كيف يمكن كتابة رواية كابوسية الأجواء، فيها كمّ كبير من العنف والدم والقتل، ومع ذلك تبقى قادرةً على شدّ القارئ بدلاً من تنفيره؟ أعتقد أن هذا هو التحدي الذي واجه الكاتب المصري محمد ربيع في روايته الثالثة "عطارد"، التي تنبني على فكرة فانتازية، شديدة الغرابة، إذ تفترض أن الأرض التي نعيش عليها هي الجحيم، وأن القيامة قد قامت منذ زمن بعيد، وحوسب الناس، فارتفع بعضهم إلى الجنة، وبقي البعض الآخر في الجحيم، دون أن يتذكروا ذلك.
السرد يبدأ مع مدخل افتتاحي يهيئ فيه ربيع القارئ لكل الفانتازيا القادمة، إذ يقصّ حكاية أب قتل زوجته وأطفاله، وبدأ بطبخ لحمهم وأكله، وإطعام والده العجوز منه، قبل أن تكتشف الشرطة الأمر، ويعترف الرجل بجريمته دون أدنى مقاومة، مبرراً فعلته بأنه خسر كل أمواله في البورصة. هذه الحادثة ستثير ذهن الضابط "أحمد عطارد" الشخصية الرئيسية في الرواية، إذ ترد صور مستقبلية إلى رأسه، فيرى نفسه وقد قتل زوجته وطفلتيه، ثم قتل أشخاصاً آخرين كثراً. "لم أعلم أبداً لم كنت واثقاً إلى هذا الحد أني سأقتلهم قريباً، وأني سوف أغيّر مصيرهم إلى مصير أفضل ولو كان موتاً. ثم رأيت أني سأقتل الكثيرين، وأن عدداً هائلاً من الناس سيُقتلون لكني لن أشترك في قتلهم، ورأيت أن الناس ستقتل أبناءها وستأكل لحومهم، ورأيت أن الرجل القاعد يأكل الطعام ويتفرّج على التلفزيون قد حطم آخر الأختام وأطلق العنان لكل ما سيحدث".
هذه الرؤية، إضافة إلى إشارات سريعة حول فقدان الأمل، ستكون مفاتيح الرواية التي تقوم على ثلاث حبكات تتقاطع إن في شخصياتها، أو في الأفكار التي ترمي إليها: الحبكة الأولى وتجري أحداثها عام 2025، القاهرة تحت احتلال أجنبي من قبل جيش فرسان مالطا، وهي مقسومة إلى غربية وشرقية، والناس مستسلمون ومتقبّلون الاحتلال، في حين رفض قسم من ضباط الشرطة هذا الاحتلال فشكّلوا فريق مقاومة لمحاربته.
يرسم الكاتب القاهرة كما يتخيّلها بعد الاحتلال وكيف يعيش الناس فيها، مستخدماً أقصى الخيال الممكن في رصد ملامح المدينة، والتغيّرات التي طرأت عليها، وعلى حياة الناس الذين يتنقلون في أنفاق بين شطري القاهرة، ويرتدون أقنعة على شكل شخصيات مشهورة، ويدخنون مخدر "الكربون" المصنّع من الحشرات. ويتبادل رجال المقاومة الرسائل المشفّرة عبر أجهزة غريبة لها أشكال حشرات طائرة.
يكون "أحمد عطارد" بطل العمل واحداً من قناصة المقاومة التي تهدف إلى قتل جنود الاحتلال، كما قتل الناس المتعاونين معهم، وفي مرحلة لاحقة يصبح هدفهم قتل أي شخص مصري لحضّ الناس على الثورة ضد الاحتلال.
ومن خلال نقاشات هؤلاء الضباط يوضّح ربيع كيفية تفكيرهم والآلية التي يعملون وفقها، متطرقاً إلى أحداث ثورة يناير 2011، وأحداث 2013، وغيرها من الأحداث المتخيّلة، التي يعري من خلالها منطق رجال الشرطة وعنفهم، وعنف كل الساكتين عن جرائمهم، "ما تلا ذلك كان عملاً بطولياً من النيابة، نعم استخدمنا الرصاص الحيّ لكن أحداً لم يتحرك ليُدين فرداً واحداً منا، في ذلك اليوم فعلنا كل ما نريد، ونجحنا في تطويع الناس إلى الأبد. وبعد سبتمبر 2019 تأكدت أن أحدنا لن يحاكم أبداً إذا قتل مواطناً في أحداث شغب".
غير أن حديث الرواية عن الثورة لا يتوقف هنا، فالحبكة الثانية التي تسير الحبكة الأولى على جانبيها وتتشابك معها في القسم الأخير من الرواية، تجري في عام 2011، إذ يجد المدرّس "إنسال" نفسه متورطاً مع طفلة صغيرة "زهرة" اختفى والدها دون أي أثر، فيبدأ رحلة البحث عنه بين جثث قتلى التظاهرات، في المشافي والثلاجات. هكذا تحضر ثورة يناير كخلفية عامة لقصة "زهرة"، التي تصاب بمرض غريب، فتبدأ معه حواسها بالاختفاء، ينطبق الجلد أولاً حول فمها، ثم يمتد ليغطي عينيها وأذنيها وأنفها. يرد ذكر هذا المرض في عام 2025 مرة أخرى، إذ يرد أن الحالة عادت للانتشار. لا يذكر الكاتب تبريرات أو تفسيرات لهذا المرض الغريب، يتركه مفتوحاً لتأويل كل قارئ، هل فقد الإنسان حواسه وإحساسه أمام كمّ العنف والقتل المجاني؟ هل تختلف "زهرة" التي فقدت القدرة على الرؤية وعلى الكلام وعلى السمع عن أي شخص ما زالت حواسه سليمة، لكنه يصمت أمام ما يراه وما يسمعه من قتل وخراب؟ وغيرها من التساؤلات التي قد تختلف بين شخص وآخر.
الحبكة الفرعية الثالثة التي هي حبكة صغيرة تعطي الرواية بعداً تاريخياً، وتؤكد على فكرتها الأساسية، تجري عام 455 هـ، وهي عن "صخر الخزرجي" الذي مات ثم بُعث من جديد ليقول للناس إنهم يعيشون في الجحيم، "هذا جحيمكم. لا يزال طويلاً. سنوات كثيرة قادمة أكثر هولاً مما رأيتم. وينتهي جحيم ليتلوه جحيم كما سبقه جحيم. وتمر عليكم بعدي سبع سنوات مظلمات يموت فيها كل شيء وأنتم تنظرون. وثم تجوعون فتأكلون جيف الكلاب. ثم تموتون فتأكلون جثامينكم. ثم تيأسون فتأكلون أبناءكم. ويوضع الأمل في قلوبكم. ولا أمل. فالأمل عذابكم".
يدرك "عطارد" من خلال الكثير من الإشارات هذه الحقيقة، فيستمر في قتل الناس لتخليصهم من الجحيم، بعد أن يدرك أنه خالد في الجحيم، وأنه ابن الجحيم.
هكذا، يكتب ربيع ما يشبه مرثيةً للأمل، وهجاءً للصمت أمام العنف، وتخيّلاً لجحيمٍ مستمرٍ نعيش فيه، ضمن فانتازيا سياسية امتلكت كل مقومات التفرد والإبداع، ابتداءً بخيال صاحبها الهائل، ومروراً بلغته التي جاءت مناسبة تماماً لموضوعه، وانتهاءً بقدرته على إثارة ذهن القارئ بكثير من التساؤلات والتأملات.
محمد ربيع روائي مصري من مواليد 1978، درس الهندسة، وعمل في مجالها قبل أن يعمل محرراً في دار التنوير. أصدر ثلاث روايات: "كوكب عنبر" التي حصلت على جائزة ساويرس عام 2011، "عام التنين"، و"عطارد".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين