يحزم كل من كلير زرهوني وفاتح غينشغال وبورجو يلماز حقائبهم وعدَّتهم مغادرين ذلك القبو الواقع في تجمّع "بومونتي آدا" وسط مدينة إسطنبول، والذي استغلّ الأصدقاء الثلاثة وجود مسرح صغير مجهّز فنياً فيه، إضافة إلى حيّز لتنظيم النشاطات الثقافيّة، ليقدّموا خلال عامين، عشرات العروض الفنيّة من دول مختلفة، وبأشكال وأدوات ولغات مختلفة، في سياق مشروعهم "زاوية من العالم corner in the world".
هي تجربة يعتزمون اليوم تطويرها لتتخلّص أيضاً من سلطة المكان الواحد، وتعود إلى التنقّل بين دور العرض المختلفة في إسطنبول ومدن أخرى.
"هناك أمكنة أخرى يمكن أن نعرض فيها، لقد أقمنا فعاليات في الطرقات والحدائق، مشروعنا بدأ كمهرجان سنوي وتحوّل إلى منصّة لتطوير تجارب الأداء، لم يعد مهرجاناً مرتبطاً بتوقيت محدّد فقط" تقول منظِّمة المشروع كلير زرهوني.
في صيف 2015 بدأ مشروع "زاوية من العالم" على شكل مهرجان يقدّم مجموعة من العروض الفنيّة (مسرح، رقص، سينما، موسيقى) بجهود ثلاثة متطوّعين (فرنسيّة وتركيين)، كان هدفهم إيجاد أماكن عرض لتجارب أداء جاءت من دول وبيئات مختلفة من خارج تركيا، لتتعمّق تجربة المهرجان بشكل أكبر خلال دورته الثانية عام 2016 ليقدّم 20 عرضاً بينها 12 عملاً مسرحياً على خشبات مختلفة من إسطنبول، ليتيح المهرجانُ فرصةً لفنانين سوريين وإيرانيين وأرمن ورومان وعراقيين وتونسيين لتقديم أنفسهم، فرصة لم تكن لتتكرّر كثيراً في مدينة يصعب فكّ شيفراتها الفنيّة من قبل فنانين جاؤوا من الخارج للإقامة فيها.
منصّة إنتاج وتطوير وعرض .. لا مجرد مهرجان
زاوية من العالم كما هو اليوم منصّة يعمل القائمون عليها بشكل يومي، لتنظيم فعاليات ثقافيّة وفنيّة، في أماكن متنوعة من إسطنبول، ومن مدن أخرى في العالم وفق التطوّرات الجديدة التي شهدها المشروع، حيث تجذب تلك المنصة فنانين أجانب في تركيا، لتقديم تجاربهم، وتوجّه الدعوات لفنانين في دول أخرى للمجيء إلى إسطنبول والتواصل مع جمهورها، فيما يركّز المشروع جهوده على محاولة تكوين أعمال فنية يشترك فيها فنانون من جنسيات مختلفة لتقديم عروض تحمل ثيمة التجريب المشترك، والنتاج الفني الخارج من رحم خلفيّات أكاديميّة وفنيّة ولغويّة مختلفة. تقول زرهوني في لقاء مع رصيف 22:بعد انطلاقنا كمهرجان مدّة عامين، استطعنا الحصول على مكان لتنظيم أعمالنا وعرضها، وبدأنا بالتحوّل نحو العمل في مشاريع طويلة الأمد، وكانت لدينا الفرصة للبدء بالإنتاج الحقيقي للأعمال الفنيّة والعروض، مثل مشاريع الإقامة الفنيّة وغيرها، لتكون الخشبات التي كنا نسعى لإتاحتها للفنانين لتقديم عروضهم، بمثابة ورشات عمل يبدأ الفنانون بتكوين عروضهم عليها، فيصبح الأمر عمليةً إنتاجيّةً لا مجرّد عرض". تتوجّه زاوية من العالم إلى إنتاج أو تطوير العروض، حيث أتاح المكان والأدوات لمجموعة من الفنانين وخاصّة من الشبان الذين لم تتح لهم الفرصة بعد لتقديم أعمالهم في مدينة هم في الغالب لاجئون فيها أو زائرون فحسب، لنرى نصوصاً تخرج من أدراجهم وتبدأ بتكوين نفسها على الخشبة، فيدخل الفنانون في سياق عمل يومي يطلب منهم توخّي الدقة فيما يقدّمونه، لأنه سيُعرض للمرة الأولى أمام جمهور لا يعرف أي شيء عن هؤلاء الفنانين. فنرى راقصةً سوريةً (لانا شميط) والتي عملت في عدّة فرق في دمشق، تصمّم عملاً فنياً يحكي المأساة السورية بأجساد راقصين أتراك، ونرى ممثلين مسرحيين سوريين (جواد الحبال وهلا صياصنة) وبعد غياب سنوات عن المسرح الذي اعتادت صياصنة العمل به في دمشق، واعتاد الحبال الحياة بين أروقته في حمص، وعشرات العروض الأخرى التي ترجمت من لغاتها المحليّة إلى اللغة الإنكليزيّة وأحياناً التركيّة على شاشة مرافقة للعرض، في مكان بدأ بجذب جمهور متنوّع بات يعرف أن كلمة سرّ العروض التي ستقدّم هنا هي التشاركيّة. تقول زرهوني: "أصبحنا منصّة قادرة على دعم الفنانين من المقيمين في تركيا وبلدان أخرى، وعملنا على إتاحة الفرصة أيضاً لتقديم العروض خارج إسطنبول، كنا نركّز على الشباب في البداية، وخصوصاً من ليس لديهم فرصة في تركيا لتقديم أعمالهم والعمل على تطويرها، في تركيا الفرص غير كبيرة، وكان يجب أن نساعد بذلك، ركّزنا أيضاً على الفنانين النازحين من بلادهم وخاصة السوريين، وقد بدأنا ذلك مبكراً في المهرجانين الذين أقيما في 2015 و 2016، صلب اهتمامنا كان إنشاء علاقة بين الفنانين الأجانب والجمهور في إسطنبول".يتيح مهرجانُ "زاوية من العالم" في اسطنبول فرصةً لفنانين سوريين وإيرانيين وأرمن ورومان وعراقيين وتونسيين لتقديم أنفسهم، فرصة لم تكن لتتكرّر كثيراً في مدينة يصعب فكّ شيفراتها الفنيّة من قبل فنانين جاؤوا من الخارج للإقامة فيها
ثيمة التجريب المشترك، والنتاج الفني الخارج من رحم خلفيّات أكاديميّة وفنيّة ولغويّة مختلفة: هذا عصب مشروع "زاوية من العالم" في اسطنبول
آمار 2018 .. آمار 2019
لفت مشروع آمار في نسخته الأولى عام 2018 أنظار فنانين عرب مقيمين في إسطنبول، كونه مشروع إقامة فنيّة إنتاجي يقدّم المكان والأدوات للفنانين ليُنشئوا عروضهم من الصفر، ثم يعرضونها ضمن مهرجان واحد، لنرى اليوم في 2019 من ينتظرون الإعلان عن انطلاق المشروع في دورته الثانية التي من المفترض أن تكون في شهر أيار القادم، ليتقدّموا بمشاريع أعمالهم إليه، وبطبيعة الحال. سيجد هؤلاء الفنانون أنفسهم في مكان يعتمدون فيه على كوادر توفّرها البيئة الفنية المحيطة بهم، فتتكون أعمال تضم في كوادرها تجارب مختلفة المشارب والبيئات والأجيال، حيث ستلجأ مصمّمة الرقصات السورية إلى جامعة معمار سنان (جامعة شهيرة بتخصصات فنون الأداء) للبحث عن راقصين يتولّون مهمة العمل في عرضها، وسيبحث هذا المخرج السوري عن فنّي إضاءة تركي، وستجد تلك المغنية الروسية المقيمة في إسطنبول مكاناً لها في عرض إيراني.. هذا بالضبط هو السياق النظري الذي بني منه المشروع أصلاً. تقول زرهوني: "نهدف إلى إظهار القدرات والقابليات لدى الفنانين لتقديم فنونهم وثقافاتهم المحليّة أمام جمهور أجنبي، ولنحقّق تشاركيّة عابرة للحواجز.. الفكرة هي إعطاء المساحة بغضّ النظر إن كانت لورشة عمل أو مسرح أو غناء، نحن نستخدم أحياناً الشوارع والساحات لعرض أعمالنا". يستعدّ زاوية في العالم اليوم لبدء تلقي طلبات الفنانين لمنح آمار 2019، في الوقت الذي بدأ فيه العمل مع مجموعة فنانين من المغرب وألمانيا وإسطنبول لتقديم عروضهم على ثلاثة مراحل الأولى في إسطنبول، والثانية ستبدأ قريبا في كازابلانكا والثالثة في دوسلدورف في ألمانيا، إضافة إلى العمل في مشروع فني يجمع مجموعة من الفنانين الإيرانيين سيقدّم في إسطنبول، ليتبعه تقديم عمل تركي سيعرض في إيران.عروض ذات أثر.. وداعمون
"من الصعب جداً تحديد أهم الفعاليات التي قام المشروع بعرضها، لكن يمكنني كجزء من المنظّمين والجمهور في وقت واحد أن أقول بأنني استمتعت بنصّ مسرحي كتبه محمد العطار وقدّمه ممثلان أحدهما سوري والآخر تركي كل بلغته وأمام جمهوره في مكان واحد.. كان المكان ملعب كرة سلة في بيت تراثي قديم في إسطنبول، في زاويته الأولى جلس جمهور تركي يستمع للنص على لسان ممثل تركي. وفي الزاوية الأخرى سمع العرب النصّ من ممثل سوري" تروي زرهوني ذلك في محاولة تقييمها لبعض العروض التي قدّمها مشروع زاوية في العالم ثم تستذكر مشروع 2959 الذي كان عبارة عن مسير يقوم به فنانون بين مناطق من إسطنبول، ليقدّموا خلاله أعمالاً قصيرةً بعضها في الشارع وبعضها على خشبات منظمات تعنى بالشأن الثقافي أو مسارح تفتح أبوابها لمبادرات كتلك. "لا مدير للمشروع.. نحن ثلاثة أصدقاء نعمل في تنسيق كل ما يشتغل عليه زاوية من العالم، كلنا جاء من تجارب عمل مرتبطة بالفن سواء الإخراج أو التمثيل أو تنسيق المشاريع الفنية، نحاول اليوم تعريف أنفسنا أكثر، وتحديد استراتيجيتنا وهويتنا، نحاول أن نحدّد إلى أين نحن ذاهبون بالضبط، فمن الجيد بالتواكب مع تنسيق العروض والفعاليات أن نقف وقفة مع أنفسنا لنرى المشروع بوعي أكبر". تقول زرهوني ثم تبدأ بعدّ الهيئات والمؤسسات التي تدعم المشروع أو جزءاً منه وهي "المعهد الفرنسي في إسطنبول، السفارة الهولنديّة، مشروع مفردات في بلجيكا، الصندوق العربي للثقافة والفنون آفاق، دوغوز غروب (شركة تركيّة خاصة)، معهد غوته، وزارة الخارجيّة الفرنسيّة، وآخرين.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...