في 15 ديسمبر 2017، سأل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤيديه المشاركين في مؤتمر جماهيري في إسطنبول: "إلى مَن يتطلع العالم الإسلامي؟". صمت الجميع ولم يعطوه إجابة، فقال: "أنتم هادئون. إلى أين ينظرون؟". ولمّا لم تصله إجابة، أجاب بنفسه غاضباً: "إنهم ينظرون إلى تركيا".
هذه الواقعة دفعت صحافيين ومحللين وباحثين في تركيا إلى طرح العديد من التساؤلات حول مدى حماسة الشعب التركي ومؤيدي أردوغان لفكرة قيادة تركيا للعالم الإسلامي، وإعادة ما يُسمّيه بـ"ميرات الأجداد"، وهو مما لا يملّ من تكراره.
ففي أكتوبر الماضي، شدّد خلال لقائه بمجموعة من مفتي المحافظات أن "تركيا الدولة الوحيدة القادرة على ريادة العالم الإسلامي بأسره، بإرثها التاريخي وموقعها الجغرافي وثرائها الثقافي".
وفي 19 يناير 2019، أشار، خلال اجتماع مع مرشحي حزب العدالة والتنمية إلى الانتخابات المحلية التي ستجري في 31 مارس المقبل، إلى أن "الأتراك يتشبثون بميراث الأجداد في كل مكان، بدءاً من آسيا الوسطى وأعماق أوروبا، وانتهاءً بجزيرة سواكن السودانية"، لافتاً إلى أن بلاده مهتمة كثيراً بمكة والمدينة المنورة، وبقية المدن التي هي رمز للحضارة الإسلامية.
2023... عام إعلان الوحدة الإسلامية بقيادة تركيا
الترويج في الداخل التركي لفكرة قيادة أنقرة للعالم الإسلامي يجري على كافة المستويات، بداية من الأعمال الدرامية مثل مسلسل قيامة أرطغرل ومسلسل السلطان عبد الحميد، وصولاً إلى إقامة مسجد ضخم في مقر الحكم في المجمع الرئاسي يحمل اسم "الأمة" (الكلمة التي يكررها أردوغان في خطاباته عندما يتحدث عن العالم الإسلامي)، في خطوة أعادت إلى الأذهان أيام الخلافة العثمانية، عندما كان سلاطينها يبنون مساجد ضخمة بجانب قصورهم. يؤكد الباحث والصحافي التركي إسماعيل كايا لرصيف22 أن أردوغان نفسه لم يسبق له شخصياً أن تحدّث عن سعيه إلى "قيادة العالم الإسلامي"، لكنّه يقدّم إشارات حول ذلك في خطاباته اليومية، ولو من باب حديثه عن واجب تركيا، بحكم تاريخها ومكانتها، في دعم العالم الإسلامي وتبني قضاياه وهمومه والمساعدة في حل مشاكله ورفعته. في نوفمبر الماضي، كشفت تقارير صحافية محسوبة على المعارضة التركية أن مستشارين مقرّبين من أردوغان عقدوا اجتماعاً في إسطنبول ضم شخصيات إسلامية من داخل وخارج تركيا لتسويق فكرة تأسيس اتحاد إسلامي يتزعمه الرئيس التركي في بداية عام 2023. وفقاً لهذه التقارير، يظهر أن مركز البحوث الإستراتيجية للمدافعين عن العدل، واختصاره ASSAM، هو مَن يروّج لفكرة الوحدة الإسلامية داخل تركيا وخارجها، عبر تنظيم مؤتمرات منذ عام 2017. يقود هذا المركز مستشار أردوغان العسكري عدنان تانري فردي (74 عاماً)، وهو من أشد المتحمسين لفكرة الوحدة الإسلامية، وتتهمه المعارضة بالمسؤولية عن طرد 15153 ضابطاً، من بينهم 150 جنرالاً، معظمهم من الموالين لحلف الناتو، من الجيش التركي منذ عام 2016. وعلى موقع المنظمة، توجد معلومات باللغة التركية والعربية والإنكليزية عن أسس ومبادئ الإدارة في الدول الإسلامية، منذ عهد النبي محمد حتى الخلافة العثمانية، كما يوجد شرح لإدارة الدولة في الإمبراطوريات الغربية. ويكشف الموقع عن المؤتمرات التي عقدها من أجل الترويج للوحدة الإسلامية والتي تحمل عناوين مثل "تحديد أشكال الحكم وقوانين أجهزته من أجل الوحدة الإسلامية" (عُقد عام 2017) و"تحديد أساليب ومبادئ التعاون الاقتصادي من أجل الوحدة الإسلامية" (عُقد عام 2018) و"تحديد أساليب ومبادئ التعاون في الصناعات الدفاعية من أجل الوحدة الإسلامية" (سيُعقد عام 2019)، و"تحديد أساليب ومبادئ نظام الدفاع المشترك من أجل الوحدة الإسلامية" (سيُعقد عام 2020)، و"تحديد أساليب ومبادئ السياسة الخارجية المشتركة من أجل الوحدة الإسلامية" (2021)، و"تحديد أساليب ومبادئ نظام العدالة الموحدة من أجل الوحدة الإسلامية" (2022)، و"تحديد أساليب ومبادئ النظام العام والأمن المشترك من أجل الوحدة الإسلامية" (2023)."تأهيل" المجتمع التركي لفكرة قيادة العالم الإسلامي
تحتاج فكرة الوحدة الإسلامية بقيادة أردوغان مجتمعاً ذا طابع إسلامي يختلف عن ذلك الذي أسسه مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك، كما أن استمرار الدعم الداخلي الذي يبقي الرئيس التركي في منصبه بعد كل انتخابات ضروري لتحقيق هذا الهدف. في سياق توفير هذه المناخات، قررت الحكومة التركية زيادة ميزانية مديرية الشؤون الدينية من 1.3 إلى 2.1 مليار دولار عام 2019، من أجل تعيين آلاف الدعاه الجدد، ورفع رواتب الأئمة المعيّنين بنسبة 17%. ويعمل في المديرية المذكورة 117 ألف شخص، وفقاً لبيانات 2018، وارتفعت ميزانيتها أكثر من أربعة أضعاف منذ عام 2006، ما جعلها أكبر بخمس مرات من ميزانية هيئة الاستخبارات الوطنية. في الثاني من نوفمبر الماضي، كشفت المديرية عن برنامج يستهدف توفير مرشدين في المساجد لمنح الزائرين، سواء من الأتراك أو الأجانب، والذين بلغ عددهم 12 مليون شخص، معلومات عن التاريخ الإسلامي والثقافة والفن، ويمنع المرشدين التابعين للشركات المنظمة للجولات السياحية من تولي هذه المهمة. وأطلقت المديرية برامج دينية تستهدف كافة قطاعات المجتمع، منها دورات قرآنية للمواطنين واللاجئين، في السجون والمستشفيات ومراكز إعادة التأهيل من المخدرات والكحول. وتعتزم تقديم حلقات دراسية حول الأنظمة المالية والمصرفية الإسلامية. كل هذه البرامج الدينية تصبّ في خدمة التوجهات السياسية لأردوغان، وهو ما أشارت إليه الصحف التركية في مناسبات عدة. وهذا ليس جديداً، فخلال المرحلة السابقة على الاستفتاء على تعديل الدستور التركي بهدف تحويل نظامها إلى نظام رئاسي عام 2017، نادى أحد أئمة المساجد أهالي القرية بمكبرات الصوت وطلب منهم ألا يفتحوا بيتوهم لأعضاء منظمة أتت للتجييش ضد الاستفتاء. وأظهر مقطع فيديو إمام أحد المساجد التابعة لإدارة الشؤون الدينية وهو يطلب من المواطنين التصويت لصالح الاستفتاء.مدى حماسة الأتراك
عن هذا السؤال، يجيب كايا بأن هناك انقساماً واضحاً في الشارع التركي بين أنصار المعسكر المحافظ والمتمثل بالدرجة الأولى في حزبي العدالة والتنمية الحاكم والحركة القومية (كان متحالفاً مع الأول ولكنه فضّ التحالف في نهاية العام الماضي)، وبين أنصار المعارضة العلمانية، وبشكل أساسي حزب الشعب الجمهوري "الكمالي"، أكبر أحزاب المعارضة التركية.تحتاج فكرة الوحدة الإسلامية بقيادة أردوغان مجتمعاً ذا طابع إسلامي يختلف عن ذلك الذي أسسه مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك
الإسلاميون والقوميون في تركيا يرون أن بلادهم هي الأحق بقيادة العالم الإسلامي ولعب دور كبير خارج حدودها، بينما يرى العلمانيون أن أردوغان يقود البلاد نحو "الرجعية" ويتمسكون بالابتعاد عن الشرق ومشاكله والتوجه بشكل أكبر نحو الغربويضيف كايا أن الإسلاميين والقوميين في تركيا يرون أن بلادهم هي الأحق بقيادة العالم الإسلامي ولعب دور كبير خارج حدودها الجغرافية، أي في ما يسمّيه أردوغان بـ"جغرافيا تركيا المعنوية"، بانين حججهم على تاريخ الدولة العثمانية وامتدادها القديم، ما يدفعهم إلى تأييد انفتاح أردوغان على العالم العربي وإفريقيا، إذ يرون فيه طريقاً لإعادة أمجاد تركيا ومكانتها. في المقابل، يرى العلمانيون، وفقاً لكايا، أن أردوغان يقود البلاد نحو "الرجعية" ويتمسكون بتوجههم التاريخي القاضي بالابتعاد عن الشرق ومشاكله والتوجه بشكل أكبر نحو الغرب، ويطالبون على الدوام أردوغان بترك سوريا والعراق والشرق بشكل عام والتوجه مجدداً نحو الاتحاد الأوروبي. وعليه، يرى كايا أن هناك انقساماً واضحاً في توجهات الشارع التركي إزاء هذه الفكرة، مع تفوّق المعسكر المحافظ والقومي على المعسكر العلماني، حسبما تبيّن نتائج الانتخابات التي شهدتها البلاد في العقد الأخير. من جهته، يقول الصحافي التركي المعارض والمدير الإقليمي السابق لجريدة "زمان" التركية تورغوت أوغلو أن الكتلة المؤيدة لأردوغان ولحزب العدالة والتنمية تشكل 40% من الشعب التركي، ما يعني أن هناك 60% يحتاجون إلى إقناعهم بفكرته. وأوضح أوغلو لرصيف22 أن 50% من الـ60% المذكورين معروفون بأنهم مؤيدون للمعارضة بمختلف أطيافها ولا يُرجح قبولهم بهذه الفكرة، وهناك 10% مستقلون، يعمل الجميع على كسب تأييدهم، مضيفاً أن أردوغان بارع في استخدام الخطاب الديني والتعبيرات الإسلامية وهو ما يسهل عليه مهمة إقناع جزء من هذه الكتلة بقبول فكرته.
هل ينجح أردوغان؟
يؤكد أوغلو أن قطاعاً كبيراً من المجتمع التركي وخصوصاً من كتلة الـ60%، لا يثق في الخطاب الإسلامي لحكومة أردوغان، بسبب سياسات حزب العدالة والتنمية التي أدت إلى ابتعاد شريحة كبيرة من الأتراك عن الدين في السنوات العشر الماضية، وهو الأمر الذي يُعَدّ تحدياً أمام إقناع أردوغان للشعب بفكرة قيادة العالم الإسلامي. ويقول أوغلو لرصيف22 إن أكثر ما شوّه الخطاب الإيديولوجي لأردوغان وحزبه في الداخل التركي هو فضائح الفساد المدوية التي طالت عائلة الرئيس ووزراءه المقربين وأبناءهم، وأعضاء في الحزب الحاكم، عام 2013. وتسبب الصراع بين أردوغان ورئيس حركة الخدمة فتح الله غولن بتشوية التجربة الإسلامية التركية برمتها، وتولّد عنه إحباط كبير بين الأتراك من نظام الحكم الإسلامي الذي تسبب في اعتقال آلاف المواطنين وفصل آخرين من وظائفهم. وعام 2016، هزّت الرأي العام التركي فضيحة الكشف عن اعتداء جنسي على أطفال في مدرسة تابعة لجميعة إسلامية مقرّبة من الحزب الحاكم وأردوغان. وعام 2017، كشفت تقارير تركية أن تجربة الرئيس التركي في إعادة المدارس الدينية المعروفة باسم" الأئمة والخطباء" باتت على وشك الفشل بسبب تراجع حماسة الطلاب الأتراك في الالتحاق بها وانخفاض جودتها بشكل حاد. وتأسس نظام مدارس الأئمة والخطباء أساساً لتعليم الموظفين الدينيين المسلمين في عشرينيات القرن الماضي، ويخصص منهجها الدراسي نحو 40% منه للمواد الدينية واللغة العربية، فيما يُخصص الجزء الباقي لمواد "علمانية". وتخرج من هذه المدارس كبار أعضاء حزب العدالة والتنمية الذين يقودون تركيا حالياً وفي مقدمتهم أردوغان. لكن هذه المدارس تعرّضت لتضييق وحتى للحظر من قبل الحكومات العلمانية المتعاقبة. ويكشف استطلاع رأي أن عدد الذين يصفون أنفسهم بـ"ملحدين" ارتفع إلى 3% مقارنة بـ1% في عام 2008، كما أن 51% من المشاركين وصفوا أنفسهم بأنهم "متديّنون"، مقارنة بـ55% في عام 2008، وبلغت نسبة الذين وصفوا أنفسهم بأنهم "متديّنون بشكل صارم" 10%، في مقابل 13% قبل عقد من الزمن. ومن جانب آخر، هناك صراع داخل حزب العدالة والتنمية نفسه، فقد ظهرت جماعات تحمل فكراً أكثر تزمتاً من الفكر التقليدي للإخوان المسلمين، ما جعل بعض الأعضاء يستغيثون بالرئيس التركي بمقالات تدعوه إلى الوقوف ضد هذه التنظيمات التي تنادي بنموذج إسلامي أكثر تشدداً. في سبتمبر الماضي، شهد أحد أحياء مدينة بورصة، غربي تركيا، تجمع حشد كبير من الأتراك، وهم يكبّرون ويحطمون محلات يشغلها لاجئون سوريون، على خلفية نزاع بين تركي وسوري. هذا المشهد الذي تكرر في السنوات الماضية يعزّز الشكوك حول مدى تقبل المجتمع التركي لفكرة الوحدة الإسلامية.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...