شهدت الإسكندرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى خمسينيات القرن العشرين عيشاً مشتركاً بين الطوائف العرقية والدينية في المجتمع، فأقام في هذه المدينة اليهود والأرمن والإيطاليون واليونانيون وغيرهم، وأوجدت تلك التعددية حالة من الاندماج الفكري والانتعاش الثقافي في المدينة، فأصبحت الإسكندرية مسرحاً لجذب الفنون المختلفة، وأرضاً خصبة للإنتاج الفني والثقافي. وشهدت المدينة عام 1896 ثاني عرض عالمي للاختراع الجديد في ذلك الوقت: السينما، كما أنشئ فيها أول صالة عرض في مصر وشركة إنتاج وستوديو تصوير ومعهد لتعليم هذا الفن الجديد، لتغدو الإسكندرية في سنوات قليلة عاصمة السينما في الشرق الأوسط. من بين مؤسسي ومطوري هذه الصناعة، المخرج اليهودي الإيطالي الأصل توجو مزراحي الذي يعد أحد أعمدة صناعة السينما في مصر ومكتشف المواهب الفنية التي أصبحت رموزاً كبيرة للفن في مصر والعالم العربي حتى وقتنا هذا.
تِتر البداية
ولد توجو مزراحي في 2 يونيو عام 1901 لأسرة مصرية من أصل إيطالي كانت من أغنى عائلات يهود الإسكندرية في فترة العشرينيات، إذ كان يعمل والده وأعمامه في تجارة القطن، وكان والده مديراً للشركة الجمركية للمستودعات التجارية. في سن السابعة عشرة، أثناء مرحلة تعليمه الجامعي، التحق توجو بالعمل في شركة والده محاسباً، وأكمل دراسته وحصل على دبلوم في التجارة وتم تعينه موظفاً في الشركة الكبرى للأقطان بالإسكندرية. وفي العشرين من عمره (عام )1921 ترك توجو العمل نهائياً وسافر إلى إيطاليا لاستكمال تعليمه بناء على رغبة والديه، آملين في عودته لتوسيع تجارة العائلة، ثم انتقل إلى فرنسا وحصل على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد.
أثناء إقامته في باريس، تمكن من زيارة واحد من أشهر ستوديوهات السينما في فرنسا وهو "ستوديو جومون"، حيث شاهد تصوير العديد من الأفلام الفرنسية، وتابع عملية سير إنتاج الأفلام السينمائية. بين أروقة ستوديوهات باريس وجد توجو مزراحي حلمه في العمل بصناعة السينما، فقرر أن يتخلى عن العمل التجاري ويتفرغ تماماً لدراسة السينما. شارك ككومبارس في العديد من الأفلام ولعب بعض الأدوار الثانوية، وكان يقضي في الستوديوهات والبلاتوهات ساعات طويلة حتى أصبح ملماً بكل تفاصيل المهنة من إخراج ومونتاج وديكور ومكياج وموسيقى تصويرية وغيرها من مفردات صناعة السينما.
اشترى كذلك كاميرا تصوير حديثة في ذلك الوقت، وتمكن من تصوير بعض الأفلام القصيرة عن معالم باريس وروما، تعاقدت معه "الشركة السينمائية العالمية" في باريس على شراءها وتسويقها. بذلك، يعد توجو مزراحي أول مصري درس وتعلم صناعة السينما في الخارج. وبعد 8 سنوات من التعلم في باريس، قرر العودة إلى مصر عام 1928 ناقلاً خبرته السينمائية إلى الإسكندرية، فقام بإنشاء أول ستوديو سينمائي خاص به ويحمل اسمه "ستوديو توجو" لإنتاج الأفلام الروائية الطويلة، في حي باكوس، (مكانه الآن "سينما ليلى") وجهزه بالمعدات اللازمة من ديكورات وإضاءة وأعمال المونتاج وغرف للممثلين وغيرها.
صورة من داخل ستوديو توجو - ظهرت في الفيلم الوثائقي "تلك الإسكندرية"
وبدأ العرض
يعد فيلم "الهاوية" أول فيلم روائي طويل (صامت) من إخراج وإنتاج ستوديو توجو. عرض لأول مرة في دور العرض السينمائية في الإسكندرية في 25 نوفمبر عام 1930، ثم بعد ثلاثة أشهر في القاهرة تحت عنوان "الكوكايين". وقد قام توجو ببطولة الفيلم باسم مستعار "أحمد المشرقي" خوفاً من غضب عائلته التي كانت تطمح إلى أن يستمر في العمل التجاري، وشاركه في بطولة الفيلم الممثل "شالوم" واسمه الأصلي "ليو انجل". حقق الفيلم نجاحاً كبيراً أثناء عرضه في القاهرة ولاقى استحسان الحكومة المصرية، إذ أرسل له حكمدار القاهرة الإنجليزى "رسل باشا" خطاب شكر عن صناعة هذا الفيلم الذي يعالج قضية اجتماعية كبيرة هي الإدمان، وفي عام 1934 أصبح فيلم "الكوكايين" ناطقاً ومصحوباً بالموسيقى التصويرية.
الظهور الأول للشخصية اليهودية في السينما
في عام 1932، أنتج توجو مزراحي فيلمه الثاني "خمسة آلاف وواحد" الذي شارك في بطولته مع الممثل "شالوم". ستظهر شخصية شالوم الكوميدية التي قدمها مزراحي في هذا الفيلم في العديد من الأعمال السينمائية لاحقاً، وهي تعد أول حضور قوي للشخصية اليهودية في السينما المصرية، وتعكس حياة اليهود في مصر من خلال مواقف كوميدية تتعرض لها الشخصية، مؤكدةً على اندماج اليهود في المجتمع المصري في ذلك الوقت. أنتج توجو وأخرج عدة أفلام تعتمد على الشخصية نفسها، ومن بينها "شالوم الترجمان" وفيلم "العز بهدلة" وفيلم "شالوم الرياضى" عام 1937.
مكتشف أول ثنائي كوميدي في السينما المصرية
يعتبر توجو مزراحي أول من جلب فكرة الثنائيات إلى السينما المصرية، من خلال أشهر فناني الكوميديا في تلك الفترة "فوزي الجزايرلي" المشهور بدور "المعلم بحبح" وزوجته "أم أحمد" التي لعبت دورها "إحسان الجزايرلي" في فيلم "المندوبان" عام 1934، وقد حقق الفيلم نجاحاً كبيراً لم يتوقعه توجو مزراحي شخصياً، فقدم للثنائي الكوميدي فيلمين آخرين عام 1935 هما "الدكتور فرحات" و"البحار".
واصل مزراحي سلسلة نجاحاته من خلال تعاونه مع الممثل الكوميدي "علي الكسار"، إذ أخرج له مزراحي تسعة أفلام تتصف بحس الفكاهة وهما "ميت ألف جنية" و"غفير الدرك" عام 1936، و"الساعة سبعة" عام 1937، وفيلم "التيليغراف" عام 1938، و"عثمان وعلي" عام 1939، و"ألف ليلة وليلة" عام 1941، و"علي بابا والأربعين حرامي" عام 1942، و"نور الدين والبحارة الثلاثة" عام 1944، وقد استلهمت آخر ثلاثة أفلام من التراث العربى ولكن بنكهة مصرية، إذ أضاف إليها علي الكسار حس الكوميديا الساخر معتمداً على شخصية سيئة الحظ.مكتشف ليلى مراد
عام 1939، مع بداية الحرب العالمية الثانية، انتقل "مزراحي" إلى القاهرة واشترى ستوديو "وهبي" في شارع حسني بميدان الجيزة خلف سينما "الفنتازيو"، وسماه ستوديو "الجيزة" مع الاحتفاظ بستوديو توجو في الإسكندرية. أسس "شركة الأفلام المصرية" واتخذ علم مصر شعارًا لها. يعد ستوديو الجيزة من أكبر الستوديوهات السينمائية في تلك الفترة، إذ أضاف إليه "مزراحي" غرف صناعة السينما، وغرفاً للممثلين، وغرفاً خاصة بالإنتاج والديكور والمكياج والصوت، بالإضافة إلى قاعة لاستقبال الضيوف.
في العام نفسه، اكتشف مزراحي الفنانة "ليلى مراد" التي تعد أحد رموز الفن السينمائي والموسيقي في العالم العربي حتى وقتنا الحالي، وقدمها للجمهور في فيلم "ليلة ممطرة" مع الفنان يوسف وهبي، كما أخرج لها أربعة أفلام أخرى، هي "ليلى بنت الريف" و"ليلى بنت المدارس" عام 1941، و"ليلى" عام 1942 و"ليلى في الظلام" عام 1944، وتعتبر تلك الأفلام بصمات فنية مميزة في بداية مسيرة الفنانة ليلى مراد، إذ فتح لها توجو مزراحي أبواب النجومية لتواصل سلسلة من النجاحات في مسيرتها السينمائية والغنائية.
محطات
من ضمن المحطات الناجحة في مسيرة توجو مزراحي إخراجه وإنتاج أربعة أفلام يونانية للجالية اليونانية في مصر، إذ كانت تعد من أكبر الجاليات في مطلع القرن العشرين حتى الخمسينيات، وكانت تقام العروض الفنية اليونانية على المسارح المصرية وتكثر الأنشطة والمهرجانات الثقافية اليونانية في الإسكندرية تحديداً. التقى توجو إحدى الفرق اليونانية المشهورة في تلك الفترة وتعاقد معها على إنتاج وإخراج فيلم طبق الأصل لفيلم "الدكتور فرحات" الذي أنتجه عام 1935 ناطقاً باللغة اليونانية وتم عرضه في اليونان عام 1937 ولاقى نجاحاً كبيراً.
وعام 1945، أخرج وأنتج مزراحي فيلم "سلامة" لسيدة الغناء العربي "أم كلثوم" وشاركها في البطولة "يحيي شاهين" و"زوز نبيل" و"استيفان روستي" و"عبد الوارث عسر". يعد "سلامة" أول فيلم تاريخي قام بإخراجه مزارحي، وتدور حوادثه في فترة الدولة الأموية، وعرض يوم 9 أبريل 1945 في سينما ستوديو مصر. ومع قرب نهاية حياته المهنية، أنتج مزراحي الكثير من الأفلام للعديد من المخرجين الشباب الواعدين في تلك الفترة، منها ثلاثة أفلام من إخراج "يوسف وهبي" وهي "ابن الحداد" عام 1944 وفيلم "الفنان العظيم" عام 1945 وفيلم "يد الله" عام 1946، كما أنتج للمخرج "نيازي مصطفى" فيلم "شارع محمد علي" عام 1944 وفيلم "ملكة جمال" عام 1946، وللمخرج "حسين فوزي" فيلم "اكسبريس الحب" عام 1946 بطولة "صباح" وفؤاد جعفر، الذي عرض في ديسمبر 1946 بسينما كوزمو ويعد آخر فيلم قام توجو بإنتاجه.
تِتر النهاية
اختفى توجو مزراحي من عالم السينما تدريجياً ابتداءً من عام 1946 ثم هاجر إلى إيطاليا عام 1949 بعد إعلان تأسيس دولة اسرائيل، إذ طالته أصابع الاتهام بالصهيونية. فضل أن يهاجر إلى البلد التي انحدر منها أجداده، وظل اسمه على مدار 40 سنة بين حضور وغياب، إذ كانت تنشر أخبار متقطعة عن عودته من روما واستعداده لمشاريع سينمائية جديدة. استمر بالعمل السينمائي في روما، ولم تنقطع علاقته بمصر إذ اشترك في مجلة المصور والكواكب لمتابعة الحركة السياسية والفنية فيها، وذلك بالرغم من صعوبة تحويل اشتراكات المجلات في ذلك الوقت إلى مصر، إلا أن "جورج بهنا" (أحد منتجي السينما) ساعده في ذلك. تعرض توجو في الستينيات لمشاكل صحية فانقطع عن العمل في مجال السينما تماماً، قبل أن يتوفى في 5 يونيو 1986 تاركاً بصمات لا تمحى من تاريخ وصناعة السينما المصرية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه