شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
كاميرات مراقبة وغرفة سرّية في الداخلية… ما حقيقة وجود جهاز أمنٍ موازٍ في تونس؟

كاميرات مراقبة وغرفة سرّية في الداخلية… ما حقيقة وجود جهاز أمنٍ موازٍ في تونس؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الأحد 18 نوفمبر 201805:51 م
عمد بعضُ نواب البرلمان التونسي إلى تخريب كاشفاتِ الحرائق تحت قبة البرلمان قبل أيام، بعد أن جلبوا سلالمَ تسلقوها، خوفاً من أن تُخفي تلك الكاشفات كاميراتِ مراقبة، في مشهد "سُريالي" يكشف عمقَ الرعب الكامن في نفوس النواب من فكرة وجود كاميرات مراقبة تتجسس عليهم. المشهدُ برمته يتماهى مع الجدل الذي تشهده تونس منذ أسابيع، بعد أن كشف حزب يساري وجودَ فرقة أمنٍ موازٍ داخل وزارة الداخلية وحديث عن "غرفةٍ سوداء" خلف مبناها. شكلت الداخلية التونسية بأجهزتها المتشعبة المُعلَن منها والخفي، على مدى عقود مصدرَ رعبٍ حقيقي للتونسيين، لارتباطها بالتعذيب والتجسس على المواطنين ورصد حركاتهم وسكناتهم، سواء كانوا معارضين أو مواطنين عاديين. كان مجردُ المرور تحت الأشجار الكثيفة على الرصيف المقابل لمبنى الداخلية الواقعِ في أكبر شوراع العاصمة "شارع الحبيب بورقيبة" يستحضرُ خيالاتِ الجلادين، ورائحةَ الغرفِ المظلمة، التي يلفُّها خليطٌ من دخانِ سجائر السجّان ورائحة دماء المعتقلين المخفيين قسراً. الداخليةُ، كانت رمزاً يختزل قوةَ النظام وبطشه ثم تداعيه وسقوطه، ولا تزال تمثل رمزاً إلى اليوم، فهي التي شهدت أمام مقرّها ذات شتاء بارد يوم 14 يناير 2011، أكبرَ مظاهرة ضدَّ الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، تطالب برحيله. كان وصولُ المتظاهرين بالآلاف إلى مبنى الداخلية لرفع شعاراتٍ مناهضة للنظام، أكبرَ سقوطٍ مُعلن للرئيس بن علي، لأنها أرسلت برسالةٍ قوية لقصر قرطاج أن الشعب ما عاد يخاف بطشَ الداخلية والقبضةَ الأمنية. كان التظاهرُ أمام الداخلية مقصوداً فبن علي كان بدوره "ابنَ الداخلية"، هو الذي شغل منصبَ مدير الأمن قبل أن يرتقي في سلم المهام الأمنية حتى دخل القصرَ رئيساً في انقلاب عام 1987. رَغم مضي سبع سنواتٍ على رحيل الرئيس زين العابدين بن علي الذي حكم تونس ربعَ قرنٍ بالحديد والنار، ورَغم فتح ملفات التعذيب الذي مارسته أجهزةُ الأمن منذ استقلال البلاد عام 1956، لمحاسبة المورطين فيها حتى أولئك الذين بلغوا من العمر عتياً، ورَغم النبش في ماضي التجسس على حياة التونسيين من قبل أجهزة الاستخبارات التونسية طيلة ستين عاماً من خلال هيئة الحقيقة والكرامة التي فتحت سردابَ الانتهاكات الحقوقية، إلا أن شبحَ "التجسس" وظلَّ رجل الأمن السرّي (يسميه التونسيون سرطي- وليس شرطي- أي الشرطي المتخفي في لباس مدني) إلا أن صورةَ الداخلية لم تتحسن بعد، حتى في ذهن نواب الشعب التونسي المنتخَبين بعد الثورة. يوم الجمعة 16 نوفمبر، كشف مديرُ ديوان رئيس مجلس النواب التونسي، حمدي قزقز، أن النوابَ عمدوا إلى تخريب كاشفاتِ الحرائق ظناً منهم أنها تخفي كاميراتِ مراقبة، يُعزى إلى الجدل داخل البرلمان بشأن وجود أمن موازٍ وكاميرات تجسس. وأكد أن كاميراتِ المراقبة موجودةٌ فقط بمداخل مبنى البرلمان لا داخل قاعة الجلسة، نافياً وجودَ أجهزة تنصت. وكان حزبُ الجبهة الشعبية (يسار) قد أكد نهاية أكتوبر2018، وجود "غرفةٍ سوداء" في عقارٍ يقع خلف وزارة الداخلية الواقعة في شارع بورقيبة بالعاصمة (أي غرفةٌ خفيّة غير معلن عنها رسمياً) يتم فيها إخفاء وثائقَ تتعلق بجرائم الاغتيالات التي طالت عام 2013 المعارضين اليساريين شكري بلعيد ومحمد الابراهمي، متهمةً  الداخلية بالتستّر على وثائق "خطيرة". إعلان الجبهة الشعبية عن العالم الخفي للداخلية، تم عن طريق هيئة الدفاع عن الشهيدين، بلعيد والبراهمي، لكن الداخلية نفت في مناسبتين وجودَ تلك الغرفة. أما السلطة التنفيذية بقطبيها: الرئيس الباجي قائد السبسي ورئيس الحكومة يوسف الشاهد فقد صرحت بأنها تدعو القضاءَ للتحقيق في ذلك لطمأنة الشعب. فقال السبسي إن السلطةَ القضائية وحدها هي القادرة على كشف الحقيقة في هذا الصدد، لكنه شدد على ضرورة عدم استغلال مطلب الكشف عن حقيقة "الغرفة السوداء" للضغط على "القضاء المستقل" حسب قوله. بدوره قال رئيس الحكومة يوسف الشاهد، الاثنين الماضي في هذا الخصوص إن قاضي التحقيق تحول إلى المكان الذي قالت الجبهة الشعبية إنه يمثل "الغرفةَ السوداء" وقام باستبدال الأقفال فيه، وكأنه يقول للشعب "لقد أغلقنا الداموس المرعب". لكن القصةَ لم تتوقف عند هذا الحدّ، بل حتى داخل البرلمان نفسه، هناك ريبةٌ من أن الداخلية تمتلك بالفعل غرفةً سوداء بل إنها تتجسس كذلك على السلطة التشريعية، وهو ما جعل النواب يأتون بسلالم الجمعة لتخريب كاشفاتِ الحرائق للاعتقاد بأنها كاميراتٌ مُموهة. مثلت قصةُ استغلال عقار خلف وزارة الداخلية للتجسس ولجمع أكبر قاعدة بياناتٍ عن التونسيين ضجةً كبيرة لا في الأوساط السياسية والحقوقية فحسب بل في الأوساط الشعبية التي لم تتخلص بعد من أشباح النظام السابق، ولم تؤسس بعد علاقةَ ثقةٍ مع رجل الأمن حتى في ظل النظام الديمقراطي الذي وُلد من رحم ثورة 2011. غير أن الحديثَ عن وجود غرفة سرية للداخلية للتجسس على التونسيين ليس أمراً حديثاً، فقد سبق لمجلس الشعب أن استجوب في يناير 2017 وزيرَ الداخلية السابق الهادي مجدوب بهذا الشأن. سُئل مجدوب حينها عن وثيقةٍ أمنية مسربة تتعلق بعملية تنصّتٍ على رجل أعمالٍ بشقة بشارع الحبيب بورقيبة، تعود إلى سنة 2014 ، لم ينفِ الوزير حينها صحةَ تلك الوثيقة وقال إن المتسوغين للشقة قيدَ البحث لدى وكيل الجمهورية . وأوضح المجدوب، في جلسة استماع له بلجنة الأمن والدفاع بمجلس نواب الشعب، آنذاك، أن الوثيقةَ الأمنية المسربة تتعلق بعملية تنصّتٍ على رجل أعمال في محادثة مع القيادي بحزب الوطن الليبي عبد الحكيم بالحاج. راجت أنباءٌ حينها عن اعتزام مسؤولين من الحزب الليبي القدومَ إلى تونس وهو ما جعل فرقةً من الداخلية تتعقب المكالمات. لكن ذلك الوزير غادر وحلّ محلَّه وزيرٌ جديد، والداخلية نفت في الأيام الأخيرة، وفي مناسبتين، بعد أن عادت قصةُ الغرفة السرّية للظهور، وجود جهاز تنصتٍ وتجسس على التونسيين. الاثنين الماضي، أعلنت الداخلية أن "قاضي التحقيق المكلف بقضية اغتيال الشهيد محمد البراهمي، تولى يوم الجمعة 9 نوفمبر 2018، التنقلَ إلى وزارة الداخلية صحبة ممثلٍ عن النيابة العمومية وكاتبه، وتمت مرافقته من قبل المسؤول الأمني المختص لمعاينة الفضاء (ما قيل إنه غرفة سوداء للداخلية) الذي يحتوي المحجوز المذكور، حيث اطلع على ظروف حفظه وثمّن بالمناسبة طريقة تأمينه. كما تولى تغييرَ الأقفال والاحتفاظ بمفاتيحها لديه، وبالتالي أصبحت كل محتوياتِ الفضاء المذكور على ذمّة قاضي التحقيق المتعهد". وقالت الداخلية في بيانها إنّ الهدف من هذا الإجراء "ليس ضربَ وزارة الداخلية أو تكذيبها، كما يتمّ الترويج لذلك، بل إن العملية تمت في إطار التنسيق التام مع مؤسسات الدولة... قاضي التحقيق وجد الوثائق مؤمّنةً ووجد كذلك كاميرات مراقبة على باب ذلك المكتب". غير أن رضا الرداوي، عضو هيئة الدفاع عن شكري بلعيد ومحمد البراهمي، أكد الاثنين الماضي أن قاضى التحقيق عاين وجودَ كاميرا مراقبة أمام المكتب بوزارة الداخلية، وتأكد أن الوثائقَ الموجودة بذلك العقار لم تحصل على إذنٍ قضائي. أعلن الرداوي يومها أنه عثر على 33 كيساً ووثائقَ على علاقة بقضية البراهمي، وصناديق كرتون تحتوي كتباً وصندوقاً آخر يتضمن هواتف نقالة معطبة في ذلك العقار. هذه الوثائق مثلت أدلةَ إثباتٍ على وجود "غرفة سوداء" في مقرّ وزارة الداخلية حسب قوله. غير أن الجهازَ الأمنيَّ في تونس ما زال ينفي وجودَ غرفةٍ سرية داخل وزارة الداخلية، وقال الناطق باسم الداخلية سفيان الزعق قبل نحو أسبوع إن تلك الوثائق التي عثر عليها تم جمعها "بشكل قانوني". نفيُّ الداخلية تجسسَها على الشعب، وجمع الوثائق بشأن حياته الخاصة، يتزامن مع إعلان وزير الداخلية هشام الفوراتي الأربعاء 14 نوفمبر، أنّ الوزارةَ أنهت 90% من مشروع تركيز كاميرات المراقبة في ولايات تونس الكبرى (تضم ثلاث ولايات في العاصمة) وولايات الكاف وجندوبة (شمال غربي تونس) والقصرين وسيدي بوزيد (الوسط) معلناً أن 10% المتبقية من الكاميرات سيتم الانتهاء من تركيزها قبل بداية يناير 2019. 
عمد نواب البرلمان التونسي إلى تخريب كاشفاتِ الحرائق بعد أن جلبوا سلالمَ تسلقوها، خوفاً من أن تُخفي تلك الكاشفات كاميراتِ مراقبة، في مشهد "سُريالي" يكشف عمقَ الرعب الكامن في نفوس النواب من فكرة وجود كاميرات مراقبة تتجسس عليهم.
دافع الوزيرُ أمام البرلمان عن زرع كاميراتِ المراقبة وقال إنها لدواع "أمنية" قائلاً إن ذلك لا يتعارض مع المعطيات الشخصية، وقد تم التنسيق في إعداده مع رئيس هيئة حماية المعطيات الشخصية شوقي قداس. الفوراتي قال كذلك إن مشروعَ تركيز الكاميرات في الشوارع التونسية "أعطى نتائجَ إيجابية جدا" معلناً أن وزارته تعتزم الشروع  بجزء ثان من المشروع بكلفة في حدود 75 مليونَ دينارٍ (25 مليون دولار) لزرع  ألف كاميرا مراقبة في المناطق السياحية. قضية الغرفة السرية، لم تنتهِ بعد، إذ يستعد البرلمان للاستماع مجدداً لوزير الداخلية غداً الاثنين 19 نوفمبر بشأن هذه القضية. قبل شهرين، وتحديداً يوم 4 سبتمبر أعلن حزب نداء تونس (حزب الرئيس الباجي قائد السبسي) أن رجال أمن بزيٍّ مدني طلبوا من حارس مبنى كان يجتمع بداخله أفرادٌ من الحزب مع شخصياتٍ وزارية، مدَّهم بقائمة الوزراء الحاضرين بالاجتماع وأسماء الحضور، منددة بهذا التصرف الذي يذكّر بممارسات النظام السابق قبل الثورة.  ودعا الحزب يومها وزيرَ الداخلية إلى فتح تحقيقٍ في الموضوع و"ردع هذه التجاوزاتِ الخطيرة المتناقضة مع أسسِ الحريات العامة ومناخِ الانتقال الديمقراطي". غير أن الداخليةَ دافعت عن تلك "المهمة" التي قام بها جهازٌ أمني بلباس مدني وقالت إن ذلك من "ضمن مهامها". كيف سيواجه المشرّعون وزيرَ الداخلية غداً وهم لا يثقون بأن مبنى البرلمان مؤمنٌ ولا يحتوى أيّةَ أجهزةِ تنصت؟ 

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image