للذكر مِثلُ حظ الأنثى… فعلتها تونس
السبت 24 نوفمبر 201806:09 م
خارج السياق العربي، صادق مجلس الوزراء التونسي الجمعة 23 نوفمبر على مشروع القانون الذي تقدم به الرئيس الباجي قائد السبسي لتنقيح أحكام المواريث في مجلة الأحوال الشخصية (مجموعة قوانين مدنية تم سنّها عام 1956، أبرزها منع تعدد الزوجات) بشكل يُرسي المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث.
القانون ليس ساري المفعول بعد، إذ سيقدمه مجلس الوزراء إلى مجلس النواب من أجل المصادقة عليه، وتلك المحطة أعقد بكثير مما تبدو عليه.
فبعد 62 عاماً على سن مجلة الأحوال الشخصية، التي منحت المرأة مكانة كبيرة والحق في الاختيار الشخصي واختيار القرين، تجرأت تونس على تغيير ما لم يجرؤ عليه حتى الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة عرّابُ مجلة الأحوال الشخصية على المساس به: الميراث، الذي بقي لعقود "مقدساً" غير قابل للاجتهاد، رغم ثورية الإصلاحات التي سنتها تونس لمصلحة المرأة، آخرها السماح لها العام الماضي بالزواج من غير المسلم.
تأجلت قضية المساواة في الميراث عدة مرات في تاريخ تونس، لكن لا يمكن إنكار أن قطار الإصلاحات الاجتماعية التونسية كان متقدماً على قطارات دول المنطقة، من حيث التشريعات لمصلحة النساء والقوانين الرادعة للعنف ضد المرأة وتجريم التمييز في الأجور.
كيف تجرأت تونس على الخوض في الميراث بعد عقود من الامتناع؟
في تقديم مقترح قانون المساواة في الإرث، قال المشترع إن قواعد الميراث "قواعد وضعية وضعها المشترع وهي بالتالي قواعد مدنية قابلة للتطور بطبيعتها مثلها مثل بقية القواعد الوضعية الأخرى التي تدخل في المنظومة التشريعية الداخلية". هذا التقديم مهم لمشروع القانون يغوص في شرح أسبابه في محاولة لإقناع المجتمع بأن ما يظن أنه مقدس (المساواة في الميراث) ليس مقدسًا، وهذا بذاته طرح جريء وعقلاني يحاول وضع الحجج بيد المواطن ليناقش بدل الإسراع إلى رفض طرح فكرة المساواة في الإرث للمراجعة والتصحيح بما يتماشى وخصوصية المجتمع التونسي. يقول المشترع إن أحكام المواريث "تقوم على العصبة" وهو "نقل أمين لنظام اجتماعي معين هو النظام القبلي” ويشرح كيف أن "العصبة هي القبيلة، رجالها الذكور المنحدرون دون انقطاع بأنثى من أصل ذكر واحد. ومال القبيلة، أي قوتها الاقتصادية، يجب أن يبقى قدر المستطاع بيد رجالها. أما الأنثى فإن كان لها نصيب فيجب ألا يفوق نصيب الرجال لسبب واضح هو الحيلولة دون انتقال مال القبيلة بموجب الزواج إلى قبيلة أخرى قد تكون منافسة".بعد 62 عاماً على سن مجلة الأحوال الشخصية، التي منحت المرأة مكانة كبيرة والحق في الاختيار الشخصي واختيار القرين، تجرأت تونس على تغيير ما لم يجرؤ عليه حتى الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة عرّابُ مجلة الأحوال الشخصية على المساس به: الميراث
قضية الميراث بالذات تبدو أحد أكبر "التابوهات" التي أجلت تونس على مدى عقود الخوض فيها رغم جرأتها في التغيير في مجال حقوق المرأة. حتى الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة الذي أقدم على منع تعدد الزوجات سابقاً عصره وبيئته، لم يجرؤ على إقرار المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة.
"دار جواد" الفظيعة التي كان يختارها القاضي الشرعي في تونس لمعاقبة كل امرأة لم تطع زوجها أو أباها أو أخاها أو تجرؤ على كسر العادات الاجتماعية صارت من الماضي، لكن دولاً إسلامية أخرى لا تزال تستخدم شبيهاً لها لمعاقبة الفتيات.
المساواة في الميراث، التي يراها البعض في تونس كما في خارجها "ترفاً فكرياً" و"نشازاً دينياً"، هي في حقيقة الأمر ذات بعد عملي أيضاً من شأنه التقليص من فقر النساء في الريف.هكذا استند المشترع في شرحه أسباب طرح القانون إلى فكرة ارتباط التمييز ضد المرأة بـ "القبلية" التي لم يبقَ لها مكان في تونس منذ عقود، كما يستند في جانب آخر إلى التزام تونس معاهدات دولية صادقت عليها ونصوص الدستور الذي نص على المساواة بين المواطنين. غير أن اقتراح القانون لا يفرض إجبارية المساواة في الإرث، بل يفسح في المجال للاستثناء “الاختياري”، أي أنه من حق المرأة أن ترفض الحصول على ميراث يعادل ميراث أخيها. انتقادات وجهت إلى هذا “الاستثناء”، لعل أبرزها جاء على لسان جمعية النساء الديمقراطيات التي طالبت بالمصادقة على الصيغة التي تقدمت بها لجنة الحريات الفردية والمساواة، وهي اللجنة التي كلفها الرئيس السبسي في أغسطس 2017 تقديم مقترحات بشأن المساواة بين المرأة والرجل. بعض المشترعين يرون كذلك في صيغة “المرحلية” أهمية حتى يتعوّد المجتمع التونسي المساواةَ في الميراث بعد أن كانت “مقدسة”، من هنا جاء اقتراح “الاستثناء”. الرئيس السبسي هو صاحب المبادرة، إذ اقترح في عيد المرأة العام الماضي (13 أغسطس 2017) فتح باب المساواة في الميراث، وتبع إعلانه ذاك تأسيس لجنة الحريات الفردية والمساواة التي قامت بجرد القوانين التي تمس الحريات الفردية والمساواة والتي تتعارض مع دستور والتزامات تونس من حيث حقوق الإنسان وتقديم مقترحات لتحقيق المساواة. لكن لو عدنا قليلًا بالذاكرة إلى الخلف، لوجدنا مقترحه قد سبقته إليه جمعيات نسائية عديدة منذ عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي. الفرق اليوم يكمن في وجود تفاعل من قبل الرئيس وإرادة سياسية قوية حوّلت المقترح الجمعياتي إلى بادرة رئاسية، خطت أمس خطوة عملاقة بالمصادقة عليها في المجلس الوزاري ثم إحالتها على البرلمان. تذكّر رئاسة الجمهورية التي تقدمت بهده المبادرة التشريعية لسنّ المساواة في الميراث أن القانون الذي تقترحه يقوم على "نظام مزدوج يقدّم فيه المبدأ من حيث الالتزام ويُؤخر فيه الاستثناء ويُعلّق على شرط يتمثل في تصريح صاحب المال باختياره النظام الحالي للمواريث حسب نصّ مجلة الأحوال الشخصية”.