شارع بيوته متشابكة في سلسلة طويلة، يحتضن حكايات القاطنين فيه ويكتم أسرار عشقهم، هذا هو المكان الذي اختارته "بدرية البشر" ليكون مسرحاً لأحداث روايتها، وشاهداً على التطورات والتحولات التي طرأت على المجتمع السعودي في السبعينيات، مختصرة عبر صفحات سردها تاريخاً حافلاً بالمتغيّرات. "ينفتح بطن الوادي على شارع أسفلتي طويل تسمّى باسم شاعر جاهليّ قديم، ولد وعاش ومات هنا منذ زمن طويل، إسمه الأعشى. (...) تتشابك البيوت في سلسلة طويلة يتصل بعضها ببعض مثل رفاق يتشاركون سراً".
تصوّر الكاتبة علاقات الحب التي تجمع بين شباب الحيّ وفتياته، بلسان "عزيزة" بطلة الرواية، التي تراقب الجو لأختها "عواطف" بينما تتحدث الأخيرة مع "سعد" ابن الجيران على "السطح". هذا السطح لا يصبح مكاناً للقاء فقط، بل أيضاً مركزاً يكشف لعزيزة كل العلاقات الغرامية التي تجري في البيوت المقابلة، حيث العلاقات مشوبة بالخوف والحذر في ظل مجتمع محافظ.
تروي البطلة المولعة بالأفلام المصرية، كيف بدأت تتغير بنية المجتمع وطبيعة الحياة فيه، وكيف تحوّل الناس إلى التشدد والانغلاق. التغيُّر الذي تؤرخ له الروائية بدخول التلفزيون الملون والراديو ثم الهاتف إلى البيوت، يليه تغيّر في الناس. "سعد" يصبح متشدداً، يطلب من "عواطف" ألا تستمع إلى الأغنيات وألا تشاهد التلفزيون، وبيت العائلة يصبح كئيباً، بعد أن كان يضج بأصوات أغنيات نجاة الصغيرة وفيروز.
"ما عاد أبي يسمع الراديو كثيراً كما في الماضي. اختفى صوت القاهرة وصوت لندن وحلّت محلهما إذاعتنا المحلية التي ترسل برامج منوعات محلية دون موسيقى ودون صوت امرأة. (...) صار التلفزيون فارغاً إلا من سهرات مسرحية باردة أو برامج وثائقية واحتفالات رسمية".
يتسع التشدد ويتصاعد، خصوصاً بعد سكوت النظام الحاكم وعدم اتخاذه لتدابير وقائية للحد من مظاهر التطرف، فينتهي الأمر بسعد مشتركاً مع جماعة "جهيمان" في احتلال المسجد الحرام واحتجاز المصلين فيه، وهي حادثة حقيقية جرت في 1979، استفادت منها الكاتبة ووظفتها روائياً.
تقدّم "البشر" صورة مختلفة عن الفكرة السائدة عن المرأة السعودية، فهي ليست المرأة الخانعة، بل القوية المكافحة، التي تناضل لتحقيق أهدافها. يبرز ذلك من خلال أكثر من شخصية، فـ"وضحى"، امرأة بدوية تأتي إلى الرياض مع أولادها، تعمل في السوق وتعيلهم إلى أن يكبروا، وتصبح سيدة ذات شأن، و"عطوى" تهرب من جور زوج أمها، وتبدأ حياة جديدة تعتمد فيها على نفسها. هناك أيضاً "مزنة" التي تتمرد على أهلها بعد رفضهم لزواجها من شاب فلسطيني الأصل، بذريعة عدم اختلاط الأنساب، فتحاول بشتى الوسائل تحقيق ما أرادت.
على الطرف المقابل، ترصد الكاتبة نماذج ذكورية في المجتمع العربي، موضحة سيطرة العقل الذكوري، والرضوخ أمام سلطة العادات والتقاليد. يبدو ذلك جلياً في شخصيتي "إبراهيم" شقيق عزيزة، والطبيب المصري "أحمد"، فالأول هو الشخص المنفتح والذي درس في مصر وأغرم بفتاة مصرية، لكنه يتغيّر عند عودته بموازاة التغيّرات الحاصلة في المجتمع، فينحو نحو الانغلاق وحراسة المعتقدات والعادات. أما الطبيب المصري، فتنشأ بينه وبين البطلة قصة حب، بعد أن تصاب عيناها إثر ليلة محملة بالغبار، فتزور عيادته وتغرم بصوته الذي يشبه صوت ممثلي الأفلام المصرية التي تحبها: "شعرت بالطبيب وهو ينهض من مكانه، لكني لم أتمكن من رؤية وجهه، فقط صوته الذي راح يحوم فوق رأسي مثل أغنية مصرية في فيلم سهرة خميس. (...) التقطت الحنان الذي يرشح في صوته، فلأول مرة أقابل رجلاً رقيقاً ودافئاً يسألني ويصغي إلى أجوبتي". تتطور علاقة الحب بين الإثنين، فتحاول عزيزة ابتكار حلول سينمائية لتتزوج به، وهي تعرف أن عائلتها سترفض زواجها من رجل مصري، لكنه يفاجئها بواقعيته وعدم قدرته على تخطي عادات المجتمع وتقاليده.
تنتقل الروائية بين خطوط روايتها الكثيرة والمتشعبة بانسيابية، تطرح الكثير من الإشكالات والقضايا، تختصر تاريخاً كاملاً، تقدم نماذج مختلفة، وكل ذلك عبر سرد سريع مكثف تتناسل عبره الحكايات، فتغدو الرواية صورة بانورامية لمجتمع بأكمله.
بدرية البشر كاتبة سعودية، مواليد الرياض (1967)، بدأت الكتابة منذ سن العاشرة. حائزة على درجة الماجستير في فلسفة الآداب من جامعة الملك سعود في الرياض، ودرجة الدكتوراه في فلسفة الآداب، علم الاجتماع، من الجامعة اللبنانية في بيروت، عام 2005، عن دراستها: "العولمة في مجتمعات الخليج العربي، دراسة مقارنة بين دبي والرياض".
كتبت في مجموعة من الصحف العربية، منها "مجلة اليمامة"، جريدة "الرياض"، جريدة "الشرق الأوسط"، ولها حالياً عمود شبه يومي في جريدة "الحياة" السعودية، نالت عنه جائزة الصحافة العربية في دبي، عام 2011، عن فئة أفضل عمود صحفي.
لها ثلاث مجموعات قصصية، هي "نهاية اللعبة"، "مساء الأربعاء"، "حبة الهال"، ولها أيضاً مجموعة من المؤلفات الأخرى "معارك طاش ما طاش: قراءة في ذهنية التحريم في المجتمع السعودي"، "نجد قبل النفط: دراسة سوسيولوجية تحليلية للحكايات الشعبية"، و"تزوّج سعودية".
كتبت ثلاث روايات هي "الأرجوحة"، "هند والعسكر"، ثم "غراميات شارع الأعشى" التي اختيرت ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية 2014.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...