ليلة السادس من يناير، ومع حلول عيد الميلاد لدى الطوائف المسيحيّة وفق التقويم الشرقي، كان العشرات من الفلسطينيين يعترضون طريق موكب بطريرك كنيسة الروم الأرثوذكس في القدس اليوناني ثيوفيلوس الثالث لمنعه من الدخول إلى ساحة كنيسة المهد في بيت لحم.
ومع اقترابه من الساحة، وسط حراسة أمنيّة فلسطينيّة مشدّدة، كان المُحتشِدون يهتفون بكلمة "خائن"، في وقت ووجه حضوره بمقاطعة عدد من الفعاليّات العربيّة الأورثوذكسيّة في مدينة بيت لحم الذين أصروا على "مقاطعة استقباله وأعوانه" في البطريركية. لم تكن هذه المرة الأولى التي يُواجَه بها ثيوفيلوس الثالث باستقبال مماثل، ففي التوقيت ذاته من العام الماضي، هتف المتظاهرون من بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور بشعارات "الخيانة" نفسها حين وصول البطريرك ورشَقَ بعضهم موكبه بالزجاج، بينما امتنعت البلديات الفلسطينية عن حضور استقباله وانسحب الوفد الأردني من موكبه بسبب التظاهرات.
ومع عودة مظاهر الغضب ضد البطريرك اليوناني هذا العام، تعود إلى الواجهة كل الصفقات التي أجرتها البطريركية اليونانيّة منذ سيطرتها على الكنيسة الأرثوذكسيّة في فلسطين، وكيف أسهمت في خسارة أراضٍ كثيرة لعبت دوراً في تعزيز عمليات التهويد والاستيطان.
لماذا يُثير البطريرك كلّ هذا الغضب؟
عند وضع اسم البطريرك ثيوفيلوس الثالث على محرّك البحث، فأول ما يُطالع الباحث في مسيرته كمسؤول عن البطريركيّة الأرثوذكسيّة اليونانيّة هو الاتهامات الموجّهة إليه ببَيع أراضٍ كنسيّة وتأجيرها على أمد طويل (99 عاماً) لصالح جهات استيطانيّة إسرائيليّة. وينبع الغضب من البطريرك المذكور من واقع امتلاك الكنيسة الأرثوذكسيّة اليونانية لثُلث الأراضي في القدس القديمة والضفة الغربيّة بشكل أساسي، ما يجعلها ثاني أكبر المالكين في الأراضي المقدسة.
وإن كان ثيوفيلوس الثالث من المتورطّين البارزين في تسريب عقارات العرب الأرثوذكس لصالح جهات استيطانيّة (عبر وسطاء ومستثمرين)، فهو ليس الوحيد إذ سبقه لذلك بطاركة يونانيون آخرون شاركوا في "سرقة" عقارات العرب الأرثوذكس.
كيف سيطر اليونانيون على الكنيسة الأرثوذكسيّة؟
كان العرب الأرثوذكس قد فقدوا زمام إدارة كنيستهم منذ سيطر عليها المطارنة اليونان عام 1534، إثر استدعاء السلطان العثماني لبطريرك كنيسة القدس الأرثوذكسية آنذاك العربي عطا الله الثاني إلى القسطنطينية، وفرض الإقامة الجبرية عليه. أتى ذلك مع نشوء تحالف عثماني - يوناني لمواجهة الأرثوذكس العرب، وحينها جرى تعيين بطاركة يونانيين لإدارة شؤون الكنيسة بدلاً من العرب.وللتوضيح هنا، فعند الحديث عن "الكنيسة الأرثوذكسية" تحضر الكنائس الأرثوذكسية الأربعة في القدس، الإسكندرية، أنطاكية، والقسطنطينية (اسطنبول). وتشرف الكنيسة في القدس على الأرثوذكس في فلسطين والأردن، وهي التي تشكّل محور الجدل بين الرعيّة الأرثوذكسيّة العربيّة والبطريركيّة (الجسم الإداري للكنيسة) اليونانيّة. وتحظى قضيّة تورط البطريركيّة اليونانية في صفقات الأراضي باهتمام الأرثوذكس العرب في فلسطين والأردن، بينما تكثر المطالبات بعزل ثيوفيلوس الثالث من منصبه والذي يقول كثر إنه يتسلّح بدعم سياسي، فلسطينيّ وأردنيّ.أظهرت قائمة بتفاصيل صفقات البيع والتسريب في القدس خلال عهد البطريرك ثيوفيلوس الثالث وجود 18 صفقة، جرى أغلبها من خلال شركات أجنبية وانتهت بيد جمعيّات استيطانية ورجال أعمال إسرائيليين
"نشعر أننا غرباء عن كنيستنا، كل شيء فيها يوناني. حتى الصلاة والقداديس باللغة اليونانيّة، التي ينبغي علينا تعلمها لنمارس طقوس ديننا في كنيستنا. العلم اليوناني يرتفع عليها، والأراضي ملكيتها لهم. تبدو كأرض محتلة"... عن سيطرة اليونانيين على الكنيسة الأرثوذكسيّة في فلسطين وصفقات بيع الأراضي
ليس الدعم السياسي وحده ما يوفّر للبطريركيّة اليونانيّة في القدس الحصانة، بل تاريخ طويل من التثبيت لسلطة اليونانيين الحصريّة وإقصاء العرب الذين يشكلون أساس الكنيسة الأرثوذكسية في القدس. منذ تعيين البطريرك اليوناني الأول جرمانوس من قبل العثمانيين، عمد إلى "يَوْنَنَة" الكنيسة على مدار 45 عاماً قضاها على الكرسي. أسّس جمعيّة "أخوة القبر المقدس" التي تضم رهباناً يونانيين حصراً، والتي يُنتخب منها البطريرك المستقبلي، أقصى العرب عن المناصب الروحيّة والإدارية وجعل ملكيّة أوقاف الكنيسة وإدارتها يونانيّة بحتة.
المحاولات العربيّة للمواجهة
في مواجهة تعيين بطريرك يوناني، عُقد المؤتمر الأرثوذكسي الأول في حيفا عام 1923، بحضور ممثلين عن الأرثوذكس في فلسطين والأردن، للمطالبة بتعريب الكنيسة والمشاركة في إدارة عقاراتها. وبعد المؤتمر بدأت محاولات الأرثوذكس العرب لمواجهة اليونانيين تأخذ شكلاً تنظيمياً وتتقارب مع حركة النضال الفلسطيني بشكل عام، حتى انبثق عن المؤتمر الأرثوذكسي الرابع ما عُرف بـ"قانون البطريركيّة الأرثوذكسيّة" عام 1957، والذي هدف لتعديل القوانين العثمانيّة والبريطانيّة السابقة، لكنه ضاع في الأدراج الأردنيّة قبل المصادقة عليه.وكان الاحتلال بدأ في ثمانينيات القرن الماضي التركيز على شراء الأملاك بعد عمليات مسح قام بها للملكيات الوقفيّة والأملاك الخاصة بالبلدة القديمة، ووفقاً لهذا المسح تبيّن أن الكنائس المسيحية تملك 22.8%، وتشمل هذه الملكيات 920 قطعة تعود جميعها للكنائس دون الأملاك الخاصة للمسيحيين، وتتوزع حسب التصنيف إلى 524 بناية، تعود ملكية 56.2% منها للكنيسة الأرثوذكسية.
وعد ثيوفيلوس الثالث لأمريكا
في مطلع العام الماضي، كشف الباحث الفلسطيني لشؤون الأوقاف الأرثوذكسية أليف صباغ عن وثائق حصل عليها من "ويكيليكس" تشير إلى تدخّل أمريكي في شؤون البطريركية اليونانية في القدس.أول ما يُطالع الباحث في مسيرة ثيوفيلوس الثالث كمسؤول عن البطريركيّة الأرثوذكسيّة اليونانيّة هو الاتهامات الموجّهة إليه ببَيع أراضٍ كنسيّة وتأجيرها على أمد طويل (99 عاماً) لصالح جهات استيطانيّة إسرائيليّةتشير الوثائق إلى أن أن التدخّل تُرجم بطلب أمريكا من إسرائيل الاعتراف بالبطريرك ثيوفيلوس الثالث الذي تولى سدّة البطريركيّة عام 2005 مقابل التزامات منه بما يُعرف بصفقة "باب الخليل". لاحقاً، وتحديداً عام 2007، أبلغ البطريرك المُلحق السياسي الأمريكي أن الجانب الإسرائيلي أبلغه أن الحكومة الإسرائيليّة اعترفت به، وبدوره أكد على أن "البطريركية ستحترم جميع الاتفاقات السابقة مع الحكومة الإسرائيلية وتُعامل قضية الأملاك الأرثوذوكسية اليونانية في القدس الشرقية، التي باعها البطريرك السابق إيرينيوس للإسرائيليين، كمسألة قانونية". وبحسب الوثيقة، قال ثيوفيلوس الثالث للمُلحق الأمريكي إن "الاعتراف الإسرائيلي به سيُمكّن الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية من العمل مع الحكومة الإسرائيلية على مجموعة من القضايا".
صفقات ثيوفيلوس الثالث
في يناير الماضي، قدّم المجلس المركزي الأرثوذكسي قائمة بتفاصيل صفقات البيع والتسريب بالقدس التي تمت في عهد البطريرك ثيوفيلوس الثالث، وتضمنّت القائمة 18 صفقة، جرى أغلبها من خلال شركات أجنبية مُسجّلة في جنّات ضريبيّة، لتنتهي بيد شركات مرتبطة بجمعيّات استيطانية وبرجال أعمال إسرائيليين.و"صفقة باب الخليل" هي أبرز الصفقات الخاسرة للمقدسيين، وهي تشمل تأجير فندقي "إمبريال" و"البتراء" لمدة 99 عاماً، مع المحال التجارية الـ22 الموجودة فيهما. والفندقان موجودان في منطقة باب الخليل التي تستهدفها مخططات التهويد لكونها منطقة سياحية كما لكون باب الخليل الطريق الأساسي التي يمر فيها المستوطنون إلى حارة اليهود وقلعة القدس وللصلاة على الحائط.
تعود الصفقة إلى عام 2004، حين وُقّعت عقود التأجير طويل الأمد مع شركات أجنبية على علاقة بجمعية "عطيرت كوهنيم" الاستيطانية، وذلك مقابل مليون و805 آلاف دولار فقط. وقد جرت خلال عهد البطريرك إيرينيوس الذي أُطيح به بعد تورطه بصفقات بيع وتسريب على طرفي الخط الأخضر. أما البطريرك ثيوفيلوس الذي وعد عند وصوله أنه سيلغي الصفقة، لم يعمد سوى إلى إعادة تثبيت عقود التأجير، ليظهر أن المحاكمة التي ضمّت البطريركية وجمعية "عطيرت كوهنيم" كطرفَين متنازعَين كانت أشبه بمسرحية، إذ لم تسمح البطريركية للمدنيين أصحاب المحال التجارية المتضررين من المشاركة في المحاكمة، كما لم تسمح للراهب الذي أشرف على عقود التأجير آنذاك أن يُدلي بشهادته. وهكذا أقرّت المحكمة المركزية صفقة التأجير.
وفي يوليو عام 2017، كشفت صحيفة "كلكليست" الاقتصادية الإسرائيلية النقاب عن صفقة بيع خمسمئة دونم (الدونم/ ألف متر مربع) من أصل 560 دونماً من أراضي البطريركية الأرثوذكسية في حيي الطالبية والمصلبة في القدس. كانت البطريركية قد أجّرتها بعقود طويلة الأمد لمؤسسات الحركة الصهيونية في خمسينيات القرن الماضي، إلا أنها قامت لاحقاً ببيعها بيعاً تاماً لشركة تملكها أبناء عائلة بن دايفد الإسرائيلية، وذلك بما يقارب 11 مليون دولار. وهناك كذلك صفقة ميدان الساعة في يافا، صفقة طبريا، وصفقة قيساوية...
لماذا تُزعج عمليات البيع جهات يهوديّة إذاً؟
كانت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" اهتمت بالموضوع ونشرت تقريراً عن بيع الكنيسة للأراضي إلى شركات أجنبية يديرها مستثمرون يهود، ومنهم رجل الأعمال دايفد صوفر، الشريك الرئيسي في شركة "كرونتي للاستثمارات المحدودة" التي اشترت مساحات واسعة، والملياردير الأمريكي اليهودي المقيم في نيويورك مايكل شتاينهاردت. ولفتت الصحيفة إلى أن الاثنين يرتبطان بعلاقات وثيقة بثيوفيلوس الثالث، لا سيّما نتيجة مساعدته بما قالت إنها ديون على البطريركية تخطت الأربعين مليون دولار. وما يثير الجدل بالنسبة لليهود الإسرائيليين هي الصفقات المتعلقة ببيع الأراضي التي تضم مبان سكنية فيها حوالي 1500 أسرة. وبسبب بيع العقارات، لم يعودوا يعرفون هوية مالكي الأرض الجدد، وما إذا كانوا سيقومون بتجديد عقود الإيجار وما هو الثمن الذي سيطلبونه مقابلها. ولفتت مجلة "فورين بوليسي" إلى تقدّم النائبة راحيل عزاريا بمشروع قانون يطالب باستملاك الدولة لهذه الأراضي مقابل تعويضات، لكن الطلب أُعيد تجميده بعد ضغط كبير من قادة الكنيسة الذين تخوفوا من خسارة سيطرتهم على ممتلكات الكنيسة.قضيّة سياسيّة أكثر منها دينيّة
وسط ما سبق، يظهر السعي المتواصل لتلميع صورة البطريرك ثيوفيلوس الثالث وتقديمه كرجل وطني، بينما تشتكي البطريركية من الديون المتزايدة ومن دفع الضرائب ومن تحكم السلطات الإسرائيلية بالتأشيرات والقوانين. في المقابل، تستمر التظاهرات والدعوات المختلفة المنادية بتعريب الكنيسة الأرثوذكسية وضبط التلاعب اليوناني فيها. "نشعر أننا غرباء عن كنيستنا، كل شيء فيها يوناني. حتى الصلاة والقداديس باللغة اليونانيّة، التي ينبغي علينا تعلمها لنمارس طقوس ديننا في كنيستنا. العلم اليوناني يرتفع عليها، والأراضي ملكيتها لهم. تبدو كأرض محتلة"، يقول أحدهم لـ"فورين بوليسي". وهكذا، مع فضائح البطريرك الحالي ومن سبقه منذ التعاون مع الانتداب البريطاني وفي المرحلة التي تلت النكبة مباشرة وصولاً إلى مرحلة الاستيطان الحاليّة، تُصبح القضيّة يوماً بعد آخر وطنيّة سياسيّة تطال الجميع أكثر منها دينيّة بحتة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...