وسط ذهول الجميع، قضت محكمة الاستئناف في مدينة الدار البيضاء، في الساعات الأولى من صباح اليوم السبت، بالحكم على الصحافي المغربي توفيق بوعشرين، ناشر جريدة "أخبار اليوم"، المُتابَع بِتُهم ثقيلة أبرزها الاغتصاب والاتجار بالبشر؛ بـ12 سنة من السجن النافذ وغرامة مالية وصلت إلى حوالي 200 ألف دولار أمريكي للضحايا المُفترضات. محاكمة بوعشرين، التي تُعرف في الأوساط الإعلامية المغربية باسم "محاكمة القرن"، شكّلت مادة دسمة للصحافة ورواد مواقع التواصل الاجتماعي منذ انطلاق فصولها مطلع مارس الماضي، وذلك بالنظر إلى المكانة التي يحظى بها اسم "توفيق بو عشرين" في الحقل الإعلامي المغربي والعربي، باعتباره كاتب أشهر افتتاحية يومية منتقدة للسلطة ودوائر القرار في المغرب خلال العشر سنوات الأخيرة. ففي يوم الجمعة 23 فبراير الماضي، داهمت فرقة أمنية مكتب مالك "أخبار اليوم" في مدينة الدار البيضاء من أجل اعتقاله بناءً على شكايات تتّهمه بالاغتصاب والتحرش الجنسي والاتجار بالبشر، لتتم متابعته منذ ذلك الوقت في حالة اعتقال إلى أن صدر الحكم في قضيته صباح اليوم.
بوعشرين: "أنا ضحيّة حرية التعبير، ولن أبيع ضميري"
قبل النُطق بالحكم، أخذ بوعشرين الكلمة ليدافع بشراسة عن نفسه ما يزيد عن ساعتين من الزمن، مؤكداً أنه ليس الشخص الذي يظهر في الأشرطة الجنسية التي حُجِزت في مكتبه في الجريدة، والتي استُعمِلت ضده كدليل قاطع لإدانته بهذه المدة الطويلة من السجن. واعتبر الصحافي المغربي المعروف أن محاكمته بِتُهم ثقيلة تأتي في سياق خاص يُعادي حرية الصحافة في البلاد، بقوله إن السلطة اعتقلته بسبب جرأته: "أنا ضحية حرية التعبير... أنا صحافي ولن أبيع ضميري ونفسي". وكان بوعشرين قد كشف، في تدوينة منسوبة إليه نُشرتْ على صفحته الرسمية في موقع فيسبوك سبتمبر الماضي، أنه تلقّى عرضاً مغرياً قبل شهرين من اعتقاله؛ إلا أنه رفضه على اعتبار أنه "ليس من مصلحة البلاد أن يُصبِح كل الصحافيين يعزفون لحناً واحداً ويشربون من كأس واحدة وينامون في فراش واحد...". / وفور صدور الحكم، انهار جُلُّ الحاضرين وتعالى صراخ وبكاء أقارب وأصدقاء بوعشرين، وشرعوا في ترديد شعارات ترفض الحكم، فيما سقط المؤرخ والمحلل السياسي المغربي البارز المعطي مُنجب، مغمياً عليه مباشرة بعد رفع الجلسة. https://youtu.be/7B1w4u-oaiM المحامي ووزير حقوق الإنسان الأسبق محمد زيّان أكّد في تصريحات لوسائل الإعلام، مباشرة بعد إدانة بو عشرين، أنه سيستمر في الدفاع عن مُوكّله إلى النهاية لأنه يُؤمنُ ببراءته، وأن المعركة القادمة ستكون في مرحلة الاستئناف. https://youtu.be/N0oECW5sbl4 من جهته، اعتبر المستشار البرلماني عن حزب "العدالة والتنمية" الإسلامي، الذي يقود الحكومة المغربية، عبد العالي حامي الدين أن الحكم على بو عشرين بـ12 سنة سجن "أَفشل عملية الاغتيال المعنوي لتوفيق بوعشرين وأنه أصبح اليوم بطلاً وطنياً يُناضِل من أجل حرية التعبير في المغرب".افتتاحيات بوعشرين... هل حقاً كانت مزعجة؟
خلال الثماني سنوات الماضية، صُنّف بو عشرين كأشهر كاتب رأي في المغرب. بعدما اضطر أبرز الصحافيين المغاربة المنتقدين للسلطة إلى مغادرة البلاد (أمثال أحمد بن شمسي وأبو بكر الجامعي)، تحولت افتتاحيات بوعشرين إلى منبر لتوجيه الانتقادات إلى السلطة والأحزاب السياسية وبعض الشخصيات المعروفة بقربها من مركز صناعة القرار في المملكة.قبل النُطق بالحكم، أخذ بوعشرين الكلمة ليدافع بشراسة عن نفسه ما يزيد عن ساعتين من الزمن، مؤكداً أنه ليس الشخص الذي يظهر في الأشرطة الجنسية التي حُجِزت في مكتبه في الجريدة، والتي استُعمِلت ضده كدليل قاطع لإدانته بهذه المدة الطويلة من السجن
فور صدور الحكم بـ12 سنة سجن، انهار جُلّ الحاضرين وتعالى صراخ أقارب وأصدقاء بوعشرين، فيما سقط المؤرخ والمحلل السياسي المغربي البارز المعطي مُنجب مغمياً عليهالمؤرخ المغربي والمحلل السياسي المعروف، المعطي مُنجب، كان قد قدّم لرصيف22 رأيه حول افتتاحيات ناشر جريدة "أخبار اليوم" بقوله: "كان توفيق بوعشرين أحد الصحافيين النادرين الذين يكتبون بخليط من الحرية والاعتدال عن الأقوياء، وهذا المزيج من النقد الرزين والصريح والذي يفضح أحياناً المستور، هو الذي أعطاه كل تلك المصداقية والشهرة والمقروئية التي حمته لبعض الوقت؛ والتي ستصبح في الأخير سبب مأساته اليوم، لمّا أحس الأقوياء أن السيل بلغ الزبى وأن القلم شاكس السيف أكثر مما تتحمل عجرفة السيف". وأضاف مُنجب قائلاً "ساند بوعشرين الربيع العربي ثم الربيع المغربي لما انفجر، ونظّم في الرباط ندوة نقاش فكري حوله شارك فيها معارضون وموالون للسلطة، في المقابل نظّم البلطجيون تظاهرة أمام مقر جريدته حُرقت خلالها نسخ من (أخبار اليوم) التي أصبح البعض يسميها جريدة (حركة 20 فبراير)".
أكثر من ذلك، حسب منجب، انتقد بوعشرين بشكل مُبرح حزب "الأصالة والمعاصرة" الذي أسّسته الدولة، و"آمن حق الإيمان بأنه إما الديمقراطية أو الطوفان، كما أنه انتقد القصر وانتقد الملياردير عزيز أخنوش، (وزير الفلاحة والصيد البحري ورئيس حزب التجمع الوطني للأحرار وصديق الملك) وانتقد أقوياء آخرين وساند حزب العدالة والتنمية الإسلامي لما مانع سيطرة القصر وانتقده لما حاد عن هذا السبيل ودخل بيت الطاعة مع الداخلين".
وخلال الأشهر القليلة التي سبقت اعتقاله، وجّه بوعشرين انتقادات لاذعة للحكومة المغربية ورئيسها سعد الدين العثماني، وبعض الوزراء المشاركين فيها؛ لكنه بالخصوص وجّه مدفعيته الثقيلة صوب رجل الأعمال الشهير أخنوش، مخصصاً عدداً من الافتتاحيات لانتقاده، من قبيل الافتتاحية الشهيرة "أخنوش ولد الفْشُوشْ".
وكان كتب فيها: "سامح الله من دفع عزيز أخنوش ليلعب فوق مسرح السياسة أدواراً أكبر منه، فلا يمكن للإنسان إلا أن يتعاطف مع الرجل وهو يراه يكابد من أجل ملء مقعد أكبر منه، وظني أن الملياردير سوف يندم لأنه لم يعرف كيف يعتذر عن الدور الذي أعطي له، وبيننا الزمن...".
وبمناسبة عيد ميلاد الملك المغربي محمد السادس، في أغسطس 2017، كتب بوعشرين:"الحُكم ليس نزهة على الشاطئ في طقس معتدل، والملك متعب حتى وإن استقر صاحبه في أجمل القصور، وأحاط نفسه بكل متع الدنيا... احتفى ملك البلاد، يوم الاثنين، بعيد ميلاده الـ54 في أجواء لا تدعو إلى الفرح، لا الشخصي ولا الجماعي، في بلد يعيش أزمة عميقة... ما عاد محمد السادس شاباً، ولا عهده جديداً، ولا حكمه بلا سوابق...".
خاشقجي حذّر بوعشرين: "لا تذهب إلى السعودية، ستتم تصفيتك"
لم تكن افتتاحيات توفيق بوعشرين تتطرق للشأن المغربي فحسب، بل كانت منبراً يُناقش تطورات الوضع في كل البلدان العربية، خاصة في تونس؛ مهد الربيع العربي، ومصر والمملكة العربية السعودية. يقول بو عشرين، في تدوينة نُسبت له ونُشرت على صفحته الرسمية على فيسبوك يوم السبت 20 أكتوبر: "رعب في بلاد الحرمين... مقالات كتَبتُها عن المملكة العربية السعودية وولي عهدها محمد بن سلمان، جعلت صديقي جمال خاشقجي يُحذرُني بهذه العبارة (أخي توفيق... لا أنصحك أن تفكر في عمرة أو حج إلى بلاد الحرمين بعد هذه المقالات، ستتِمّ تصفيتك هناك أو بطريقة أخرى في وسط الرباط... لقد بلّغتُك!)". ثم أضاف في تدوينة ثانية نُشرت بعدها يقول: "لما نشرت افتتاحية "أمير يبيع الوهم"، أناقش فيها وعود محمد بن سلمان بتحديث البلاد بدون حداثة ولا ديموقراطية، اتصل بي صديقي خاشقجي من واشنطن -رحمه الله- وحذرني من مغبة الانتقام مني بسبب انتقاد حاكم الرياض الجديد، وقال لي: أنا أعرف عقليتهم...". / وكان المحامي عبد المولى المروري، قد خلق جدلاً داخل المحكمة الأسبوع الماضي، بربطه بين محاكمة بوعشرين وكتاباته حول النظام السعودي بالقول إن محاكمته سببها مواقفه من النظام في المملكة العربية السعودية، قبل أن تقاطعه هيئة الحكم وتُلزمه بالترافع في الملف في جوانبه القانونية؛ بعيداً عن كل ما هو سياسي، على اعتبار أن صكّ اتهام بوعشرين لا علاقة له بكتاباته وآراءه التي كان ينشرها في جريدته. وبالحكم اليوم على بوعشرين (49 سنة)، فقد تأكّد أن تجربته الصحافية في المغرب قد انتهت بالفعل، وأنه على الأرجح لن يعود إلى مزاولة مهنة الصحافة في المملكة مستقبلاً؛ ويبقى غياب افتتاحياته اليومية وأسلوبه اللاذع في الكتابة في الحقيقة خسارة فادحة للوسط الإعلامي المغربي الذي سيكون قد فقد من يُعدّ من آخر الصحافيين المشهود لهم بالاستقلالية والجرأة خلال العقد الأخير.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...