تمكّن الكوميديّ آندي كوفمان عام 1979 من دفعِ الكثيرين لترك أرائكهم، والتوجّه إلى التلفاز للتأكّد من البثّ، إذ فجأة، وأثناء برنامج عيد الميلاد الذي كتبه وأدّى فيه، توقّفت الصورة، وكأن البثّ انقطع، لكن الحقيقة أن كوفمان تقصّد أن "تَجْمَد" الصورة، وأن يزعج المتفرجين، ويجبرهم على الحركة، كاسراً إيقاع المشاهدة والبثّ، محوّلاً منْتَجَه الفني إلى وسيلة لدفع المشاهدين لـلـ"فعل" على أرض الواقع، ولو كان هذا الفعل بسيطاً، كتحريك اللاقط أو ضرب التلفاز.
https://youtu.be/lWT6UuJ-5kk
تُحيلنا "اللعبة" السابقة إلى العمل الفني بوصفه مجموعة من العلامات عن هذا العالم، هو "مُنْتَج" تحضر ضمنه تمثيلات جماليّة تنزع لكمال متخيّل ما، يمكن تذوّقه والإحساس به فقط، لخلق وهمٍ مُكتمل، سواء كان هذا المنتج مسرحيّة، أو لوحة، أو قصيدة. لكن، ما نحاول الإضاءة عليه، هو العمل الفنيّ بوصفه عمليّة ضمن العالم، سلسلة من الجهود التي تمتدّ خارج حدود العمل الفنيّ، موظفةً مكوّنات لا تنتمي لداخله الرمزيّ والجماليّ، وتؤثر عليه وعلى تلقيه أو صناعته، كـ"الخطأ" الذي وظّفه كوفمان والذي سببه التلاعب بتقنيّة البث نفسها.
ارتدت الفنانة الأفغانيّة كوبرا خادمي درعاً حديدياً وتجوّلت في شوارع كابول، احتجاجاً على ثقافة الاغتصاب والتحرّش الجنسيّ المتفشيّة، وحوّلت المشاهدين وردود أفعالهم حولها إلى جزء من العرض، وجعلت شكل ظهورها وسيلة لفضح الأعراف اللامرئيّة وسياسات الصمت التي تخضع لها الأنثى في ذاك السياق.
اقتحمت فرقة بوسي رايوت-pussyriot كنيسة أرثوذوكسيّة في موسكو وأقامت فيها حفلة دون ترخيص، التهم العلنيّة ومحاضر التحقيق التي أنتجت بعد الحادثة، كلها آثار مستمرّة للـ"عمل الفنيّ"، الذي يمكن اعتباره "حفلة غير مرخّصة" أو "احتجاج جماليّ"، الاختلاف، أن العبارة الأولى قانونيّة والثانية نقديّة.مقاربة العمل الفنيّ كـ"عمليّة" أو "حدث" تتجاوز ثنائيّة الذوق السيئ والجيد، كون العمليّة الفنيّة هنا، لا تسعى للكمال، أو الارتقاء بالذائقة، أو التمييز بين الجميل والقبيح، بل تهدف لإحداث تغيير في العالم، وخلق أثرٍ يتجلّى سلباً أو إيجاباً في النظام العام للأشياء، هي عمليّة تسعى لكشف "لا كمال" العالم، ثم السعي لخلخلته، فعوضاً عن التذوّق هناك الفعل، وعوضاً عن الإطار الفنيّ هناك الفضاء السياديّ بقوانينه وأعرافه وهرميّة القوّة داخله. ضمن هذه العمليّة، يتداخل الفنان مع المشاهد والقوى الخارجيّة، ليصبحوا على قدم المساواة، ليكون الفعل الجماليّ جزءاً من النظام العام بدايةً ثم وسيلةً لحرفه، فالمشاهد و"الفنان" ليسا بعيدين أو "غريبين" عن المحتوى الذي يتمّ إنجازه، بل مُساهمين بخلقه، سواء بسكونهم أو مشاركتهم، وأثره ينسحب عليهم "فنان-مشاهد-قوى خارجيّة"، كما فعلت الفنانة الأفغانيّة كوبرا خادمي، التي ارتدت درعاً حديدياً وتجوّلت في شوارع كابول، احتجاجاً على ثقافة الاغتصاب والتحرّش الجنسيّ المتفشيّة، وحوّلت المشاهدين وردود أفعالهم حولها إلى جزء من العرض، وجعلت شكل ظهورها وسيلة لفضح الأعراف اللامرئيّة وسياسات الصمت التي تخضع لها الأنثى في ذاك السياق. https://youtu.be/4pNRr-AFmXQ في أحدث تقنيات الفنّ التشكيلي يقوم الجمهور برسم اللوحة عبر المرور أمامها، إذ تقومُ حسّاسات الحركة المثبتة فيها بالتقاط الحركة، التي تحرّض أنماطاً من الحبر والألوان على "التشكّل" أمامنا، التقنية هذه تجعل المنتج الفنيّ كعملية لا ينتهي، لا يتلاشى، والأهم أن زمن إنتاجه يتطابق مع زمن عرضه، ومحكوم بأعراف الفضاء الذي يعرض فيه، -سواء كانت متحفاً أو صالةً-، وكيفيّة "حركة" الموجودين فيه. لكن، إن حضر الفعل الجمالي ضمن الفضاء العام، في المدينة بمواجهة أبنية السلطة ومراكز الترفيه وتحت هيمنة السيادة، يتحوّل العمل الفنيّ" عرض، لوحة، منحوتة" إلى أزمة في الفضاء العام إذ يخلخل تكوينه، وفي ذات الوقت "يُشكّل" إثر التقاء أربعة عوامل: النظم القائمة وقوانينها، الموضوعة الفنيّة، مضمون العمل الفنيّ، المتلقين. https://vimeo.com/102675809 تبدو المقاربة السابقة عشوائيّة، ويمكن أن تنطبق على مظاهرة، أو رجل وقع مغمياً عليه بانتظار الإسعاف ومن حوله المارّة، والشرطة التي تبعد الفضوليين، لكن تضافر العناصر السابقة الأربعة تُحرّر أشكال "الظهور" المقنّنة من السطوة التي تخضع لها، وتكشف عن الجهاز البشريّ المسؤول عن ضبط المكان العام، كما فعلت فرقة بوسي رايوت-pussyriot حين اقتحمت كنيسة أرثوذوكسيّة في موسكو وأقامت فيها حفلة دون ترخيص، واضطرت الشرطة وبعض الموجودين إلى إخلائهم بالقوة، ما جعلهم متواطئين في بناء الفضاء الرمزي للعمل الفنيّ-الحفل- وتحوّل "فعلهم" هذا إلى جزءٍ من العرض، الذي يرصد أيضاً دهشة وعدم مشاركة وهروب بعض الموجودين، كما أن التهم العلنيّة ومحاضر التحقيق التي أنتجت بعد الحادثة، كلها آثار مستمرّة للـ"عمل الفنيّ"، الذي يمكن اعتباره "حفلة غير مرخّصة" أو "احتجاج جماليّ"، الاختلاف، أن العبارة الأولى قانونيّة والثانية نقديّة. نرى أيضاً أن أجساد المؤديات في "الحفل" وموسيقاهم وكلمات الأغنية، التي امتدّت خارج مساحة العرض، تركت أثراً في وسائل الإعلام، وأحاديث الأفراد، هي تُنتج كحكايات بصورة لا متناهيّة، ولن تتوقّف حتى ولو خضع أعضاء الفرقة للعقاب، وهنا يبرز دور الحدث الجماليّ بوصفه يراهن على الاحتمالات، والقوى الخارجيّة التي تؤثر بالعرض دون أن تكون جزءاً من تكوينه الداخليّ، بل تنتجه وتغير شكله بحسب سطوة النظام القائم، كما في اللوحات الموجودة في محطات الميترو والتي تُرسم من قبل المارّة، ولا "مضمون" لها إلا عبر مشاركة خارجيّة، أي أن "آثار" الألوان لن تظهر، دون مشاهدين ومارّة ومخربيّن ومتحمّسين ومسرعين إلى أعمالهم. https://youtu.be/76172ha6GDk هذا الشكل من العروض الفنيّة، يكشف عن القوى السياديّة التي تصنّف وتعزل وترتّب الأفراد (شرطة-جمهور-فنان)، فكما المخرج يتلاعب بالموجودين على الخشبة، السلطة تتلاعب بالموضوعات الخاضعة لها، هي تنفي بعضها للكواليس، وتجعل البعض تحت الضوء، وتترك البعض ليتحدّث وتفرض الصمت على آخرين، كما في مسرحيّة ذات نصّ ومخرج، وهنا يأتي الحدث الجمالي كخطأ مقصود، لا يثير فقط الضحك، بل يخلخل سير الأحداث، ويترك الجميع أمام أدواتهم لإعادة "المسرحيّة" إلى شكلها الأصلي، وهنا لا بدّ من عنف جسدي ورمزي، تتورّط السلطة بإظهاره وتكشف أدواتها اللامرئيّة ليعود النظام. وهذا ما نراه في المظاهرات الطيّارة في سوريا، التي تفعّل مساحة جماليّة تورّط السلطة والمتفرّجين، وتجعلهم جزءاً من الأداء إما للانضمام، أو للقمع، وفي كلا الشكلين كشفٌ لتقنيات الهيمنة، وفضحٌ للسلطة، وسخريةٌ من "الشرطة" وهدر جهودهم الماديّة والجسديّة، أشبه بلعبة، مصمّمة كي يخسر فيها الجهاز القمعي. https://youtu.be/zqozcyJ7w-8 نعود هنا للأثر الفرديّ، لا نقصد به الانفعال العاطفي الذي يسبّبه لنا عرض ما ونحن في ظلام الجمهور أو صمت المتحف، بل نتحدّث عن أثر مادي إما يفضح تورطنا بالفضاء العام وشكله أو يدفعنا للتغير، كالاحتجاجات ضد التجارب التي تقوم بها شركات التجميل على الحيوانات، والتي يتورّط بها كل من يستخدم ماركات معينة بمجرّد شرائها، لتأتي العمليّة هنا لتشير للمذنب ذاته، وتجعل حياته اليوميّة ذاتها ذنباً وتواطؤاً ضمنيا مع السياسات التي تروّج لهذه التجارب، والأهم، أنها لا تدعوه للمشاهدة، بل يجد نفسه في مسرح خفيّ لا يعلم بدقّة ما دوره فيه، مشاهد أم مؤدّي. https://youtu.be/uF2vECYb7nk هذه الأشكال الفنيّة وليدة متغيّرات العصر، كون "الحكاية" و"المرئيّة-visibility" لم يعودا كافيين للتغيير، مجازر تبثّ مباشرة للملايين لم تعد تعني شيئاً، إن لم تمرّ ضمن قنوات شرعيّة وبيروقراطيّة لإثبات "حدوثها"، ولتنال اعترافاً قانونيّاً وسياسيّاً. ذات الشيء في الحدث الجمالي، فخلق صيغة تخلخل وتكشف القنوات السياسيّة والبيروقراطيّة يجعل من العمل الفنيّ جهداً لا يدّعي المثاليّة أو الرومانسيّة، بل سعياً لملامسة الفرد، ليكون مشاركاً في التغير، لا مجرد مُشاهد بانتظار "التطهير" والتصفيق في النهاية، كون ما يحدث أمامه، ليس وهماً، بل حقيقة، فلا إيهام أو خداع بصريّ، بل احتمالات دفينة تتجلّى أمامه، تجعل من الجهد الجماليّ وسيلة لمسائلة النظام القائم وعيوبه، فلا يهمّ الشكل النهائي، ولا "اكتماله" بل مجموعة القوى التي تتحكّم بالحدث وكيفيّة تشكيله. وكأن الفنانين يصنعون أفخاخاً للسلطة وللجمهور ولأنفسهم، ليكشفوا أن التحرّر منها هو بحد ذاته فعل عنيف، لا الوقوع بها، كحالة بيوتور بافلنسكي، المؤدي الروسي الذي لفّ نفسه بأسلاك شائكة وألقى بنفسه في ساحة عامة، ليتجاهله المارّة، وتأتي الشرطة "لفكّه" وضربه وإسعافه واتهامه بالجنون، ليبق أمامنا السؤال معلقاً، أيهما أشد خطراً، أن تكون عارياً تلفك سياج شائكة، أو أن تقوم السلطة بإعادة نمذجتك وعلاجك؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين