يقول المستشرقُ الفرنسي الشهير لويس ماسينيون: "لقد بدأ العنصر العربي بدموع هاجر (أم النبي إسماعيل)، التي هي الدموع الأولى في الكتاب المقدّس... العربيّة هي لغة الدموع، دموع أولئك الذين يدركون أن الله في ذاته مستحيل الإدراك"، بحسب ما نقل عنه أستاذ الفلسفة المغربي بن سالم حميش في كتابه "العرب والإسلام في مرايا الاستشراق".
"لقد بدأ العنصر العربي بدموع هاجر (أم النبي إسماعيل)، التي هي الدموع الأولى في الكتاب المقدّس... العربيّة هي لغة الدموع"
الدموعُ مسألةٌ نفسيّة بيولوجيّة، تخصّ الإنسانيّة عموماً، بل تخصّ كائنات غير إنسانيّة، ولكن ربما يكون لها خصوصيّة لدى العرب؛ من منطلق أن ثقافة الفرد والمجتمع تؤثر على طبيعة البكاء، بحسب دراسة لـAd Vingerhoets أستاذ علم النفس الطبي والسريري بجامعة تلبورج الهولندية، وDianne A. van Hemert، الباحثة في السلوكيات الإنسانية والابتكار المؤسسي.
فمن علامات كمال المتديّن العربي "المُسلم" أن يكون بكّاءً؛ حيث نسب إلى النبي محمد، قوله: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت في سبيل الله... إلخ"، وينسب إليه أيضاً: "إن هذا القرآن نَزَل بحُزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا". وتعجّ الأدبيّات الإسلامية بسرديات لا حصر لها عن البكاء ودوره في القرب من الله.هل اللغة العربية هي لغة "الدموع" كما يقول المستشرقُ الفرنسي لويس ماسينيون؟
تحت عدسة الميكروسكوب، هل سيبدو شكل دمعة الحزن بتمزقها مختلفاً عن دموع الفرح؟ وكيف سيبدو الأمر إذا ما قورنت نفس الدمعة بالدموع الناتجة عن التعرّض للبصل؟الدموع أيضاً، هي أداة للتواصل مع الحبيب، وربما تصوّر البعض أن من سمات المحب أن يكون بكّاءً، كما يقول أبو فراس الحمداني "تـ968هـ"، مستغرباً من حبيبةٍ لا تبكي: أرَاكَ عَصِيَّ الدّمعِ شِيمَتُكَ الصّبرُ أما للهوى نهيٌّ عليكَ ولا أمرُ ويقول الشاعر أبو بكر بن دريد (تـ933): وَمَا فِي الأَرْضِ أَشْقَى مِنْ مُحِبٍّ وَإِنْ وَجَدَ الهَوَى حُلْو المَذَاقِ تـراهُ باكيــاً فـي كـــلِّ وقــتٍ مخافة فرقة أوْ لاشتياق فيبكي إنْ نأى شــوقاً إليـهمْ ويبكي إنْ دنوا خوفَ الفراقِ فتسخنُ عينــهُ عنــدَ التنائي وتسخنُ عينهُ عندَ التلاقي وحديثاً،عبّر نزار قباني عن عاشقة تريد لحبيبها أن يراها من خلال الدموع، حتى ولو كان السبيل إلى ذلك هو الفراق بينهما، حيث يقول في قصيدته "أسألك الرحيل": "لنفترق ونحنُ عاشقان، لنفترق برغمِ كلِّ الحبِّ والحنان؛ فمن خلالِ الدمعِ يا حبيبي، أريدُ أن تراني". وفي أغنيته "أحضان الحبايب"، اعتبر عبد الحليم حافظ الدموع بمثابة نور لقلبه، فيقول من كلمات عبد الرحمن الأبنودي: "قلبي يا بلاد غريبة بتنوّرها الدموع". الدموع أيضاً، وسيلةٌ للتعبير عن الفرحة لدينا، وعن ذلك كتب أمير طعيمة وغنى ساموزين: "بكيت قبلك كتير، ومعاك بكيت من فرحتي". وكما أن الدموع عالم كبير من الناحية العاطفيّة، فهي أيضاً عالمٌ كبيرٌ من الناحية الشكليّة، فالدمعة التي قد تترك حفرة أو منحدراً عاطفياً في القلب، وربما تطوّف بخيالنا في بلاد وذكريات وأماكن وأزمنة، تترك على سطح بشرتنا أشكالاً، لو رأيناها بعدسة مكبرة، لظهرت كما لو كانت المشاهد والتضاريس التي مرّت على قلوبنا. كذلك فإن دفء وملمس وطعم المشاعر التي تمرّ على نفوسنا، وتؤدّي إلى دمعة أو دموع، هي نفسها أمور تبدو في كيمياء وتركيب الدمعة التي نذرفها حقيقة، فكلنا لا يبكي كالآخر، وإن جمعتنا مشتركات واسعة في بكائنا، وكلنا لا يبكي في كلّ مرّة كالأخرى. ما أنواع الدموع وأشكالها؟ وهل تختلف بين رجل وامرأة، وبين ثقافة وأحوال اجتماعيّة وبين أخرى؟
أنواع الدموع.. ومن يبكي أكثر؟
تتحدّث الأبحاث عن 3 أنواع من الدموع البشرية، أولها الدموع الأساسية التي لا نشعر بها، وهذه الدموع نبكيها في كل ثانية بحياتنا
من الناحية الثقافيّة والاجتماعيّة، وبحسب دراسة Vingerhoets، و van Hemert، والتي أجريت على أفراد من 37 دولة حول العالم، تبيّن أن الأفراد الذين يعيشون في بلدان أكثر ثراءً وديمقراطيّة ويميل أفرادها إلى النزعة الفرديّة، يميلون إلى البكاء أكثر، رغم أن معاناتهم أقلّ من دول أخرى.
كذلك فإن المرأة تبكي في الغالب أكثر من الرجل، بحسب تقرير للجمعية الأمريكيّة للطب النفسي.
في دراسة أجريت على أفراد من 37 دولة حول العالم، تبيّن أن الأفراد الذين يعيشون في بلدان أكثر ثراءً وديمقراطيّة ويميل أفرادها إلى النزعة الفرديّة، يميلون إلى البكاء أكثر، رغم أن معاناتهم أقلّ من دول أخرى.
وأوضح التقرير أن عالم الكيمياء الحيويّة ويليام فراي أثبت عام 1980 أن المرأة تبكي بالمتوسط 5.3 مرة في الشهر، بينما يبكي الرجل 1.3 في الشهر، لأن التستستيرون (هرمون الذكورة)، يقلّل من قدرة الرجل على البكاء، بينما يتسبب هرمون البرولاكتين (المرتبط بإدرار الحليب من ثدي المرأة) بانسياب الدموع أكثر لديها.
أما من حيث التركيب الكيميائي والوظيفة، فتواترت الدراسات والمقالات العلميّة، التي تتحدّث عن 3 أنواع من الدموع البشرية، أولها الدموع الأساسيّة التي لا نشعر بها وتذرفها العين كلما أغمضت، ووظيفتها الإبقاء على العين رطبة.
وهذه الدموع نبكيها في كل ثانية بحياتنا، وتقوم بها الغدّة الدمعيّّة، الموجودة في الجزء الخارجي من العين العليا، بإفراز سائل مضاد للبكتيريا غني بالبروتين. ينتقل هذا السائل من الحافة الخارجية لمقلة العين نحو القرنية، ويزيغ سطح العين بأكمله في كل مرة نطرف فيها، وهذا النوع لا نشعر به غالباً.
أما النوع الثاني فينتج حين نتعرّض لمهيّج للعين، كتراب أو دخان أو بصل أو غيرها، وهذا النوع تفرزه العين أيضاً تلقائياً ووظيفته حماية العين بتنقيتها وترطيبها.
الدموع العاطفية هي النوع الثالث، وهي التي نذرفها بسبب مشاعر قوية، سواءً كانت دموع فرع أو حزن، وهي تنتج من مكان واحد في القشرة المخية.
لماذا تبكينا العاطفة؟
الدموع الأساسيّة والتهيجيّة وظيفتها وقائيّة للعين كما ذكرنا، ولكن ماذا عن الدموع العاطفيّة التي نذرفها حين نتعرّض لشحنة عاطفيّة قويّة، هل هي مفيدة؟ توصلت دراسة أشرفت عليها الدكتورة أوريانا أراجون، بجامعة ييل، في نيوهافانا الأمريكية، إلى أن الشخص الذي يبكي حين تصل مشاعر السعادة داخله إلى الذروة، لديه القدرة على الوصول سريعاً إلى حالة الاتزان النفسي، التي أشعتلها مشاعره السعيدة. دموع الحزن إيجابيّة أيضاً، فهي تخفّف الكَبْتَ والاكتئاب، وتُعدّ بمثابة تنفيسٍ للحزن وطرده من داخلنا، واستعادة التوازن والتفاعل مع الحياة، بحسب آراء علميّة متواترة، ودراسات متعدّدة، منها دراسة لـ Vingerhoets وآخرين، اختبروا خلالها 60 شخصاً، وجعلوهم يشاهدون أفلاماً حزينة. وبعد مشاهدة الأفلام بكى 28 شخصاً، بينما لم يبك الباقون، وفي البداية، عقب عرض الفيلم مباشرة، ساءتْ حالة من بكوا أكثر من الذين لم يبكوا، ولكن بعد 90 دقيقة تحسّن مزاج من بكوا في حين ظلّ الذين لم يبكوا مكتئبين، بل الأقوى من ذلك أن من بكوا صاروا أفضل حالاً مما كانوا عليه قبل مشاهدة الفيلم الحزين. وقد يرجع ذلك إلى أن الدموع تقلّص هرمون الضغط (acht)، الذي حين ينتشر في الجسم يشعرنا بضغط نفسي قوي، حسبما كشف وليام فراي.
غرافيتي في فرنسا