لا تخشى فاطمة الموت بقدر خشيتها من أن تفقد شعرها. فاطمة (ص) مصابة بفيروس فقدان المناعة المكتسبة الإيدز تماماً مثل زوجها (م) وابنتها (ر).
في رحلاتها المكوكية خارج وطنها تونس، تحمل فاطمة معها صورة ابنتها وعقاقيرها المضادة للفيروسات وتتسلح بقدر من رباطة الجأش التي تنفلت منها أحياناً عندما تقدم شهادتها أمام الإعلاميين والأخصائيين وتقول بصوت يخنقه البكاء: "لم أكن يوماً بغياً، وزوجي مستقيم، ولكننا مع ذلك مصابان بفيروس نقص المناعة".
حوّلت فاطمة نبأ إصابتها بالإيدز من "مصيبة" إلى "عنصر قوة" بل إلى مورد رزق لتصبح ناشطةً في الجمعية التونسية لمقاومة الأمراض المنقولة جنسياً والسيدا، ومنشطة في ورشات عمل ينظمها برنامج الأمم المتحدة للتنمية في دول الشرق الاوسط.
تحارب فاطمة من خلال عملها الجمعياتي ثالوثاً يقتل في نظرها مناعة المصابين أكثر من الفيروس نفسه: التمييز ضد حاملي الإيدز وحاجز الصمت الذي يحوم حول الإصابة والوصم.
"الوصم يثير غضبي، يثير حنقي أن يوصم حاملو فيروس نقص المناعة بأنهم عديمو الأخلاق وبأنهم يستحقون الغضب الإلهي الذي ينزل عليهم ويفتك بهم".
لا تنكر فاطمة أن خبر اصابتها بالإيدز نزل عليها نزول الصاعقة يوم علمت بذلك عقب فحوص أجرتها هي وابنتها الصغيرة .
انتقل إليها الفيروس من زوجها الذي خضع لجراحة بعد حادث مرور في دولة أوروبية . ونُقل إليه يومذاك دون علمه دمٌ ملوث وظهرت عليه أولى علامات الإصابة قبل عودته إلى موطنه الأصلي.
بشعرها الأملس الأسود وسنحتها السمراء تبدو فاطمة للناظرين امرأة في الأربعين على قدر من الجمال وفي صحة جيدة. تقول إن الفضل في "هذا المظهر الخداع" يعود الى العقاقير المضادة للفيروسات التي تتناولها منذ سنوات هي زوجها وابنتها. هذه العقاقير تعتبر من أحدث وسائل مهاجمة الفيروس وإن عجزت عن قهر المرض والتغلب عليه.
يمر مريض الإيدز بفترة حصانة ، وهي المدة الفاصلة بين حدوث العدوى وبين ظهور الأعراض المؤكدة للمرض، وهي مدة غير معروفة على وجه الدقة، إذ يبدو أنها تراوح بين 6 أشهر وعدة سنوات.
وبعد أسابيع من دخول الفيروس للجسم يعاني تقريباً 70% من المصابين من توعك وخمول وألم في الحلق وآلام عضلية وتعب وصداع وهي أعراض تعرفها فاطمة حق المعرفة.
وتستمر هذه الأعراض أسبوعين أو ثلاثة ثم تختفي ويدخل المريض في طور الكمون من شهور إلى عدة سنوات يتكاثر خلالها الفيروس ويؤذي فيها أكبر كمية ممكنة من خلايا جهاز المناعة.
عندما يتكاثر الفيروس ستظهر على فاطمة أعراض الوهن، منها فقدان الوزن والشعر . حالياً وبعد عدة سنوات على معرفتها بإصابتها، تقول فاطمة إنها لم ترضخ بعد، وإن كان هاجس فقدان شعرها يصيبها بالفزع. لذلك تحرص على العناية بمظهرها وبشعرها الجميل بالذات وهو ما يكسبها قوة داخلية ومظهراً صحياً جيداً يجعلها تنسى أحياناً أنها مصابة.
الوصم يقتل أكثر من الإيدز
في عملها الجمعياتي الذي أحبته أكثر من عملها الأول في السكرتارية، تدافع فاطمة عن حقوق المتعايشين مع الإيدز وتندد بالوصم الذي يرافقهم، رافضةً الصورة النمطية عن المرض في المخيال الشعبي الساذج الذي يصوره على أنه "مرض سلوكي" وأنه يكفي أن تصافح مريضاً بالإيدز حتى ينتقل اليك العدوى وهذا ليس صحيحاً. "أغضبني أن تطرد ابنتي من الفصل في المدرسة في تونس لانها تحمل الفيروس". وكانت ابنتها (ر) البالغة من العمر 11 عاماً قد طردت قبل سنوات من القسم عندما علمت إدارة المدرسة وأولياء التلاميذ أن طفلة صغيرة تبدو نشطة في الفصل ومرحة وعادية مثل بقية الأطفال تركض في ساحة المدرسة وتأكل لمجتها وهي تجلس بجوار رفاقها وهي تحمل فيروس نقص المناعة. بنيّة مصابة بالإيدز تجلس على مقاعد الدراسة مع الأطفال، سببت حالة فزع لدى الاولياء ولدى إطار التدريس، فزع لم يطل الأطفال الذين ظلوا يسألون عن صديقتهم (ر) لماذا لم تعد تأتي إلى المدرسة ولماذا لم تشارك في مسرحية آخر السنة التي أعدت لها عاماً كاملاً؟ لكن هذا الوصم لم يبدأ في المدرسة بل انطلق في الوسط العائلي لفاطمة نفسها. نبذتها أمها في البداية وكذلك فعلت أختها. "فقط أبي احتضنني وساندني وبقيت ابنته المدللة والمحببة وأنا مصابة، لم يتردد لحظة واحدة في ضمي بقوة إلى صدره وهو يسمع نبأ إصابتي ونبض قلبي المتسارع". تتذكر فاطمة بشيء من الحسرة والحنق كذلك كيف فقدت بفقدانها والدها شيئاً من المناعة الذي كان يكسبها القوة في مصارعة المرض. تحافظ فاطمة على مواعيد تناول العقاقير وتلتزم نظاماً غذائياً متوازناً يزيد من مناعتها. لكنها لم تنقطع عن التدخين، "أتوتر أحياناً، وأحيانًا أخرى أكون هادئة والسجائر تساعدني على تجاوز مرحلة التوتر". في انتظار دعوة أخرى من الأمم المتحدة لتنشيط ورشة عمل جديدة عن المتعايشين مع الإيدز، تواصل فاطمة حياتها في تونس بشكل "ادي" مع زوجها وابنتها. ما يقهر الإصابة هو مواصلة الحياة بطريقة مرحة والمشي طويلاً مع ابنتها في أحد المسالك الصحية كل يوم أحد، كأن الفيروس غير موجود.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين