بعد أخذ ورد، أصدرت الدائرة الاستعجالية في المحكمة الابتدائية في تونس في الثاني من نوفمبر 2018 حكماً يقضي بمنع دخول وفد إسرائيلي إلى البلاد للمشاركة في "الملتقى العالمي لسفراء الحوار بين الأديان (4-8 نوفمبر) الذي تنظمه "الكشافة التونسية" مع الاتحاد العالمي للكشاف المسلم.
الدعوة رفعها كل من "الحزب الجمهوري" و"حركة الشعب" (يسار) و"الهيئة الوطنية لدعم المقاومة العربية ومناهضة التطبيع والصهيونية"، ضد الكشافة التونسيّة التي تنظم هذا الملتقى الذي تستقبله مدينة الحمامات، بعد حديث عن أن ممثلاً لإسرائيل سيأتي من باريس للمشاركة في فعالياته.
"أكذوبة الحوار بين الأديان"
عن أسباب رفع هذه الدعوى القضائية، يوضح رئيس الهيئة أحمد الكحلاوي لرصيف22 أنه تم اللجوء إلى القضاء للكشف عما سمّاه بـ"أكذوبة الحوار بين الأديان"، معتبراً أن "المسألة تتعلق بأطراف سياسية تتخفى وراء موضوع الأديان لأغراض سياسية بحتة". وأضاف الكحلاوي أنه من غير المقبول استقبال وفد صهيوني، و"تونس دولة عربية مسلمة وعضو في جامعة الدول العربية التي من بين قراراتها أن عالمنا العربي في حالة حرب مع العدو الصهيوني"، إضافة إلى أن تونس أدانت وتدين ممارسات الاحتلال وآخرها اغتيال المهندس التونسي محمد الزواري في محافظة صفاقس. وفي ظل امتعاض الشارع التونسي الرافض للتطبيع مع إسرائيل، أصدرت الكشافة التونسية في الثالث من نوفمبر بياناً قالت فيه إنها لم تُوجّه دعوة إلى أيّة جهة إسرائيلية للمشاركة في الملتقى، وإنها وجّهت دعوات فقط إلى ممثلي الهيئات الدينية المُعترف بها رسمياً كهيئات استشارية ضمن الكشافة العالمية. وأضافت الكشافة في بيانها أن الملتقى يهدف إلى نشر ثقافة السلام والحوار المتحضر بين ممثلي الأديان في العالم بما في ذلك الديانة اليهودية، مؤكدةً دعمها اللامشروط لنصرة "القضية الفلسطينية العادلة"، ومشددة على موقفها الثابت والمساند للقضية الفلسطينية ولحقوق الشعب الفلسطيني وفي مقدمتها إقامة دولته وعاصمتها القدس.المنظمات الحقوقية على الخط
الحكم الصادر ضد الكشافة التونسية لا يُعَدّ الأول من نوعه، فقد سبقه حكم قضائي استعجالي بتاريخ الخامس من أبريل 2018 يقضي بمنع كل من رئيس الجامعة التونسية لرياضة التايكواندو ورئيس لجنة تنظيم بطولة العالم للتايكواندو من دعوة أو استقبال أو إيواء لاعبين إسرائيليين للمشاركة في بطولة العالم في هذه الرياضة التي احتضنتها تونس في السادس من الشهر ذاته. كما تدخّل "الاتحاد العام التونسي للشغل"، المنظمة النقابية الأولى في البلاد، مرتين في قضايا لها علاقة بالتطبيع، الأولى عندما رفض رسوّ سفينة إسرائيلية تجارية في ميناء رادس في 18 أغسطس 2018، تصدّياً لما وصفه وقتها بـ"التطبيع المغلّف"، والثانية بتاريخ 21 سبتمبر 2018 عندما منع باخرة تجارية إسرائيلية أخرى من الرسوّ في ميناء صفاقس التجاري، وجدد حينها دعوته إلى ضرورة التعجيل بسن قانون يجرّم التطبيع مع الكيان الصهيوني. قرارات القضاء التونسي وتدخّل المنظمات النقابية والحقوقية وبعض الأحزاب الداعمة للقضية الفلسطينية تدفع إلى التساؤل عن أسباب تأخر البرلمان التونسي في سن قانون يجرّم التطبيع، طالما يُعتبر هذا المطلب شعبياً ويحظى بإجماع كبير. في هذا السياق، قال القيادي في الجبهة الشعبية (يسار) وعضو البرلمان عمار عمروسية لرصيف22 إن الجبهة "تقدّمت منذ عامين بمبادرة تشريعية لسن قانون تجريم التطبيع مع إسرائيل لكن دون أن يتم ذلك". عمروسية اتّهم حركة النهضة وحزب نداء تونس اللذين يشكلان الأغلبية النيابية في البرلمان بأنهما يرفضان تمرير هذا القانون "لأنّهما مع مسألة التطبيع مع الكيان الصهيوني، ولأنهما يعتبران أنّ وجودهما وبقاءهما في الحكم ونجاحهما في الانتخابات القادمة سنة 2019 مرتبط بالمرور من ثقب التطبيع، إضافة إلى تأثير علاقاتهم مع الولايات المتحدة ذات النفوذ الاقتصادي الكبير في تونس والحليف الأول لإسرائيل على قراراتهما".نائب يساري تونسي يتّهم حركة النهضة وحزب نداء تونس بأنهما يرفضان تمرير قانون تجريم التطبيع مع إسرائيل "لأنّهما مع مسألة التطبيع مع الكيان الصهيوني، ولأنهما يعتبران أنّ وجودهما وبقاءهما في الحكم مرتبط بالمرور من ثقب التطبيع"
قيادي في حركة النهضة التونسية يؤكد أن الحركة ترفض من حيث المبدأ التطبيع مع إسرائيل ولكنها تتحفّظ على قانون تجريم التطبيع بسبب "ما قد يثيره من مشاكل لتونس التي تربطها علاقات سياسية واقتصادية مع قوى عربية ودولية"بدوره، أرجع الكحلاوي عدم استجابة القوى السياسية الحاكمة للمطالب الشعبية بتجريم التطبيع مع إسرائيل إلى أن "الإرادة الأجنبية تتحكم في قرارات السلطة التونسية"، من خلال وسائل الدعم المالي والاقتصادي، مؤكداً مواصلة هيئته التصدي لسياسات "الكيان الغاصب والقاتل". في المقابل، يُرجع القيادي في حركة النهضة البشير الخليفي تأخُّر البرلمان في سن قانون تجريم التطبيع مع إسرائيل إلى ما اعتبره أولويات تتحكّم في جدول أعمال البرلمان من بينها مناقشة القوانين الداخلية وإرساء وتنظيم المنظمات والهيئات الدستورية في تونس. وأكد الخليفي لرصيف22 أن حركته ترفض من حيث المبدأ التطبيع كممارسة، على غرار رفضها فتح تمثيليات لتونس في إسرائيل، غير أنها "تتحفّظ على هذا القانون لما قد يثيره من مشاكل لتونس التي تربطها علاقات سياسية واقتصادية مع قوى عربية ودولية وحتى مع منظمات أممية تُعنى بهذا الموضوع، ومن بينها جامعة الدول العربية والأمم المتحدة". في الإطار نفسه، يؤكد المحلل السياسي عبد اللطيف الحناشي أنه لا توجد علاقة رسمية معلنة بين تونس وإسرائيل، لكنه يعتبر أن "مسألة تجريم التطبيع مع إسرائيل سياسية بحتة، باعتبار أن تونس تخضع لقوانين المنظمات الإقليمية التي هي عضو فيها على غرار الأمم المتحدة والمنظمة الإفريقية التي ترفض تجريم التطبيع". وأوضح الحناشي لرصيف22 أن تونس، رغم بُعدها الجغرافي عن أرض الصراع، إلا أنها دائماً في صلب المعركة باعتبارها كانت حاضنة للقضية الفلسطينية في عدة مناسبات، مشيراً في المقابل إلى وجود بعض الأحزاب الموالية تماماً لإسرائيل، إضافة إلى شخصيات سياسية وأكاديمية وجمعيات وأصحاب رؤوس أموال "يلعبون دوراً كبيراً في عملية التطبيع بشكل خطير وغير مُعلن".
تاريخ العلاقة بين تونس وإسرائيل
بين الخفي والمُعلن، يبقى الحديث عن التطبيع بين تونس وإسرائيل رهين مسار العلاقات بين الجانبين وما تخللها من هزات وهُدن. يُلخّص المحلل المختص في العلاقات الدولية أمين بن مسعود لرصيف22 مسار العلاقة بين تونس وإسرائيل بمراحل مختلفة، أولها كانت قبل وأثناء وبعد نشأة الكيان الصهيوني، حين شهدت تونس حراكاً صهيونياً تمثل في وجود جمعيات تُعنى بالحركة الصهيونية وتطوّر في ما بعد إلى إصدار صحف يهودية تعبّر عن مواقف وخيارات المؤتمرات الصهيونية التي كانت تحصل آنذاك، على غرار مؤتمر عام 1897 في سويسرا. ومن بين هذه الصحف، يروي بن مسعود، كانت مجلّة "النجمة" في محافظة سوسة (الساحل التونسي) التي استمرت في الصدور إلى حدود عام 1948. ومع بداية دولة الاستقلال (1956)، مع الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة، بدأت هذه الجرائد في الاندثار لتدخل مرحلة النهاية الفعلية عام 1967، مع النكسة وهجرة معظم يهود تونس إلى إسرائيل، وفق ما ورد في كتاب الدكتور الهادي التيمومي "الحركة الصهيونية في تونس". ويُضيف بن مسعود أن المرحلة البورقيبية لم تشهد علاقات معلنة ومباشرة مع إسرائيل نظراً لما شهدته تلك الفترة من مقاطعة عربية شاملة لها واحتضان تونس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1982. غير أن فترة التسعينيات من القرن الماضي شهدت نقلة نوعية، أثناء فترة حكم الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، وتحديداً عام 1996، حين فُتحت مكاتب تمثيل بين الطرفين، لتبدأ مرحلة "ربيع التطبيع والانفتاح على إسرائيل"، بحسب تعبير بن مسعود. ولكن هذا "الربيع" لم يستمر طويلاً، إذ أغلقت مكاتب التمثيل بين الدولتين أبوابها مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، ولم تجرِ لقاءات رسمية بين تونسيين وإسرائيليين إلى حدود سنة 2005 تاريخ احتضان تونس للقمة العالمية لمجتمع المعلومات، وتفجير بن علي مفاجأة استدعائه إسرائيليين للمشاركة في القمة التي شهدت رفع العلم الإسرائيلي. ويشير بن مسعود إلى أنه منذ ثورة 2011، "يسود الغموض العلاقة بين إسرائيل وتونس إذ لا توجد علاقات مباشرة ولكن في المقابل لا يصدر عن الحكومة ما يشير إلى رفض وجود علاقات"، مذكّراً بأن الفاعلين السياسيين في تونس رفضوا النص في الدستور والقانون على تجريم التطبيع مع إسرائيل. ومن بين مظاهر هذا الغموض ارتباط بعض أعضاء الحكومات السابقة والحالية بعلاقات مع إسرائيل، من بينهم وزيرة السياحة السابقة آمال كربول التي قدّمت محاضرات في تل أبيب ووزير الخارجية الحالي خميس الجهيناوي الذي كان مدير مكتب العلاقات في تل أبيب، في التسعينيات. ويُوضح المحلل المختص في العلاقات الدولية أنه بصورة عامة لا توجد تربة سياسية وفكرية وحضارية وثقافية في تونس تقبل بالتطبيع مع إسرائيل، لا سيما بعد الثورة. وبرأيه، "حتى في الفترات التي تطوّرت فيها العلاقة نسبياً، كان الرأي العام التونسي والحاضنة الشعبية يمنعان أي طرف من الأطراف من اتخاذ موقف علني واضح يساند إسرائيل بأي شكل من الأشكال". في مقابل الصامتين، هناك جهات عادة ما تعبّر عن موقفها الرافض للتطبيع مع إسرائيل، على غرار منظمات المجتمع المدني واتحاد الشغل والأحزاب اليسارية والقومية وحتى الإسلامية (حركة النهضة) قبل انخراطها في لعبة الحكم والسلطة، حتى أن الإعلام التونسي ينخرط بصورة تامة في رفض التطبيع "من منطلق الإحساس بالانتماء"، بحسب بن مسعود.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...