"الجالية اليهودية في ليبيا كانت كوزموبوليتية، مزدهرة ومثقفة. وفاة جدة الكاتبة أعاد الذكريات حول تلك الجالية النابضة بالحياة التي يبدو وكأنها تبخّرت في الهواء". هكذا قدّمت صحيفة "هآرتس" لشهادة الكاتبة إيناس الياس التي سعت خلف حكايات اليهود في ليبيا، بحثت عن الأماكن التي أثروها بوجودهم، وربطت الخيوط السياسية والعسكرية التي أدت إلى اختفائهم من ليبيا، دون أن يكون لهم في المقابل حضور لافت في رواية الهولوكوست أو على الساحة اليهودية. تبدأ الياس شهادتها من موت جدتها قبل ثلاثة أسابيع. جدتها التي عاشت في طرابلس حتى عمر الثالثة عشر قبل أن تغادر مع عائلتها إلى إسرائيل، هناك حيث قابلت جدها الآتي من بنغازي. وبينما تروي حكايا منزل جدتها المليء بالفرح والزوار، تقول إن حياتها في طرابلس لم تكن بصعوبة تلك التي عاشتها في إسرائيل. لقد كانت امرأة مثقفة، تتقن أربع لغات (العربية والإيطالية والإنكليزية واللاتينية)، تحب فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ، وشديدة الولع بالرقص. "قصة جدي وجدتي، هي قصة مجتمع قديم اختفى من ليبيا ووجد نفسه في إسرائيل، محملاً بعادات وتقاليد منذ آلاف السنين"، من هنا ولدت حشرية الكاتبة لفهم تلك الثقافة التي أتت منها، والتي تتحكم بـ"الشخص الذي هي عليه اليوم". بعد وفاة جدتها، اكتشفت أن هذا المزيج الذي كانت تحمله من حب للحياة وانفتاح على الآخر هو ميزة حملتها من المكان الذي ترعرت فيه.
مجتمع تقليدي… واحتلال إيطالي
كان المجتمع الليبي مقسوماً بشكل أساسي بين المناطق الحضرية في طرابلس وضواحيها، وبين مناطق ريفية حول بنغازي. الآتون من طرابلس كانوا يُعرفون بمزاجهم الدافئ وسعيهم للاستمتاع بملذات الحياة، يحبون الكلام والتسلية على عكس سكان بنغازي الذي يأتي منهم جد الكاتبة، فهؤلاء كانوا أكثر انطواء وصرامة. لا يحبون الكلام، يعيشون بهدوء ويقبلون بالصدف. تعود الياس إلى مرحلة قدوم اليهود إلى ليبيا، فتقول إنهم أتوا في أواخر القرن الخامس عشر من إسبانيا وإيطاليا والبرتغال وعاشوا في ليبيا حتى القرن العشرين. وبناء على كتاب "اليهود في ليبيا: التعايش والاضطهاد وإعادة التوطين" للكاتب موريس روماني، فقد وصلت الجالية اليهودية في ليبيا عام 1904 إلى 18 ألف نسمة. الأكثرية منها، أي حوالي 12 ألفاً، كانت تعيش في طرابلس وحولها. ومع حلول عام 1939 وصل عدد اليهود إلى 30 ألفاً، وارتفع إلى 32670 في عام 1948. كان معظم اليهود من الطبقة الوسطى/الدنيا. كانوا تقليديين في سلوكهم، ولم يحتضنوا التغييرات التي ولدتها بداية مرحلة التحديث في ليبيا في نهاية القرن التاسع عشر، على عكس أقلية من اليهود الليبيين الذين كانوا أكثر ثراءً وتأثروا بالثقافة الأوروبية. وقد بدأ التوتر بالتصاعد بين المجموعتين ثم تفاقم بسبب الاحتلال الإيطالي الذي امتد بين عامي 1911 و1943. في الوقت نفسه، ولّد الاحتلال - الذي دام 32 عاماً - العديد من التغييرات في المجتمع اليهودي ، بما في ذلك تحسين الحقوق المدنية والاقتصاد وتأمين معدل تعليم أعلى. وقد دخل اليهود ضمن البيروقراطية الاستعمارية فنشطوا في مجال التجارة مع أوروبا."قصة جدي وجدتي، هي قصة مجتمع قديم اختفى من ليبيا ووجد نفسه في إسرائيل، محملاً بعادات وتقاليد منذ آلاف السنين"
في سبتمبر عام 1938، ونتيجة التحالف بين ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، تمّ استحداث قوانين جديدة ومنها منع اليهود من الحصول على إقامات دائمة في إيطاليا وليبيا ومناطق أخرى، كما تم منعهم من ارتياد المدارس الرسمية. تمّ تحريم الزيجات والتعامل التجاري بين اليهود وغير اليهود...وهنا يشير عالم الاجتماع شلومو سويرسكي، في كتابه "بذور عدم المساواة" (بالعبرية ، 1995)، إلى أن هذه العملية غالباً ما أدت إلى تضييق الخلافات الطبقية والتعارف السياسي والثقافي لبعض النخبة اليهودية مع الأوروبيين. كان هذا هو الحال مع النخبة في طرابلس التي تبنت الثقافة الإيطالية. أدخلت السلطات الاستعمارية اللغة الإيطالية إلى المدارس اليهودية في ليبيا، بينما كانت التجارة تتوسع بين الأخيرة وإيطاليا لتتوسع معها الثقافة الغربية وقيمها داخل المجتمع الليبي. يشير روماني، في السياق، إلى أنه وخلال الاحتلال الإيطالي كان هناك حوالي 43.8 في المئة من الرجال اليهودي 29.7 في المئة من النساء يتكلمون الإيطالية. وكانت هذه الظاهرة منتشرة أكثر في بنغازي، حيث كان الرجال الذي يتحدثون الإيطالية بنسبة 67.1 في المئة مقابل 40.8 في المئة من النساء. وهناك استثمر الإيطاليون في تحسين مستوى الحياة في "حارة اليهود". وفي مطلع العشرينات، بدأ اليهود بتوسيع أعمالهم في أسواق جديدة، ومع قدوم الثلاثينات كان العديد منهم أصحاب شركات، لكن في المقابل قلص الإيطاليون من سلطة زعماء ومسؤولي اليهود هناك، فقد كان متاحاً لهؤلاء الانخراط في الأمور الثقافية والاجتماعية حصراً. يقول روماني إن التعليم في ليبيا كان منخفض المستوى، إذ كان محصوراً بالمعابد اليهودية والمنازل الخاصة، ولكن في نهاية القرن التاسع عشر، تمّ تأهيل التعليم اليهودي، وبدأت المدارس بإدخال مواد غير دينية واللغة الإيطالية. وفي عام 1890، تم افتتاح ثلاث مدارس فرنسية في ليبيا، تقدم تعليماً فرنسياً - صهيونياً. وعلى عكس جدة الكاتبة التي لم تهتم بالشؤون السياسية، كان جدها متحمساً للصهيونية، وقد ساعد الحركات الصهيونية في بنغازي من خلال نقل الطرود والرسائل. وكانت الحركة الصهيونية وصلت إلى إيطاليا في أواخر القرن التاسع عشر، لكنها لم تنطلق إلا بعد بداية الاحتلال الإيطالي وقد حركت النخبة الاجتماعية والثقافية فضلاً عن فئة الشباب. وفي العشرينيات والثلاثينيات تم افتتاح مدارس تعلّم العبرية ومكتبات عبرية كثيرة في بنغازي، حيث كان الصهاينة في طرابلس يعتقدون أنه من الضروري لليهود أن يتعلموا اللغة العبرية من أجل مواجهة تأثير الإيطاليين الذين جعلوهم مجتمعاً أقل تقليدية وأبعدوهم عن المجتمع. وقد عقدت الحركة الصهيونية في ليبيا فعاليات ثقافية، نشرت صحيفة أسبوعية، أسست روابط رياضية وحركات شبابية وحتى مجموعة دينية موجهة للكيبوتز.
تأثير موسوليني
في سبتمبر عام 1938، ونتيجة التحالف بين ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، تمّ استحداث قوانين جديدة ومنها منع اليهود من الحصول على إقامات دائمة في إيطاليا وليبيا ومناطق أخرى، كما تم منعهم من ارتياد المدارس الرسمية. تمّ تحريم الزيجات والتعامل التجاري بين اليهود وغير اليهود. وسريعاً، تم فصل اليهود من الخدمة في الوزارات الحكومية والبلديات والبنوك والمؤسسات العامة، وعانى اليهود الليبيين ما عانوه من انتهاكات إضافية على أيدي الشرطة الإيطالية والمؤسسات الإيطالية. صحيح أن الدور الكبير الذي لعبه اليهود في الاقتصاد الليبي خفّف من حدة عنصرية تلك القوانين عليهم بداية، إلا أن انخراط إيطاليا المتزايد في الحرب جعل الأمور تسوء. في إحدى التقارير العائدة للشرطة الإيطالية في ميلانو عام 1938، يظهر أن اليهود الليبيين كانوا يتمتعون بقوة مالية تثير الإعجاب مقارنة بالقوة المالية الإيطالية لجهة تقديم الحسومات والسرعة في التعامل في مقابل بطء المصارف الإيطالية، لكن مع تزايد حدة الحرب تمّ حصر اليهود من حاملي الجنسية الليبية في مخيمات في طرابلس، هناك حيث سُجن جدّ الكاتبة وعائلته على سبيل المثال. أما اليهود من حاملي الجنسيات الأوروبية، فتم إرسالهم إلى مخيمات أوروبية كما في ألمانيا والنمسا. أدت الظروف المروعة في المخيمات إلى انتشار الأوبئة التي أودت بحياة العديد من الأشخاص، كما تفاقمت هذه الظروف مع الأعمال الوحشية والإهانة والاضطهاد من قبل الضباط الإيطاليين. في كل يوم، كان الرجال يُجبرون على القيام بساعات طويلة من العمل المضني، وقد قُتل العديد من أفراد عائلة الكاتبة في المعسكر. أما والدة الجد فقد ضُبطت وهي تبيع دمى للعرب من وراء سياج المخيم، فضربها ضابط إيطالي على ظهرها، ما أبقاها مشلولة طوال حياتها. لاحقاً، فرّ والد الجدّ إلى مصر مع ابنه الأكبر، ثم اجتمع شمل العائلة في إسرائيل عام 1949. كانت حياة اليهود الليبيين في ليبيا، حتى القادمين من بنغازي، أكثر سعادة ورخاء من تلك التي كانت تنتظرهم في إسرائيل، وقد واجهوا مشكلات عديدة في الحصول على منازل وعمل، بحسب الكاتبة. وفي عام 2008، كان عددهم قد وصل هناك إلى 130 ألف يهودي ليبي. لم يكن سهلاً على هؤلاء الاندماج في المجتمع الإسرائيلي، فقد كان التمييز بحقهم رسمياً ومؤسساتياً، كما كان اجتماعياً، على عكس اليهود الليبيين الذي توجهوا إلى ريطاليا حيث استطاعوا لعب دور جيّد في الاقتصاد والتجارة هناك. وكان باحثون كثر تناولوا سبب غياب اليهود العرب، وتحديداً الليبيين، عن رواية الهولوكست، بينما رأوا أنها رواية أكثر أوروبية تحتضن اليهود الأوروبيين، بينما لاحق العرب الكثير من التهميش والتنميط.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ اسبوعينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...