المواطنة الاستعراضيّة: أنْ نستبدل العدالة باللعب
الثلاثاء 23 أكتوبر 201807:38 م
هل من داع لتكرار ما قال أدورنو عن الشعر؟ وبربريته بعد أوشفيتز؟ لا، لنترك كاره الجاز جانباً، ولنقرأ ويكيبيديا المتاحة للجميع.
ولنقرأ بصورة أدق عن الغارنيكا، الجداريّة الشهيرة لا المدينة، ولنتجاهل التحليل الفنيّ المرتبط بها ودلالاتها، والتي قال بيكاسو، كما هو مذكور في ويكيبيديا أيضاً أن "الثور هو الثور، والحصان هو الحصان..."، لنقرأ بصورة أدقّ عن تنقلها واستعراضها العلنيّ كغرض فيزيائي لابد من رؤيته لتلقيه.
بعد القراءة السريعة نرى أنها عرضت للمرة الأولى عام 1937 في باريس على المنصة الإسبانيّة أثناء "المعرض العالميّ للفنون والتقنيات في الحياة المعاصرة" ونقرأ أيضاً أن هذه المنصة، كانت مدعومة من الجمهوريين الإسبان، المعارضين لفرانكو والذين خسروا الحرب الأهليّة.
بعدها وحتى عام 1981 لم تدخل اللوحة إسبانيا، فبيكاسو رفض أن تعرض في مدريد في حال لم تكن هناك حكومة ديمقراطيّة، بل ورفض طلب فرانكو الذي أراد أن تعود اللوحة، فمؤسس التكعيبيّة تجاهل أن تلك الفترة لم تكن تحوي سكايب أو فايس بوك أو أي وسيلة لنقل الصور والتسجيلات.
هنا لابدّ من بعض الأسئلة، لِمَ لَمْ يَقلْ بيكاسو أن الشعب الاسباني بحاجة لرؤية الجدارية الشهيرّة وقام بعرضها لاحقاً في إسبانيا؟ ولم لم يتحامق ويقول أن الفن لا علاقة له بالسياسة؟ ولم رفض أن يقام معرض شامل لأعماله في منصف الخمسينات في مدريد بالرغم من وساطات فرانكو؟
ما يمكن فهمه مما سبق، أن المُنتجً الفنيّ لا يكون سياسياً فقط في مضمونه، بل في طريقة عرضه ومساحة مرئيته.
ذات الشيء ينسحب على الفاعلين في الفضاء الثقافيّ، فحضورهم العلنيّ ضمن مساحة استعراض وعرض ما، هو اختزال للقوى والجهود السياسيّة التي أتاحت وصولهم وسهلت إنتاجهم.
الكلام النظري السابق يتضح في بيان بثّ خلال اختتام فعاليات الدورة التاسعة والعشرين لمهرجان الفيلم العربي بـ"فاميك" (شرق فرنسا) ويقول فيه أعضاء لجنة التحكيم:
"نظراً لاختيارات المهرجان، خاصة بمشاركة فيلم يمثل سوريا في المسابقة (المقصود فيلم جود سعيد رجل وثلاثة أيام)، وجدنا أنه من الواجب توجيه تحية للفنانين الكثر الذين دفعوا حياتهم ثمناً لمواقفهم، نذكر منهم، على سبيل المثال لا الحصر، باسل شحادة وعدنان زراعي وتامر العوام، كذلك إلى كل من هم في السجون والمضطهدين والمنفيين بسبب قمع نظام بشار الأسد".
ظهور العمل الفنيّ، فيلم، لوحة، كتاب، في مساحة ما، سواء عبر إنتاجه أو نَشره، يعني تواطؤاً كليّاً مع هذه المساحة وبناها الثقافيّة والسياسيّة، حتى لو لم يكن يحمل هذا المنتج أي سياسة في داخله، لكنه "مسموح به".
وكما في سوريا مثلاً "السماح" يمر بذات قنوات "المنع"، والمُنتج مُحمّل __ولو لم يكن ذلك واضحاً__ بالرسائل السياسيّة، حتى لو كان لوحات لنساء عاريات، فكيف لو كانت العدسة تلتقط الدمار الذي ولدته الحرب وتقنياتها ، بوصفه عنصراً جمالياً.
وهذا ما نراه الآن، فيما يخص العلاقة بين المعارضين للنظام السوريّ والمؤيدين له، والمقصود الفاعلين في القطاع الثقافيّ، لا الناس العاديين، بل أولئك الذين تتحرك ورائهم جهود إنتاج وقنوات للاستعراض والنشر والتبادل، والذين نرى صورهم سويّة، لا بوصفها مأخوذة سراً، أو مسربّة، بل موضوعة للعلن.
فنحن أمام استعراض غير رسمي، استعراض للتسلية، كصورة في حفل استقبال مثلاً، تجمع أفراداً مختلفين سياسياً في سياقات اللعب والأخوّة الإنسانيّة، لكن من السذاجة، اعتبار هذه الصور لا سياسيّة، نحن أمام موضوعات رمزيّة هنا، لا مجرد حياة شخصيّة، لسبب بسيط هو أن هذه الصور علنيّة.
فالصورة المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي لا تهدف للذكرى، بل للاستعراض حكماً، وهنا تبرز سياسات التجانس ضمن إطار اللعب والترفيه العلنيّ الذي يتمازح فيه بودّ، مُخرج سوري معارض مرشح للأوسكار، مع ممثل سوري آخر شهير بتأيده لجيش النظام السوريّ.
ما يخفيه الاستعراض، هو نوع من العلاقات الساذجة التي تحاول أن تخفي الماكينة الإنتاجية والسياسية وراء كل منهما، والاختلافات بين البنيتين التي يمثلهما كل واحد منهما، والتي يمكن أن تتلاشى فجأة إثر سيلفي عفويّة أو ضحكات متبادلة، بالرغم أن كل منهما في السياق الرسميّ لا يتفق مع الآخر -نظريا- حسب مضمون ما ينتجانه أو يشاركن بإنتاجه.
لكن، للأسف، وقت اللعب والمرح العلنيّ مُختلف، ولا سياسي حسب تبريرات البعض.
الاختفاء السابق سواء كان خياراً شخصياً أو نتيجة لحدث ما أو موقف سياسيّ ما، هو جزء من القيمة السياسية للفنان أو الكاتب أو الفاعل في الوسط العام، ويعكس دوره وموقفه سواء أراد ذلك أم لا، وخصوصاً أننا في زمن يجعلنا شديدي المرئيّة، ومسيسين لدرجة من السذاجة تجاهلها، أو ادّعاء الانفصال عنها، وفي كل مرة يتكرر فيها هذاالظهور والتآخي، تترسخ هذه الأعراف الجديدة، وتتساوى البروباغاندا مع العمل الفنيّ، وتستبدل العدالة باللعب.
المُنتجً الفنيّ لا يكون سياسياً فقط في مضمونه، بل في طريقة عرضه ومساحة مرئيته
ذات الشيء ينسحب على الفاعلين في الفضاء الثقافيّ، فحضورهم العلنيّ ضمن مساحة استعراض وعرض ما، هو اختزال للقوى والجهود السياسيّة التي أتاحت وصولهم وسهلت إنتاجهم.
الكلام النظري السابق يتضح في بيان بثّ خلال اختتام فعاليات الدورة التاسعة والعشرين لمهرجان الفيلم العربي بـ"فاميك" (شرق فرنسا) ويقول فيه أعضاء لجنة التحكيم:
"نظراً لاختيارات المهرجان، خاصة بمشاركة فيلم يمثل سوريا في المسابقة (المقصود فيلم جود سعيد رجل وثلاثة أيام)، وجدنا أنه من الواجب توجيه تحية للفنانين الكثر الذين دفعوا حياتهم ثمناً لمواقفهم، نذكر منهم، على سبيل المثال لا الحصر، باسل شحادة وعدنان زراعي وتامر العوام، كذلك إلى كل من هم في السجون والمضطهدين والمنفيين بسبب قمع نظام بشار الأسد".
ظهور العمل الفنيّ، فيلم، لوحة، كتاب، في مساحة ما، سواء عبر إنتاجه أو نَشره، يعني تواطؤاً كليّاً مع هذه المساحة وبناها الثقافيّة والسياسيّة، حتى لو لم يكن يحمل هذا المنتج أي سياسة في داخله، لكنه "مسموح به".
وكما في سوريا مثلاً "السماح" يمر بذات قنوات "المنع"، والمُنتج مُحمّل __ولو لم يكن ذلك واضحاً__ بالرسائل السياسيّة، حتى لو كان لوحات لنساء عاريات، فكيف لو كانت العدسة تلتقط الدمار الذي ولدته الحرب وتقنياتها ، بوصفه عنصراً جمالياً.ظهور العمل الفنيّ ــ فيلم، لوحة، كتاب ــ في مساحة ما، سواء عبر إنتاجه أو نَشره، يعني تواطؤاً كليّاً مع هذه المساحة وبناها الثقافيّة والسياسيّة، حتى لو لم يكن هذا المنتج يحمل أي سياسة في داخله، لكنه "مسموح به".
المواطنة الاستعراضية: أشكال من الأداء العلنيّ والتمثيل الثقافيّ التي تجمع المختلفين ضمن إطار واحد، وهو إطار الترفيه والتسليّة، التي ينصاع لها البعض دون وعي، أو إدراك بأن حضورهم يساهم في تطبيع البُنى التي هجّرت البعض، وتركت البعض بلا عمل.
شخصيات عامة قلقة
ضمن المنطق السابق، الشخص الفاعل والمُنتج علناً في السياق الثقافيّ، لا ينفصل عن عمله، ولا عن السياسات التي أنتجت هذا العمل، وسلسلة السيكتشات التي أنجزها بيكاسو لستالين، هي منتجات ثقافيّة سياسيّة، ولو كانت خربشات، كونها مرئيّة وعلنيّة، وتمجّد طاغيّة ولا تختلف عن صوره الشخصية مع قيادات من الاتحاد السوفيتي.