قبل أقلّ من شهر، كانت بهيّة أموي تستعدّ على جاري عادتها في السنوات التسع الماضية لتجديد عقد عملها مع مدرسة ابتدائية أمريكيّة، لكن شرطاً جديداً أُضيف للعقد حال دون ذلك. تضمّن الشرط تعهّداً طُلب من بهيّة تقديمه ومفاده أنها "لا تقوم حالياً بمقاطعة إسرائيل، ولن تقوم بمقاطعة إسرائيل خلال مدة العقد"، إضافة إلى إقرارها بأنها "ستمتنع عن القيام بأي أعمال تهدف إلى معاقبة أو إلحاق الضرر أو الحدّ من العلاقات التجارية مع إسرائيل أو أي شخص أو مؤسسة تتعامل مع إسرائيل أو تتواجد في الأراضي التي تخضع لإسرائيل". وبهيّة، لمن لم يُتابع قصّتها التي انتشرت في أواخر ديسمبر الماضي، طبيبة متخصّصة في معالجة مشاكل النطق واللغة لدى الأطفال الذين يُعانون من الإعاقة، التوحّد أو العجز عن النطق في مدينة أوستن في تكساس. وهي تعيش في الولايات المتحدة منذ ثلاثين عاماً، بينما بدأت عملها في هذا المجال عام 2009 في إطار عقد يربطها بإدارة التعليم الحكومي. لم تطلب المدرسة من بهيّة الالتزام بأي من الشروط التي تصبّ في مصلحة الطلاب مباشرة، إذ كان شرطها الوحيد لتجديد العقد: الالتزام بعدم مقاطعة إسرائيل. وحين طلبت بهيّة تعديله جوبِهت بصرامة بالغة، فأتى ردّها برفض الشرط الذي يمنعها من التعبير عن رأيها بشكل سلمي. "حريّة التعبير" وقصة بهيّة عادتا إلى دائرة التداول مع التصويت الذي أجراه مجلس الشيوخ الأمريكي، ليل الثلثاء، في سبيل إقرار تشريع يُعيد التأكيد على الدعم الأمريكي للحلفاء في الشرق الأوسط، بما في ذلك "معاقبة الأمريكيين الذين يُقاطعون إسرائيل". لم يمرّ التشريع بسبب خلاف سياسي داخلي تمخّض عن إغلاق جزئي للحكومة الاتحادية، إذ أتى تصويت مجلس الشيوخ بواقع 56 صوتاً مقابل 44 لصالح ما سُمّي "قانون تعزيز الأمن الأمريكي في الشرق الأوسط"، لكنه لم يصل إلى ستين صوتاً وهو العدد اللازم لإقراره. البنود المتعلّقة بفرض عقوبات جديدة على سوريا وضمان تقديم مساعدات أمنيّة لإسرائيل والأردن أيّدها جمهوريون وديمقراطيون، لكن البند المتعلّق بالسماح للحكومة الاتحاديّة بمعاقبة الأمريكيين الذين يُقاطعون إسرائيل لاقى معارضة لدى كثير من الديمقراطيين الذين رأوا فيه تعدّياً على حريّة التعبير. اتهم الجمهوريون الديمقراطيين بدعم الحركة الداعية إلى مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض عقوبات عليها (BDS) فضلاً عن اتهامهم بمعاداة السامية، فيما ردّ الديمقراطيون باتهامهم بمحاولة استغلال هذا الأمر لإحداث انقسام بين الديمقراطيين المعتدلين والليبراليين. ولكن ماذا يعني هذا التشريع، لا سيّما وأن ولايات عديدة تعتمده أساساً؟ وما هي حقيقة موقف الديمقراطيين، وتحديداً في ظلّ الحديث عن انقسام بين المعتدلين والليبراليين؟
الاتهامات المتبادلة
في الظاهر، أتى رفض معظم ديمقراطيي مجلس الشيوخ للتشريع الأول في الكونغرس الجديد المعروف بمشروع قرار "إس.آر 1"، بعد تعهدهم بعرقلة جميع التشريعات لحين إجراء التصويت على مشروع قانون يُنهي إغلاق الحكومة الاتحادية وسط انتقادات وجهوها لرفاق الرئيس دونالد ترامب - الجمهوريين - لمساندتهم طلبه 5.7 مليارات دولار لتمويل جدار على الحدود مع المكسيك قبل استئناف العمل الحكومي. ولكن في الشقّ الآخر، أخذ النقاش حول العنوان الرابع المطروح في التشريع (مقاطعة إسرائيل) بُعداً آخر، تندرج في إطاره حرية التعبير من جهة وموقف الديمقراطيين المتباين من جهة أخرى. بوب ميناندز من ولاية نيو جيرسي، داغ جونز من ولاية ألاباما، جو مانشن من ولاية وست فرجينيا وكريستين سينيما من ولاية أريزونا هم أربعة نواب من الحزب الديمقراطي كانوا قد صوّتوا لصالح المشروع الذي أطلقه الجمهوري ماركو روبيو، بالإضافة الى جميع أعضاء الحزب الجمهوري. في المقابل، برز نائبان ديمقراطيان يُعرفان عادة بدعمهما القوي لإسرائيل وهما تشاك شومر عن ولاية نيويورك) وبن كاردن عن ولاية ميريلاند، وذلك عندما صوّتا ضد القرار بسبب انتهاكه الصارخ للدستور الأميركي، وانتهاكه للتعديل الأول في الدستور المتعلق بحرية التعبير.26 ولاية أمريكيّة تُلزم سكانها أساساً بعدم مقاطعة إسرائيل وولايات أخرى تسعى لإلزامهم، فما الذي يعنيه إقرار الكونغرس لقانون مماثل؟
في يناير الماضي، أظهرت استطلاعات معهد "بيو" أن الانقسام الحالي بين الجمهوريين والديمقراطيين بشأن إسرائيل هو الأكبر منذ أربعين عاماً، بينما يبدي الديمقراطيون الليبراليون تعاطفاً أكبر تجاه الفلسطينيينالحال نفسه كان مع النائبة دايان فاينستاين من ولاية كاليفورنيا التي وصفت في مداخلتها أمام مجلس الشيوخ القرار بالخطير رغم "دعمها القوي لإسرائيل"، مبدية في الوقت نفسها استهجانها إعطاءه الأولية في الكونغرس الجديد بينما يُبقي ترامب الحكومة الفدرالية مغلقة. ولم يكن بطبيعة الحال مستغرباً تصويت كل من بيرني ساندرز ضدّ مشروع القرار ووصفه له بـ"السابقة الخطيرة على الديمقراطية الأمريكية"، وكذلك الحال مع النائبة فلسطينية الأصل رشيدة طليب التي أثارت تغريدة لها موجّهة لمن صوت مع المشروع "نسوا أي بلد يمثلون…" جدلاً واسعاً في أمريكا وإسرائيل. في المقابل، عبّر روبيو، صاحب مشروع القرار والمقرّب من منظمة "آيباك"، عن غضبه لما اعتبره "تخلي الحزب الديمقراطي عن حماية إسرائيل"، في وقت تزداد التوقعات بأن تمضي "آيباك" في ضغوطها لفرض رؤيتها على العديد من أعضاء مجلس الشيوخ المقرّبين منها للتقدم بمشاريع مماثلة في المستقبل. يُذكر أنه في حال وصول القانون إلى مجلس النواب فلن يكون من المتوقع الموافقة عليه أيضاً، لا سيما في ظلّ وجود الأغلبية الديمقراطية في داخله.
ولايات عديدة تمنع المقاطعة… فما الجديد؟
هناك 26 ولاية أمريكيّة كانت قد تبنّت قوانين تعاقب الجهات التي تُقاطع إسرائيل، مبرّرة ذلك بالإجراءات الضرورية لحماية الحليف من النشاطات المعادية. ومن بين تلك الولايات ثلاثة كان يسيطر عليها الحزب الديمقراطي حين إقرار القانون وهي نيويورك كاليفورنيا ونيوجيرسي. نعود إلى قصة بهيّة أموي للإشارة إلى أنها أتت كذلك في إطار قانون اعتمدته مؤسسات تكساس عام 2017، بعدما أقره المجلس التشريعي في تكساس، وأصبح نافذاً بعد نيله موافقة حاكم الولاية غريك أبوت والمنتمي للحزب الجمهوري. القانون الذي أقرّته تكساس وغيرها من الولايات بدا صارماً لدرجة أن بعض ضحايا الإعصار هارفي، الذي دمّر جنوب ولاية تكساس أواخر 2017، تم إخبارهم أنهم لن يحصلوا على المساعدات المقدمة من الولاية، إلا بعد أن يوقعوا على هذا التعهد بعدم مقاطعة "إسرائيل". من هنا كانت التحذيرات من خطورة القانون، فهو لا يعارض الدستور بشكل مباشر وظاهر، وإنما يتيح للممارسات القائمة أساساً القدرة على التحكم بالأفراد الذين يسعون لتوقيع عقود عمل مستقلة مع جهات رسميّة. وبالتالي، يظهر مشروع القانون الذي طُرح على الكونغرس بمثابة سعي لتقديم غطاء أكثر شرعيّة لتلك الولايات. وتأتي الحاجة للغطاء من واقع أن القانون الاتحادي يتغلّب على قانون الولاية في حال طُرح أمام المحاكم، لا سيما في ظل محاولات عديدة لمحاربة تلك القوانين كما جرى مع "الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية" الذي فاز قضائياً ضد عدد من هذه الولايات، ومنها كانساس وأريزونا، وقضت الأحكام بأن "أي تعهد بعدم مقاطعة إسرائيل" يعتبر غير دستوري ويمسّ حق المواطنين الخاص. "هدف القانون هو القول بأننا نريد أن تعرف الولايات أن الكونغرس يعطيها الإذن لتقوم بما تقوم به حالياً"، يعلّق أستاذ القانون دايفيد برنشتاين، شارحاً أن مشروع القانون لا يضيف قيود جديدة عن تلك السائدة وإنما يشجّع الولايات التي تعتمدها، وتلك التي كانت قد أعلنت نيتها السعي لاعتماد قيود ضد مقاطعة إسرائيل، وهي حوالي 13 ولاية.إسرائيل والانقسام المتزايد
يلفت زاك بوشان إلى أن ما حصل في الكونغرس، فضلاً عن ربطه بشكل مباشر بإغلاق الحكومة الفدرالية، إلا أنه يكشف كذلك التغيّر الحاصل داخل السياسة الأمريكيّة إزاء إسرائيل. يريد الجمهوريون دعم إسرائيل من دون قيد أو شرط، بينما يميل الديمقراطيون لمساءلة السياسة الإسرائيلية وطريقة الدعم الأمريكي لها. وهكذا، حسب بوشان، تتغيّر مقاربة الحزبين تجاه إسرائيل، وبشكل أسرع من المتوقّع. وفي يناير الماضي، ذكر معهد "بيو" لاستطلاعات الرأي أن الانقسام الحالي بين الجمهوريين والديمقراطيين إزاء إسرائيل هو الأكبر في أمريكا منذ أربعين عاماً، لافتاً إلى أن الديمقراطيين الليبراليين أبدوا تعاطفاً متزايداً تجاه الفلسطينيين خلال السنوات الماضية. ولفت المركز إلى عوامل عديدة أسهمت في ذلك، منها تعمق الانقسام بين الجمهوريين والديمقراطيين بشكل عام، لا سيما بعد 11 أيلول وتصاعد المتطرفين تجاه إسرائيل في أوساط الجمهوريين، والعلاقات المتوترة التي سادت في عهد أوباما وتحديداً مع بنيامين نتنياهو وما ينتهجه من سياسات متطرفة، وكلها جعلت عدداً من الديمقراطيين ينظر لإسرائيل كقوة عسكرية أكثر منها ديمقراطية شرق أوسطية.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...