل المشهد لغة العنف الجسدي واللفظي، وصولاً إلى لغة الرصاص.
في لبنان مثلاً، لا تزال في الذاكرة حادثةالاشتباك بالأيدي بين الرئيس رشيد الصلح والرئيس أمين الجميل (عندما كان نائباً) عام 1975 عندما استقال نصف وزارء حكومة الصلح على خلفية أحداث "بوسطة عين الرمانة". حينها رفض الرئيس الصلح الاستقالة وأصرّ على المثول أمام المجلس النيابي حيث ألقى خطاباً حمّل فيه الكتائب مسؤولية مجزرة عين الرمانة. ركض أمين الجميل خلف الرئيس الصلح الذي كان يهم بمغادرة المجلس محاولاً إرجاعه بالقوة للعودة الى القاعة لسماع رد الكتائب، وساد هرج ومرج.
كانت المشادة اللفظية والجسدية بين الجميل والصلح مرآة للمأزق الذي خلفته الحرب الأهلية في بدايتها عام 1975. كان لبنان على موعد مع لغة المتاريس والقنص والذبح على الهوية، فبدت الصفعة أمراً "لطيفاً" مقارنةً بظاهرة القتل اليومي والمجازر. ولكن إذا ما نظرنا إليها اليوم، تبدو هذه المشادة بين الجميل والصلح أقوى من معركة، بسبب بعدها "الرمزي" السلبي.
في 1998، اهتز الوسط الإعلامي والسياسي على وقع صفعة تلقاها رئيس تحرير مجلة "الشراع" اللبنانية حسن صبرا من الرئيس اللبناني (الراحل) إلياس الهراوي أثناء التعزية بوفاة والدة النائب ميشال المر في بلدة بتغرين. سبب الصفعة كانت عبارات تضمنها مقال كتبه صبرا ضد الهراوي على خلفية السجال حول الزواج المدني الذي صوت على إقراره في مجلس الوزارء اللبناني. أيد حينها الرئيس الهراوي اقرار الزواج المدني في حين اعترض عليه الرئيس الراحل رفيق الحريري ومجموعته إلى جانب رجال الدين.
تحولت الصفعة إلى مادة إعلامية سياسية في العلاقة بين أركان الحكم أو "الترويكا" كما سميت في تلك الحقبة. بدت "الصفعة" في جانب منها مجرد "قناع" صارخ لصراعات خفية بين أركان السلطة اللبنانية حول بعض المشاريع السياسية غير المتفق عليها. اللافت أن صبرا، يعتبر أن الصفعة (التي تلقاها) من “أشهر المواقفالسياسية – الإعلامية التي شهدها لبنان في تاريخه”، والغريب أيضاً أن بعض "الصحافيين" أو الكتاب اعتبروا ما فعله الرئيس الهرواي "إنجازاً" لمجرد أنهم لا يحبون صاحب "الشراع" ويعتبرون ما يكتبه استفزازاً.
حادثة صفع رئيس لصحافي أثناء تقديم واجب العزاء ربما تكون نادرة، ولكنه يبدو أمراً رائجاً في الكواليس وفي الاجتماعات السياسية، حيث يستعمل الرؤساء أحياناً لغة الصفع وحتى السلاح.
في العام 2002 ذكرت مصادر فلسطينية أن تلاسناً حاداً وقع بين الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ورئيس جهاز الأمن الوقائي في الضفة الغربية العقيد جبريل الرجوب خلال جلسة مع رؤساء الأجهزة الأمنية الفلسطينية في رام الله، وأن عرفات لطم العقيد الرجوب على وجهه وأشهر عليه مسدسه، وتخللت الملاسنة كلمات نابية. حدث ذلك على خلفية منشورات وزعت في الأراضي الفلسطينية بشأن حل "كتائب الأقصى"، وبسبب تقصير قوات الأمن الفلسطينية في منع الفتك بثلاثة فلسطينيين عقب محاكمتهم في جنين... وكأن عرفات كان يستعمل لغة الصفع والسلاح لحل الخلافات السياسية والفسادية، وكأن السلطة الفلسطينية مجرد “دكّان” كل شيء فيها تحت إمرة "الختيار".
قبل أشهر فاحت في بيروت رائحة صفعة تلقاها الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني خالد حدادة من الأمين العام السابق للحزب فاروق دحروج خلال اجتماع للحزب في مركزه في الوتوات (بيروت)، والسبب خلافات حول أمور تنظيمية ومالية داخل الحزب. كانت الصفعة (أو السحسوح) التي أتت بعد كلمات نابية، كافية لتظهر الترهل الذي أصاب الحزب الشيوعي، وقد فقد أنصاره لغة التخاطب في السنوات الأخيرة، وباتوا يعيشون على أمجاد الحنين وخردة الماضي.
إذا أردنا أن نجري جولة على الأروقة السياسية في العالم لاستطلاع لغة الصفعات، سنجد أن العديد من المجالس النيابية في العالم شهدت اشتباكات بالأيدي بين النواب، ففي العراق حصل اشتباك بالأيدي بين نائبين على خلفية صور الخميني الإيراني المنتشرة في العراق، وفي الأردن أطلق نائب النار على زميله داخل البرلمان، وفي الكويت اشتبكت مجموعة من النواب بالأيدي والعصي على خلفية جدل حول سجن غوانتانامو.
لا تقتصر ظاهرة الصفعات في البرلمان على العالم العربي، فهي حصلت في البرلمانالإيطالي والتايواني والجورجي والتركي والكوري والأوكراني والروسي. وفي النسيج الإعلامي العربي، بات بعض مقدمي برامج "التوك شو" يبحثون عن ضيوف سياسيين هم أقرب إلى الديوك، حيث يتصاعد الجدل اللفظي بينهم إلى درجة يستعملون الصفعات واللطمات وكؤوس الماء و(حتى السلاح) على الهواء مباشرة.
هذه الموضة القذرة باتت سائدة على أكثر من محطة لبنانية وعربية، أبطالها أشخاص معروفون بولائهم السياسي ودورهم، والمحنة ليست فيهم فحسب بل في من يستضيفهم ظناً منه أن أسلوبهم في "الحوار" يجذب جمهوراً. هكذا تبدو مجتمعات وأوطان تهزّها الصفعات، تكون أحياناً أشدّ من القتل، أو تبدو تمهيداً له.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 9 ساعاتHi
Apple User -
منذ 9 ساعاتHi
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 5 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا