كيف أكتب عن الثوب السوداني (ونلفظه بالتاء، أي توب، في اللهجة السودانية)، أنا الفتاة التي لا ترتديه ولو من باب الفضول. أحبّه عن بعد كما قد تحب أي سيدة صيحة موضة لا تلائم شخصيتها لكنها تليق بالأخريات. يعجبني حين ترتديه أمي بمزاجها الذي ينتقي درجات الباستيل. يلفتني الثوب ويسحرني على من تجيد الحركة به كما تفعل بيونسيه وهي ترقص بالكعب العالي، وأفكر عند رؤية من ترتدي ثوبًا من الحرير الخالص، كيف تحافظ على توازنه عند كتفيها وتمشي بخيلاء ودلال. توجد "ثياب" كثيرة حولي لكني لم أرتدِ أياً منها للتجربة إطلاقاً.
لست مضطرة لارتداء الثوب كعازبة، بل إن المجتمع يرفض رؤيتي به إلا في نطاق فعالية ثقافية مثلًا. أتساءل، ترى بعد الزواج هل سيليق بي؟ هذا الشهر سأرتدي "الثوب" لأشارك في مارس الأبيض.
رمزيّة الثوب الأبيض المتنوعة
لم أكن في البلاد في صغري، لذا فالمعلمات لسن جزءاً من ذكرياتي، وفقاً لصديقتي ابنة مديرة مدرسة، والدتها تخصص رفاً كاملاً في خزانتها لثياب العمل، تشكيلة من الخامات المختلفة التي تتشارك في كونها مريحة وبيضاء.
أول رمزية إذن هي المعلمات، الأبيض هنا هو القدوة الملهمة. ثانياً: المرأة العاملة، وهذا يرتبط بالماضي، في صور الخرطوم التاريخية، مع بداية الحركة النسوية ودخول المرأة مملكة الرجال. اليوم تُحصر الثياب البيضاء في مظهر موظفات القطاع العام من جيل الستينات وما قبله.
ثالثاً، الأرملة. يظهر الأبيض بقوة وبلا جدال عند وفاة الزوج، إنه رمز حداد الأرامل. لذلك يشبه الجدات وشابات يتمسكن بترملهن بعناد لن يتوقف عند شهور العدة بل سيصبح هو اللون الوحيد في الخزانة، إن شاءت. لذلك يكره البعض الثوب الأبيض الحزين لأنه يرتبط في حياتهم بالموت. آخر رمزية للأبيض هي ارتباطه بالحزب الجمهوري.
فعاليّة الثياب البيضاء
ظهرت الدعوة في مواقع الشبكات الاجتماعية،من مصدر مجهول خوفاً من دولة بوليسية تزرع المخبرين في الطرقات والمكاتب والأحياء. الدعوة تقول "ارتدِ الثوب الأبيض في مارس"، لم تحدد يوماً ولم تحمل تفاصيل.
في البدء دارت مغالطة مملة، قيل لماذا "الثوب"، إننا بذلك نعزل إثنيات السودان المتنوعة، فالأزياء التقليدية لا تقتصر عليه! لماذا ليس "جرجار" النوبة؟ حيث اتُهمت الدعوة بالعنصرية. حسناً الأغلبية ترتدي الثوب. فإن كان يجمعنا، فلمَ نبحث عما يميز وفي الحالة الثورية يفرق؟
التساؤل الأبرز عقب قراءة نص الدعوة الغامض، هو عن إمكانية الركض بالثوب كرد فعل أساسي في عملية التظاهر التي تتحول لمطاردة من قبل قوات الأمن. وهنا اتهم المحتجون أصحاب الدعوة بعدم مراعاة الوضع الخاص للمتظاهرة في الشارع.
غالب الظن أن الفعالية المطلوبة ليست ارتداء الثوب أثناء لحظات السير في المواكب المطالبة بإسقاط النظام، كما فعل أعضاء الحزب الجمهوري في مسيرتهم التاريخية عام 1985 ضد محاكم الطوارئ في عهد الدكتاتور الأسبق جعفر نميري. يومها ارتدت نساء الحزب الثوب الأبيض وارتدى الرجال الجلابية.
جامعة الأحفاد للبنات والثوب الأبيض
تصدرت طالبات جامعة الأحفاد للبنات، رائدة النسوية ودعاة حقوق المرأة، المشهد بتخصيص ثاني أيام الشهر لبدء مارس الأبيض. تنافست الفتيات في مزج الحداثة بالتراث.
أتابع الصور تتوالى على تويتر، كما لو كنت خبيرة في الموضة أو التراث، أعلق عليها:
مع حذاء رياضي، هذا سيثير حفيظة الجدات.. مع نظارة شمسية سوداء، مثير الاهتمام.. الثوب الأبيض المتروك على الكتف مبرزًا الشعر وتصفيفته، جميل جداً.. ثياب بيضاء مع شعر مرسل يختلف عن صور أمي وخالاتي في الستينات من القرن الماضي إذ كن يرفعن شعورهن بالطريقة الأفرنجية أو كما شاهدت في صور أخرى يُجدل الشعر في ضفائر. الصورة التي صدمتني لكنني أخشى الإفراط في انتقادها هي لطالبة ترتدي الثوب مع نقاب أسود! لا أدري هل أغضب من عقلها المغلف بالأفكار الوهابية كما يبدو أم أسعد بقلبها الذي اختار الثورة ورفض حكم الإخوان المسلمين!؟
لنتابع الجولة مع مقاطع مصوّرة، ألتفت الطالبات في حلقة كبيرة حول صوت إحداهن وآلات موسيقية من عود وكمان وشاب يعزف الجيتار، غنت المجموعة كلها للوطن.
مشاركات متنوعة
شاركت الفتيات من منازلهن باستعارة ثوب أبيض من أمهاتهن. قد يتوافر الثوب الأبيض بكثرة في منزل به معلمة أو موظفة في المعاش أو امرأة في الستين من عمرها، وقد لا يوجد إطلاقاً في بيوت كثيرة، وهذا يؤكد رمزيته التى ذكرتها أعلاه، بأنه ليس "ثوباً" عادياً، وحتما بعد هذا الشهر سيكتسب نكهة تجعلة يغزو كل الخزانات في السودان.
المشاركة المثيرة للجدل أتت من أحمد عمر، فنان تشكيلي يعيش في النرويج ويعرّف نفسه كحر الجنسانية gender fluid. أود لو كانت ردود الفعل على جرأة أحمد عمر تتسق مع دعوات الحرية في السودان، وهتافات "حرية وسلام وعدالة"، وهنا موضع النقد لردود الفعل، لأنه للأسف، رأى الكثيرون أن حريتك ليست ضمن طلبات الجماهير.
في البدء دارت مغالطة مملة، قيل لماذا "الثوب"، إننا بذلك نعزل إثنيات السودان المتنوعة، فالأزياء التقليدية لا تقتصر عليه! لماذا ليس "جرجار" النوبة؟ حيث اتُهمت الدعوة بالعنصرية. حسناً الأغلبية ترتدي الثوب. فإن كان يجمعنا، فلمَ نبحث عما يميز وفي الحالة الثورية يفرق؟
التساؤل الأبرز عقب قراءة نص الدعوة الغامض، هو عن إمكانية الركض بالثوب كرد فعل أساسي في عملية التظاهر التي تتحول لمطاردة من قبل قوات الأمن. وهنا اتهم المحتجون أصحاب الدعوة بعدم مراعاة الوضع الخاص للمتظاهرة في الشارع.
شاركت الفتيات من منازلهن باستعارة ثوب أبيض من أمهاتهن. قد يتوافر الثوب الأبيض بكثرة في منزل به معلمة أو موظفة في المعاش أو امرأة في الستين من عمرها، وقد لا يوجد إطلاقاً في بيوت كثيرة، وهذا يؤكد بأنه ليس "ثوباً عادياً".
لماذا تهمني هذه الفعاليّة؟
مظهر المرأة أمر محوري في علاقتنا مع السلطة. ما قامت به الحكومة على مدى ثلاثين عاماً من قمع الحرية الشخصية للنساء واستبداله بعداء لكل ما هو أنثوي يعد أمرًا يستحق الدراسة. أعلم يقينًا أنهم وإن رحلوا فعقلية المواطن ستظل لوقت طويل تنظر للمرأة كعورة، لن ادعي أن حكومة البشير وجدت مجتمعنا منفتحاً فهذه خرافة يرددها الحالمون، الريف السوداني محافظ وله شروط حشمة قبل البشير.
الفرق الشاسع بين طالبات جامعة الخرطوم في بداية الثمانينات وفي الألفية الثالثة، وهي نفس الطبقة الاجتماعية لكن قبل 1989 (انقلاب البشير) كانت التنورة أقصر والحجاب اختيارياً، وبعده صار غطاء الرأس ضرورة حياتية، وشرطاً لدخول الحرم الجامعي وللقبول المجتمعي.
في عصر قانون النظام العام الذي حوكمت فيه نسوة لارتداء البنطال، ووصفت الأزياء حسب مزاج العساكر بخدش الحياء، علينا أن نرتدي أي شيء نريد احتجاجاً. وإن كانت حركة نسوية كـ FEMEN تتعري للفتّ النظر، فالمرأة السودانية اختارت زيها القومي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ اسبوعينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...