شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"بماذا يؤمن من لا يؤمن"... أو دعونا نتحاور فلسطينياً بمعطيات علمية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأحد 16 فبراير 202512:24 م

الجملة الأولى في العنوان أعلاه مأخوذة من عنوان لكتاب حواري بين رئيس أساقفة ميلانو الأسبق، الكاردينال كارلو مارتيني، والروائي الإيطالي وأستاذ التاريخ أمبرتو إيكو. هذا الكتاب عبارة عن رسائل متبادلة بين الروائي الملحد والكاردينال الذي يمثل مشيئة الرب، وذلك في جو من الاعتراف والاحترام المتبادل، والغوص في عمق القضايا الخلافية بين الطرفين المتحاورين، وما يمثلانه من إرث فكري ورؤية استشرافية، ليس من أجل أن يهزم أحدهما الآخر وأن يبرهن على زيف ادعائه، بل من أجل محاولة الوصول إلى الحقيقة، أو على الأقل الاقتراب منها.

تنبع أهمية الكتاب، إضافة إلى موضوعه والقضايا التي يتناولها، من كون محتواه كان متاحاً للقراء قبل أن يصدر في كتاب، فهو عبارة عن مراسلات علنية، بين الاثنين، على صفحات مجلة ليبيرال، في العام 1995، بحيث يطرح أحدهما مجموعة من الأسئلة في مقال، تاركاً للآخر حرية الرد في مقال منفصل، وهكذا. ثمة أهمية إضافية تخصنا نحن الفلسطينيين، ويمكن إدراكها بالمقارنة، أي بمقارنة الحوار في المجتمعات "المتقدمة" التي نشتمها ليل نهار، ومجتمعنا الذي يعاني من كل الكوارث التي تستدعي حواراً حقيقياً بين شرائحه ونخبه ومثقفيه.

بما تتميز الحوارات أو حتى الكتابات التي حظيت بها صفحات الجرائد، والمواقع الإلكترونية، ومواقع التواصل الاجتماعي، على مدار شهور هذه الحرب الكارثية؟ هذا إن أمكننا إطلاق مسمى الحوارات عليها

لكن لو تتبعنا الحوارات أو حتى الكتابات التي حظيت بها صفحات الجرائد، والمواقع الإلكترونية، ومواقع التواصل الاجتماعي، على مدار شهور هذه الحرب الكارثية، هذا إن أمكننا إطلاق مسمى الحوارات عليها، لوجدنا أنها تتميز بالتالي:

أولاً، الجُبن في تعريف الآخر، أو للدقة: الحكي إلك واسمعوا يا كل الجارات. ففي معظم الكتابات الموجهة إلى الآخر أو الناقدة لرأيه، لا يتم ذكر هذا الآخر ولا موضوع الحوار بشكل صريح، بل بالتلميح السطحي، أي بطريقة "قال أحدهم بما معناه.."، وهنا فإن الجميع يعتقد أنه المعني بالكلام إلا المعني نفسه، والذي قد لا ينتبه أصلاً، وإذا انتبه ففي غالب الحالات نجده موافقاً على كلام خصمه الافتراضي.

ثانياً، صناعة خصم سهل المهاجمة، وهذا النمط من الكتابة يبرع فيه مَن لهم باع طويل في تصدير مقال الرأي. لا يكتفي هذا الشخص بوضع رأيك على الطاولة ونقده أو محاورته، بل يضيف لك ولرأيك كل موبقات الآخرين المفترضين. فإذا طالبتَ مثلاً بضرورة استعادة النضال الشعبي كشكل من أشكال المقاومة، فإن محاورك يجمعك مع من يطالبون باستعادة روابط القرى، ومع التجار المنتفعين من اتفاقية باريس، ثم يصوغ رداً واحداً على الجميع في مقال واحد، وبهذا فرأيه ينتصر أمام القراء، لكن الحقيقة تبقى صعبة المنال.

ثالثاً، وكما يتم صناعة خصم سهل فإن المتحاورين كذلك يختارون مواضيع سهلة للخوض فيها، مواضيع تحظى باتفاق الغالبية من القراء أو المراقبين العاديين. فلا أحد يدخل في نقاش حول موقعنا من العالم الجديد الذي يتشكّل، وما الذي علينا فعله لنخرج بأقل الخسائر بأن لا نكون أضحية هذا التشكّل، أو الجالسين على هوامشه ننتظر مساعداته وشفقته، ولا أحد يتطرق للتحولات العميقة أو للتشوهات الاجتماعية والأيديولوجية التي ضربت الشخصية الجمعية للفلسطيني وساهمت في تسهيل شيطنته في المحيط والعالم.

لا أحد يريد استخدام القياس أو المقارنة، في لغة نقدية موجهة للذات قبل الآخرين، بين ما كنا عليه في الماضي القريب وما نحن عليه الآن. الغالبية من الكتابات والحوارات تذهب إلى تشخيص ومناقشة وضع العدو ومقدار ما لحق به وبصورته في العالم من أذى وتشويه، وهذا ظاهر للعيان ومعروض يومياً على شاشات التلفزة، وهو ليس بحاجة إلى كل هذا "اللت والعجن".

في المقابل فإن الأسئلة الكبرى المتعلقة بكيفية انتقال قضيتنا من قضية مهملة عالمياً ومركونة على رف المجتمع الدولي وقضاياه الملحة، لكن عنوانها العريض هو الدولة وحق تقرير المصير، إلى قضية فاعلة وعلى أجندة العالم، لكن عنوانها هو التهجير والضم، هذه الأسئلة يتم تجاهلها والهروب من استحقاقات إجاباتها. هنا يكمن الاستسهال الذي أشرت إليه في بداية هذه النقطة، وهو أن النقاش يدور حول ما يمكن لإجاباته أن ترضينا وأن تشكل لدينا حالة من الوهم أو الحقيقة الخادعة.

الحقيقة هي أن هذه الحرب وضعت قضيتنا الفلسطينية على أجندة العالم، نعم هذه حقيقة، ولو أنها بثمن صعب، بل غير مسبوق وكارثي، لكن الحقيقة الأخرى، والماثلة أمامنا بوضوح، هي أن هذه الحرب قلصت سقفنا إلى مستويات لم تكن يوماً بهذا الشكل

فالحقيقة هي أن هذه الحرب وضعت قضيتنا على أجندة العالم، نعم هذه حقيقة، ولو أنها بثمن صعب، بل غير مسبوق وكارثي، لكن الحقيقة الأخرى، والماثلة أمامنا بوضوح، هي أن هذه الحرب قلصت سقفنا إلى مستويات لم تكن يوماً بهذا الشكل، على مدار سنوات نضال الشعب الفلسطيني وما تعرض له من حروب ومشاريع تصفية.

 رابعاً، تجري هذه الحوارات عادة تحت ضغط الاضطرار وليس في "أوقات الراحة" إن أمكن تسميتها كذلك، بما يعني أنها ليست ملحّة إلا في أوقات الحرب أو العدوان علينا، وهذا بحد ذاته يؤكد حقيقة في غاية الخطورة ولا ينتبه إليها أحد، وهي أن هؤلاء المتحاورين أو الكُتّاب أو النخب الثقافية، سمّهم ما شئت، هم جزء لا يتجزأ من الإهمال الذي وصلت إليه قضيتنا على المستوى الدولي.

أين كانوا مما ينتقدونه الآن من ترهل السلطة وتوقف المشروع السياسي وتغوّل اليمين الإسرائيلي واستباحته لكل ما يخصنا؟ وما معنى أن يأتي المثقف متأخراً دوماً ليردد ما يردده العامة من الناس غير المنخرطين في الشأن الثقافي أو عالم السياسة؟

أين كانوا مما ينتقدونه الآن من ترهل السلطة وتوقف المشروع السياسي وتغوّل اليمين الإسرائيلي واستباحته لكل ما يخصنا؟ وما معنى أن يأتي المثقف متأخراً دوماً ليردد ما يردده العامة من الناس غير المنخرطين في الشأن الثقافي أو عالم السياسة؟


خامساً، بقاء هذا الحوار والتحليلات على السطح، أو على الأقل في جانبها الوصفي للحدث وعدم الدخول في اقتراح حلول للمشكلة، هذا إن تم الاعتراف بوجود مشكلة أصلاً. كمثال على ذلك لنأخذ التعاطي مع ترامب وتصريحاته الأخيرة: إننا نشهد تيارين يعبران عن وجهتي نظر في الرجل، الأولى تعتبره تاجر عقارات حاز على سلطة سياسية، وبالتالي فهو يفعل ما يقول مهما كان الثمن. الشواهد برأي أصحاب هذا الرأي كثيرة وأهمها وعده بنقل السفارة الامريكية من تل أبيب إلى القدس، وتنفيذه لهذا الوعد، كذلك ضم الجولان من قِبل إسرائيل، وغير ذلك من قرارات قام بتنفيذها في ولايته الأولى. أما وجهة النظر الثانية فتقول إن ترامب لا يعي ما يقول، وهو لا يعدو كونه شعبوياً يرمي التصريحات كيفما اتفق، ووجهة النظر هذه لا تعدم الدلائل والبراهين أيضاً.

لكن لا أحد يقول لنا ما الذي علينا فعله إن صح التشخيص الذي يتبناه. هل الحل مثلاً بالقتال حتى النهاية كشعب من الأبطال الذين لم يعد لديهم ما يخسروه، أم بتنحي حماس عن المشهد السياسي حفاظاً على ما تبقى لنا ومنا؟ أم علينا انتظار مبادرات عربية أو دولية لإنقاذنا؟

سادساً وأخيراً، يجري هذا الحوار، حين يجري، بانفعال هدفه الأول والأخير إثبات وجهة النظر الشخصية لا سماع وجهة نظر الخصم في النقاش، فالآخر متهم سلفاً وعلينا تفنيد حججه كاملة، وإن استطعنا فلا ضير من تفنيد نواياه أيضاً. هذا النوع من النقاش أداته الأساسية وغايته النهائية هي الأحكام الأخلاقية، لا الوصول إلى ما يحقق مصلحتنا بطرق وأساليب علمية، مستمدة من علم وعالم السياسة.

هل الحل مثلاً بالقتال حتى النهاية كشعب من الأبطال الذين لم يعد لديهم ما يخسروه، أم بتنحي حماس عن المشهد السياسي حفاظاً على ما تبقى لنا ومنا؟ أم علينا انتظار مبادرات عربية أو دولية لإنقاذنا؟

في خاتمة هذا الاستعراض، وانطلاقاً من رؤيتي الشخصية التي أطرحها وأدافع عنها منذ بداية الحرب وقبلها بكثير، وهي أننا ضحايا لأعتى قوة احتلالية غاشمة ما زالت موجودة وتتعزز، وعلينا بالتالي أن نقدم أنفسنا كذلك ونحاول كسب تعاطف العالم كضحايا لا كأبطال، ولأن ما حدث قد حدث، بصرف النظر عن رأينا فيه واختلافنا حوله، و لقناعتي أن عهد ترامب يجب أن يُدار فلسطينياً تحت يافطة إدارة المخاطر لا تحقيق المكاسب، فإنني أدعو إلى حوار حول ما علينا فعله إن كانت هذه الفكرة تحمل قدراً من الصحة، أو تخطيئها تماماً بالبرهان لا بالشعار.  

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image