لن نستخدم مسلسل Black Mirror والحلقة الثانيّة من الموسم الأول التي تتحدث عن أقفاص تكنولوجيّة كمثال أو تمهيد من الثقافة الشعبية لهذا المقال، بل أبسط من ذلك، سنتحدث عن حوض السمك.
حوض السمك الموجود في بيوت الكثيرين، القفص الزجاجي الشفاف، يحوي داخله نظاماً حيوياً متكاملاً، يُوفرُ شروطاً مثاليّة للأسماك، بدءاً من درجة حرارة المياه حتى طبيعة الطعام الذي ستأكله، وأهم ما يميزه، أنه مصمم كي تشعر السمكة أنها في "بيتها".
أو كما تَعلمنا في كتب العلوم هو "نظام بيئي مصغّر"، والأهم، أنه غرض للزينة، فأحواض الأسماك لا تهدف للحفاظ على سلالات السمك من الانقراض، بل هي أغراض لتزيين حياتنا، وموضوعات نتأملها من وراء الزجاج وهي تأكل وتسبح وتتكاثر.
لنفكر بهذا الحوض بوصفه قفصاً، ولنأخذ بعين الاعتبار المحركات التي تجعله يحمل الخصائص السابقة (تأمين شروط الحياة، الزينة)، ولنعد إلى الألمانيّ هاغنبيك الذي ذكرناه سابقاً، المُغامر وصاحب حديقة الحيوان والبشر الإكزوتيكيين.
المميز في تجربة هاغنبيك أنه رائد ثوري في مجال صناعة حدائق الحيوان، فقد ألغى الأقفاص الصغيرة والواضحة، وألغى القضبان الحديديّة، وجعل كائناته الإيكزوتكيّة ضمن مساحات اصطناعيّة مشابهة لأماكن عيشهم الطبيعيّة، سواء كانت هذه الكائنات نمور مهددة بالانقراض، أو أفراد قبيلة أصلية من جنوب أمريكا.
كما أتاح للزوار أن يتنقلوا ضمن "البيئة الطبيعيّة" للموضوعات الموجودة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هناك دوماً فصلٌ رمزي وثقافيّ بين الزائر وبين المحتجز، أساسه نمط الحياة الذي يمارسه المحتجزون الممنوعون من المغادرة.
أقفاص هاغنبيك تؤمن للموجودين فيها متطلبات حياتهم بالحد الأدنى (الطعام- الشراب- المأوى)، كما بإمكانهم أيضاً الحركة ضمنها دون قيود، وهذا ما يجعلهم عرضة للفرجة من قبل المتنزهين في الحديقة أو من يريدون مشاهدة أولئك المختلفين، الذين يمكن أن يكون بعضهم آكلي بشر يقومون بـ"طقوسهم" لتسلية المشاهدين.
هؤلاء المحتجزون محكومون بسيناريو يجعل فعلاً بسيطاً كشرب الماء مشابه للرقص التقليدي، فكل ما يقومون به صالح "للفرجة"، فالاستعراض العلنيّ ضمن القفص، يبرر وجوده، كإطارٍ يحتوي البربري المتوحش أو المختلف، ذاك الذي تُخلق ظروفٌ اصطناعيّة لحياته، كونه ليس مواطناً بعد، لكن هناك احتمال أن يكون كذلك في لحظة ما، لولا أن السفينة ستعيده إلى موطنه الأصليّ في لحظة ما.
هو مُنتج للفرجة فقط والنقيض المتمايز شكلاً ومضموناً عن من هم خارج القفص.
كيف تترسخ الأساطير الوطنيّة عن الحضارة والامتياز الحداثي عبر مشاهدة طقوس اللاجئين بوصفها "ترفيها" ونوعاً من السيرك الجديد
حكايات اللاجئين تثير اهتمام الفضوليين، أولئك الراغبين بأن يعرفوا أكثر، وأن يتضامنوا أخلاقياً مع قضايا "الآخرين"، الذين لا يقيمون في المكان عنوة، بل ضمن شرط أشبه بالابتزاز: المأوى مقابل الاستعراض
أقفاص الحياة الاصطناعيّة
أقفاص هاغنبيك الآن لم تعد تحوي بشراً ، إلا أن الحديقة مازالت موجودة، وبالإمكان أن نرى على بواباتها إلى جانب تماثيل الفيلة والنمور، تماثيل لــ"محاربين" من أفريقيا، كجزء من تاريخ الحديقة العنصري. ما يثير الاهتمام أيضاً أن تقنيات عزل واستعراض البشر التي وظّفها هاغنبيك في بداية القرن ما زالت قائمة. صحيح أنه لم تعد هناك حدائق يمكن التنزه بها ومشاهدة "البرابرة"، لكن هناك التقارير التلفزيونيّة والصور التي تتسلل إلى الشاشات، إذ لم يعد هناك داع لأن يأتي المواطنون لزيارة المختلفين، بل تكفي كاميرا تلفزيونيّة واحدة تدخل لأي مخيم لالتقاط الحياة هناك، ومشاهدة كيف يأكل طالبو اللجوء، وكيف يمشون ويشربون الشاي، ويرقصون ويدبكون، صحيح لا توجد قضبان، لكن هناك عزل بالقوة، ورجال شرطة يضبطون الحركة و"النشاط" ضمن مساحة المخيم. كذلك هناك سياسات التصنيف التي يخضع لها "القاطنون"، ودورات واندماج إجباريّة لتطبيعهم. هم مكدسون في مساحات اصطناعيّة لضبط سلوكهم والتهديد بالخطر الذي قد يشكلونه على المواطن الآمن، الذي يرى عبر الشاشة الاختلاف بينه وبينهم، بل ويفهم ضرورة الاندماج وسياسات العزل بوصفها لحمايته، وترسيخ أساطيره الوطنيّة عن الحضارة والامتياز الحداثي عبر مشاهدة طقوس هؤلاء بوصفها ترفيها ونوعاً من السيرك. قاطنو مساحات العزل لا يستطيعون الخروج، هم لا يمتلكون أوراقاً قانونية كافية تضمن نجاتهم في الخارج، وفي المخيم، هم أحياء على الحافة، سياسات العزل هذه أو "خطر تجاوز القضبان" تُحضر في فرنسا، التي تحوي قوانين تمنع مساعدة من لا يمتلكون أوراقاً رسميّة أو تصريحات لدخول الأراضي الفرنسيّة، ما خلق معضلة "جريمة الضيافة" حسب تعبير جاك دريدا في التسعينات، والتي نراها الآن بوضوح. إذ جُرّم العام الماضي المواطن الفرنسي سيدريك هيرو لأنه سهّل دخول 200 "غريب" إلى فرنسا وساعدهم على اجتياز الحدود، هذه الإجراءات تجعل الحس بالضيافة سياسياً وتنزع عنه صفة القيمة الديمقراطية، لتكون العدوانيّة لا فقط نتاج ممارسات السلطة، بل أيضاً وليدة خوف المواطنين من العقاب.المأوى مقابل الاستعراض
هناك شكل لآخر للأقفاص، ولا نقصد هنا مخيمات اللجوء، بل مؤسسات ومساحات مدنيّة تستقبل طالبي اللجوء، أولئك الذين لا يمتلكون حق العمل، هي توفر لهم شروط الحياة بالحدّ الأدنى، لكن بالمقابل، تطالب بظهورهم، وتضعهم ضمن شرط أخلاقيّ، نوفّر لك مأوى وطعام كي تشارك علناً فيما نقدمه، لتحكي حكاياتك، أو تعرض صورك ومقالاتك ومنحوتاتك. تمارس هذه الأقفاص سلطة أخلاقية، تستفيد من مساحة التعليق القانونيّة و"مواهب" الموجودين، كي تؤمن لهم حياتهم، هي أشبه بمحميات، يعلم القائمون عليها أن لا مجال للنجاة خارجها، فنرى "المقيمين" دوماً عرضة للمشاركة العلنيّة في "أنشطة ثقافيّة"، فكل يوم هناك اجتماع أو وسيلة للاستفادة من حكاياتهم ومنتجاتهم. هذه الديناميكيّة لا تسعى لتوفير شروط الاستقرار على المدى الطويل، أو السعي لتأمين الحياة خارج "المحميّة"، بل تهدف للترويج لها، دون أي اعتبارات للمتغيرات النفسيّة والضغوط الذي تعرض لها "الناجون"، وتختلف عن القفص السابق بشكل "الاستعراض". فعوضاً عن أن يأتي المواطنون لمشاهدة الحياة اليوميّة والطقوس الغرائبيّة، نراهم يحضرون معارض ومؤتمرات وندوات "يظهر" فيها شاغلوا "القفص" إما للحديث عن طريق الهرب أو الحياة في "المكان الأصلي"، أو عن التغيرات التي يمرون بها الآن، كلّها حكايات تثير اهتمام الفضوليين، أولئك الراغبين بأن يعرفوا أكثر، وأن يتضامنوا أخلاقياً مع قضايا "الآخرين"، الذين لا يقيمون في المكان عنوة، بل ضمن شرط أشبه بالابتزاز، المأوى مقابل الاستعراض.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...