تفاجئك فرانسي ذات الملامح الأوروبية عندما تتكلم معك باللهجة السورية. هي الألمانية التي ولدت وعاشت ودرست في ألمانيا. فرانسي، كيارا، ستفانو، توماس وجوليا، كما غيرهم الكثير من الأوروبيين، اختاروا أن يتعلّموا اللغة العربية، إما لشغف بالثقافات العربية أو لشغف باللغات الأجنبية بالإجمال.
شغف غربي بلغات الشرق
شغف فرانسي، الذي بدأ عقب زياراتها لسوريا ولبنان والأردن، كان مختلفاً عن شغف ستفانو، وهو إيطالي في العقد الثاني من العمر، بدأ ولعه باللغة العربية من أيام المدرسة. كذلك الأمر، وعلى تنوّع الأسباب، بالنسبة لكيارا وشغفها باللغة العربية الفصحى، الذي يأتي من باب حبها الزائد للاطلاع على الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، كما العمل في فلسطين. لطالما اهتمت كيارا الإيطالية، وهي في العقد الثالث من العمر، بتعلّم اللغات التي لا تستعمل الأحرف اللاتينية، كاللغة اليونانية والعربية. تقول كيارا إن صعوبات جمّة واجهتها في تعلم اللغة العربية خلال دراستها الجامعية في إيطاليا، كون معظم أساتذة هذه اللغة يعتبرونها لغة ميتة، كاللغة اللاتينية واليونانية القديمة. على الرغم من ذلك، تجد كيارا نفسها محظوظة كونها تعلمت اللغة مع أحد الصحافيين المغربيين، الذي كان يبتدع أساليب وطرقاً زادت من تشويقها كما تشويق زملائها في تعلم اللغة. "كان دائماً يقول لنا إن اللغة العربية لغة سهلة، ويحضر لنا مقتطفات إخبارية باللغة العربية الفصحى من إذاعة بي بي سي، نسمعها معاً. أو نعمل معه على ترجمة بعض مشاهد الصور المتحركة من العربية إلى الإيطالية والعكس"، تضيف.الشام والإسلام واللغة العربية
سعى الصحفي المغربي جاهداً لإحياء لغة اعتبرها آخرون من أساتذتها لغة بائدة على طريق الانقراض، بحسب كيارا. صعوبة تعلم العربية واجهت فرانسي أيضاً، التي بدأت تتعلمها في إحدى المدراس القرآنية في دمشق، خلال فترة سكنها هناك للعمل على أطروحتها عن المساكن العشوائية في العاصمة السورية. كانت فرانسي تلبس معطفاً أسود طويلاً، وحجاباً، ملتزمةً بالزي المحدد لتتمكن من دخول المدرسة القرآنية، ومتابعة دروس اللغة العربية. فهي أرادت تعلم اللغة كرد جميل للحب والمعاملة الحسنة، والاستضافة الحارة التي حظيت بها في دمشق من الأهالي والسكان. تقول: "لم أكن أحبذ بدايةً فكرة ارتداء الحجاب أمام أصدقائي، وفي الأماكن العامة. لذلك كنت فقط أرتديه في حمام المدرسة قبل بدء صف اللغة. لكنني ارتحت للفكرة في ما بعد، ورحت ارتديه خارج المدرسة لبعض الوقت”. ساهمت اللغة العربية في تعريف فرانسي إلى الديانة الإسلامية، فرأت انفتاحاً وتقبلاً للآخر لدى المسلمين خصوصاً في المجتمع الشامي، ما جعلها تطور احتراماً للإسلام، الذي لم تكن تعرف عنه الكثير.بيروت في عصرها الذهبي
بالنسبة لستفانو، عشقه لبيروت، درّة الشرق في الستينات والسبعينات كما يصفها، كان محفزاً أساسياً له في تعلم اللغة العربية، وخصوصاً اللهجة اللبنانية. يذكر أنه كان دائماً يترقب أي خبر عن بيروت، ويبحث دوماً عن الأفلام الوثائقية التي توثق مرحلة ما قبل الحرب وبعدها، للعاصمة اللبنانية. بدأ دراسته اللغة العربية في المدرسة، وعمل جاهداً لتكلم اللهجة اللبنانية ليستفيد لاحقاً من رحلات تبادل ثقافية بين لبنان وإيطاليا، ويحسّن من إتقانه لهذه اللهجة المحببة إلى قلبه، إذ سكن وعاش في بيروت فتراتٍ وجيزة. بعكس فرانسي وكيارا، لا يتكلم ستفانو عن صعوبة في تعلّم اللغة العربية، بل يعتبر أن جل ما في الأمر، أن هذه اللغة تحتاج بعضاً من التأني والصبر. يضيف: "تعلم اللغة العربية كتحضير التبولة بحاجة إلى بعض التركيز والتأني والنفس الطويل.”اللغة واستخداماتها تروي الكثير من القصص عن شعوبها
في حين كان تعلم اللغة العربية لكيارا تحدياً، عزمت على اختباره أمام مجتمعها الذي طالما ربط اللغة العربية بلغة الإرهاب، بعد اعتداءات 11 سبتمبر. كانت هذه اللغة فرصة أساسية لستيفانو، للغوص في ثقافة جديدة واكتشافها. فمن خلالها، تمكن من التعرف إلى عادات وتقاليد وأفكار مجتمعات عربية كثيرة، كما على المطبخ العربي واللبناني خصوصاً. يعتبر ستفانو أن اللغة العربية تخبر الكثير عن كيفية تعاطي العرب مع الأمور اليومية. فهم، بحسب قوله، بكلمة "انشالله" يسلّمون الله مسؤولية نتائج أعمالهم، ويعتبرون نجاحها أو عدمه هو نتاج لمشيئة الله، وهو ما يختلف تماماً مع المجتمعات الغربية، حيث نتائج الأعمال ترتكز على الجهد الذي يضعه الفرد لإنجاحها دون ربطها بمشيئة الله. من تونس والمغرب ومصر، إلى لبنان وسوريا فالإمارات والعراق واليمن، اختلفت الدول العربية التي زارها أو سكنها فرانسي وكيارا وستفانو. أما المشكلة الأبرز التي كانت تواجههم، هي إدراكهم أن اللغة العربية الفصحى ليست كافية ليتمكنوا من التكلم، ومن فهم اللهجات العربية المختلفة. ففي حين اختار ستفانو وكيارا تعلم اللهجة اللبنانية كونها الأقرب إلى الفُصحى، اختارت فرانسي اللهجتين السورية والمصرية، وهي عاشت في حلب أيضاً لأربع سنوات قبل أن تضطر إلى الرحيل عام 2011 مع بدء الحرب السورية.من أحبها وسكنها وتكلّم لهجاتها.. لن ينساها
تتذكر فرانسي مواقف طريفة جداً وجدت نفسها فيها، إذ كانت تطلب "كيلوتين" (ملابس داخلية عدد 2) من البندورة (الطماطم)، بدل من طلب "كيلوين"، ما كان يثير ضحك بائع الخضار في حلب، الذي كان يساعد فرانسي دائماً على تصحيح لفظ الكلمات. تشتاق فرانسي اليوم إلى سوريا، وتأسف للحرب الحاصلة، وتتمنى يوماً ما أن تعود إلى حلب، وأن تلتقي أستاذ اللغة العربية هناك، كما بائع الخضار وأصدقاء كثراً، منهم ما زال يسكن حلب حتى الآن. تحاول اليوم أن توظف معرفتها باللغة العربية للتطوع في مساعدة اللاجئين الهاربين من الحرب السورية، وهي عضو فعال في "رابطة أصدقاء مدينة حلب القديمة"، جمعية ألمانية تقدم الدعم لأهالي حلب. أما ستفانو، الذي يعيش في باريس، فهو في حالة خوفٍ دائم من أن ينسى التكلم باللغة العربية، التي لم يستعملها منذ نحو 3 سنوات، لكنه يحاول بين الحين والآخر أن يكلم أصدقاءه في لبنان عبر السكايب لتنشيط ذاكرته اللغوية. كيارا، تسافر سنوياً إلى بيروت، وتقضي هناك بضعة أسابيع، تأخذ فيها بعض الدروس التي تساعدها في التحدث بطلاقة أكثر باللهجة اللبنانية. كما تقابل بعض الكتاب اللبنانيين والعرب الذين تكتب عن إصدارتهم ومنشوراتهم، على مدونتها باللغة الإيطالية، إذ اتجهت كيارا منذ نحو 4 سنوات إلى قراءة الصحف والقصائد والكتب التي تنشر باللغة العربية ومشاركة أبرزها على مدونتها. كانت اللغة العربية مدخلاً لعدد من الأوروبيين للتقرب من ثقافات الدول العربية، ونسج علاقات ود وصداقة متينة مع سكانها. ساهمت هذه العلاقات لاحقاً بنقل صورة مشرقة ومغايرة عن البلدان العربية في العالم الغربي. تعلم اللغة العربية من قبل أجانب كثر أزاح حواجز فكرية وعقائدية وانتقص من سوء تفاهم مضى عليه سنوات طويلة، من بث الصور النمطية عن العرب والمسلمين على القنوات الأجنبية، وصولاً لمحاولة ترسيخ اللغة العربية على أنها لغة الإرهاب.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين