"نحن كعرب 48 معاقبون من العرب والمصريين بصفة عامة والاحتلال وإخوتنا الفلسطينيين". قالها الفنان والمخرج والمؤلف الفلسطيني محمد بكري بمرارة شديدة، عن المقاطعة التي تتبناها بعض الدول العربية حيال فلسطيني الداخل الذين يحملون الهوية الإسرائيلية تخوفاً من الاتهام بالتطبيع، وغياب دعم نقابة الفنانين العرب ونقابة المحامين المصرية له في قضيته المستمرة منذ 17 عاماً بعد انتاج فيلمه (جنين جنين) والملاحقات الإسرائيلية له عبر المحاكم، في حين يمنحه رئيس بلدية نابولي الايطالية منذ ايام مواطنة الشرف، مساندة له في معركته ضد الاحتلال، بل يجمع الفنانين الايطاليين له حملة توقيعات . بكري فنان فلسطيني عالمي، ابن قرية البعنة بالجليل، له رصيد سينمائي طويل تجاوز ال50 فيلماً، شارك في بطولات العديد من الافلام الأوروبية والأمريكية، من أشهر افلامه؛ حنا k، عيد ميلاد ليلى، زهرة، موسم الزيتون، خاص، حيفا، قاتل أمريكي، الجسم وآخرها فيلم "واجب"، الذي نال اكثر من 35 جائزة دولية، على مستوى التمثيل والإخراج. في مقابلة مع رصيف 22 عن المواطنة الفخرية والسينما والملاحقات الإسرائيلية واتهامات التطبيع والسياسة تحدث محمد بكري بصراحة ومرارة.
في البداية، حدثنا عن ظروف منحك مواطنة الشرف من بلدية نابولي الإيطالية ؟
المبادرة جاءت من صديقة إيطالية تُدعى لويزا مورجان، وهي ناشطة اجتماعية وسياسية تُناضل من أجل حقوق الانسان، وشغلت منصب نائب رئيس الاتحاد الأوروبي سابقًا، وتُتابع جيدًا حيثيات محاكمتي وملاحقات إسرائيل المستمرة إلى اليوم منذ إنتاجي فيلم "جنين جنين" الذي يوثق مجزرة الاحتلال في مخيم جنين عام 2002، ومن ثم اقترحت علي الذهاب لإيطاليا أواخر أكتوبر الماضي، من أجل تدشين حملة لدعمي جماهيرًا ومعنويًا تجاه هذه المحاكمات.
وبالفعل زُرنا عدة مدن إيطالية من بينها" نابولي"، وعُرضت هناك مجموعة من أفلامي ( جنين جنين – يوم مارحت – private) ، وقرر رئيس البلدية لويجي دي مجسترس دعمي ضد محاكمتي في إسرائيل من خلال منحي مواطنة الشرف للبلدية، وسوف أستلمها في ديسمبر القادم خلال احتفال كبير تحت جناح البلدية، ويبدو أن بلديات أخرى ستأخذ نفس الموقف.إذاً لم يكن تكريمًا بالمعنى التقليدي بل حملة دعم؟
بالطبع، قابلت العديد من الجماهير بالمدن الإيطالية، شاهدوا الفيلم، وجمعنا العديد من توقيعاتهم مكتوبة ومقاطع فيديو ضد هذه المحاكمة الظالمة من جانب سلطة الاحتلال، وهي بلا شك تُمثل دعمًا معنويًا وإعلاميًا وبمثابة ورقة ضغط على المحاكم الإسرائيلية.
إلى أي مدى انهكك (جنين جنين) على مدى 17 عامًا من المحاكمات؟
أنهكني كثيرًا، بلا شك هذه المحاكمات عطلتني عن مشاريع هامة بحياتي تتعلق بالإنسانية.
الفنان الفلسطيني محمد بكري: أعيش تحت الاحتلال أفضل من لاجىء على أرصفة الدول العربية
الصحافة الإسرائيلية تُهاجم فيلمي (جنين جنين) إلى الآن هجوم أرعن، غادر فاشي، يُطالب بقتلي، إنه فيلم يساوي ألف عملية استشهادية.
ما الذي استفادته إسرائيل من محاكمتك حتى اليوم؟
عمليًا، هي محاولة من حكومة إسرائيل الفاشية لكسر شوكة محمد بكري، ولكل من تُسول له نفسه انتقاد سياسة إسرائيل أو يحاول الدفاع عن حقوق الإنسان من خلال العمل الفني، ولكن "الضربة لي ما تكسر ضهرك تقويك"، وهذا ما حدث معي. كم أشعر بفخر بأهمية شخصي وخطورته على الأمن بإسرائيل، وكيف أن حكايته عن وطنه المحتل بفيلم تُزعج هذا الكيان، وكم أن كل إسرائيل بسفاراتها وبإعلامها المسموع والمقروء والمرئي تحارب إنسانًا أعزل مثلي، لا يملك شاشات ولا جرائد.
وهي نفس المعادلة التي يرويها الواقع بأن دولة عظمى عسكرية تحارب إنسانًا كما تُحارب شعبًا أعزل منذ 70 سنة.
هل هذا يعني إنك مستعد لهذه المحاكمة المستمرة للأبد؟
هذا يدل على خطأ بهذه العصابة المنظمة المسماة (إسرائيل)، فهي عصابة وليست دولة، فالدول هي التي تحترم القانون وحقوق الانسان، خاصة أني وُلدت وأحمل جواز سفر إسرائيليًا بحكم كوني من عرب 48. الصحافة الإسرائيلية تُهاجم فيلمي (جنين جنين) إلى الآن بل كتبت أنه فيلم يساوي ألف عملية استشهادية.
لو فيلمك يُساوي ألف عملية استشهادية، إذن الصحف الإسرائيلية تمنحك شهادة تقدير؟
ليس تقدير، العمليات الاستشهادية وُلدت من يأس وإحباط وانعدام الأفق، لتحقيق العدل الإنساني والسلام، هذا ليس أسلوبي في الدفاع عن نفسي أو طريقتي في الكفاح ضد المحتل، وبغض النظر عن رأيي الشخصي في هذه العمليات. الاحتلال هو الذي خلق هذه المعادلة بِفعل الاضطهاد المستمر منذ 70 عامًا.
نشرت على حسابك الشخصي صورة لحملة أطلقها مجموعة فنانين إيطاليين لدعمك بقضيتك (جنين جنين)، صاحبتها بتعليق يستنكر غياب نقابة الفنانين الفلسطينيين. حدثني عنها.
(يصمت لحظات) شر البلية ما يؤلم وليس ما يُضحك، الإيطاليون يهتمون بقضية فلسطينية من الطراز الأول أكثر من نقابة الفلسطينيين نفسها، يُذكرني هذا الموقف بقصيدة " مديح الظل العالي" لمحمود درويش: كمْ كُنْتَ وحدك، يا ابن أُمِّي، يا ابنَ أكثر من أبٍ، هو شيء مؤلم جدًا. ولكن أيضًا اللوم على نقابة الفنانين العرب عامة ونقابتي المحامين والفنانين في مصر خاصة، اللتين تضعانني في خانة المُطبعين.
كيف ذلك؟
لأن نقابات المحامين، الصحفيين، المهندسين المصريين التي تعتبر نفسها ضمير الأمة العربية، وضمير مصر، تُقاطعني، وهو بحد ذاته تطبيع مع العدو وليس عكس ذلك، فأنا طالبت عبر 30 سنة في مشواري الفني منذ فيلمي الأول ( حنا k ) عام 1984 وحتى الآن بحق العودة، سنوات عمري الجميلة بين 30 و60، راحت هباءً تحت شعار عدم التطبيع مع إسرائيل.
المثقفون المصريون لا يشككون في وطنية فلسطيني الداخل ولكن الواقع السياسي يجعل هذا الملف شائك، ألا تظن؟
لذا على المثقف المصري أن يُحكم دماغه حتى نحل هذه الإشكالية، بالطبع، القضية شائكة، ولكن ليس ذنبي أني وُلدت في بلدي وحصلت على جواز سفر اسرائيلي، هذا ذنب مصر التي أبرمت معاهدة سلام مع إسرائيل. وليس ذنبي، يجب توجيه اللوم للحكومة المصرية وليس لمحمد بكري، مصر الدولة العربية الأولى التي قبلت هذا الجواز، فأنا مُكره أخوك لا بطل، المصريون وحدهم من يمتلكوا الخيار وليس أنا.
أي خيار؟
يجب أن يكون هناك لجنة تُحدد ما هو التطبيع وتدرس كل موضوع بشكل دقيق؛ إذا أنا أتعامل مع الحكومة الإسرائيلية وأتفق مع خطهم السياسي، لهم كامل الحق في مقاطعتي، ولكن غير منطقي أن أكون فناناً وآخرون مثلي تُبرهن أعمالهم عن مواقفهم المناهضة للاحتلال، ونقدم أعمالاً فنية ضد العنصرية ومن أجل حقوق الشعب الفلسطيني ومع ثوابت القضية ومع إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس ، كيف نضع هذا الإنسان في خانة التطبيع؟
كأن حديثك يعبر عن مرارة شديدة لعرب 48؟
لأننا مُعاقبون من العرب والمصريين بصفة عامة والاحتلال، بل من بعض إخواننا داخل فلسطين، ولكن السلطة تحترمنا وأخرجت لنا جوازات السفر الفلسطينية. بلا شك أنا ضد التطبيع، ولكن ليس مع كل شخص، لما أزور إخوتي وأصدقائي الفنانين المصريين، وأشارك معهم اعمالهم الفنية، وأشاهد المسرح والسينما بمصر هل هذا تطبيع؟ التطبيع هو عدم مشاركتي في هذه العمال واستبعادي كأني إسرائيلي فعلاً، وألا أكون جزءًا من هذا الوطن العربي الغالي الذي نسميه أم الدنيا.
اتذكر حوارك التليفزيوني الذي تحدثت فيه عن لقائك بالشيخ امام؟
بالفعل جئت لمصر عدة مرات وزرت الشيخ إمام في بيته القديم بالغورية، وتم تكريمي في مهرجان القاهرة الدولي السينمائي أثناء رئاسة الفنان عمر الشريف، وشارك عدد من أفلامي في مهرجانات القاهرة الدولية، ولكن مؤخرًا هناك مشكلة، لا أعرف مسبباتها ومن المسؤول عنها، بأن يُمنع دخول فلسطيني من عرب 48 يحمل جواز سفر إسرائيلياً. والآن وصلتني دعوة لحضور مهرجان القاهرة الدولي في دورته 40، مع إبني صالح المشارك في بطولة فيلمنا "واجب" للمخرجة آن ماري جاسر، ولم نحصل حتى الآن على تأشيرة دخول لمصر. كفنان أنتظر خطاب الأمن العام المصري، لهذه الدرجة أنا خطير؟ انا شخص ملاحق من إسرائيل ويُحاكم على فيلم طوال 17 سنة؟
بمناسبة مهرجان القاهرة رفض المثقفون تكريم المخرج الفرنسي كلود ليلوش الداعم لإسرائيل؟ ما تعقيبك؟
ابُارك هذا الموقف والمثقفين المصريين لتشكيلهم ضغطًا على إدارة المهرجان لإلغاء التكريم، هذه خطوة مشرفة، ولكن غير مشرف أبدا مقاطعتي.
فيلمك الأخير "واجب" تم ترشيحه للأوسكار العام الماضي، واجه اتهامًا بالتطبيع؟لا يوجد تطبيع. فقد حاز الفيلم 35 جائزة دولية، ونال إشادة لما يحمله من طرح جديد لمعاناة الفلسطينيين داخل الخط الأخضر وكيف يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي، من خلال شخصية المواطن الستيني أبو شادي (الأب) من منطقة الناصرة الذي يتعايش مع الاحتلال بطريقته الخاصة التي تختلف عن طريقة حرب ابنه الثائر المتمرد" شادي" الممثل صالح بكري، ليحكي الفيلم قصة صراع الأجيال في مقاومة الاحتلال المختلفة.
شاركت في العديد من الافلام الأوربية والأمريكية. ما الذي ينقصنا بالسينما العربية؟
الموارد المادية، فالسينما صناعة مكلفة جدًا، وتنقصنا صناديق الدعم العربية لنجاح هذه الصناعة، بل تغيب هذه الصناديق في كثير من بلادنا العربية، فضلاً عن التطور التكنولوجي الهائل في صناعة السينما الأمريكية واستخدام أحدث التقنيات، فهو ما زال محدوداً بالسينما العربية، وأخيراً الافتقار للكوادر الفنية المدربة صاحبة الخبرات المحترفة.
بمناسبة حديثك عن أزمة الإنتاج، ما رأيك في لجوء بعض المخرجين الفلسطينيين لتمويل افلامهم من صندوق الدعم الإسرائيلي؛ وتبرير ذلك بأنهم مواطنون دافعون للضرائب لسلطة الاحتلال ومن حقهم الاستفادة من الصندوق؟
أنا ضد الحصول على دعم من صناديق إسرائيلية، لعدة أسباب، حتى لا يذكر اسم إسرائيل على الفيلم لأنها البلد المنتج، أرفض أن تكون هوية فيلمي إسرائيلية، فأنا فلسطيني ويجب أن تكون هويتي الفلسطينية موقعة على الفيلم وليس الإسرائيلية، والسبب الثاني، أنا ضد التطبيع الثقافي مع إسرائيل.
ما هو تقييمك لحال السينما الفلسطينية؟
تشهد نجاحًا عالميًا يزداد يومًا بعد الآخر، تصل أفلامها للأوسكار، وحصل صناعها على الجولدن جلوب، وتم تخصيص جناح للفيلم الفلسطيني هذا العام بمهرجان كان في دورته الـ71، وبشكل عام أنا متفائل بالشباب السينمائيين من العالم العربي كله، جيل ثورات الربيع العربي - الثورات التي لم تنجح بعد للأسف- سيحقق ما لم يستطع جيلنا إنجازه، فهم يبشرون بالخير والنجاح.
هناك أخبار عن تحضيرك لشخصية غسان كنفاني.
غسان ومحمود درويش من الشخصيات التي أسعى لإظهارها على الشاشة قريبًا، أما الآن فأعكف على التحضير لفيلم ما زال في مراحله الأولى، لا أستطيع الإفصاح عنه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...