وسط تلهف لعشاقه، وتوجس من كارهيه ومنافسيه، يصعد عبد الحليم حافظ على المسرح، فتشرع الفرقة الموسيقية في ضبط آلاتها، فهذا يشد أوتار كمانه، وذاك يُربّت بحنوّ على إطار الدف، وآخر يحتضن الطبلة، ثم يمسك العندليب بالميكروفون، ويستهل الحفل بالتعريف بضلعي أغنيته الجديدة، قائلًا: «النهارده هغنيلكم (زي الهوى)، كتب كلماتها الشاعر محمد حمزة، ولحنّها موسيقارنا الشاب، وأمل مصر في الموسيقى بليغ حمدي»، وبعدها يعيش جمهوره في حالة من الوجد، من خلال موسيقى بليغ الغارقة في الشرقية، وكلمات حمزة التي تحكي موضوعًا عن حسرة الفراق في اللحظة الأخيرة.
أثناء استهلال حليم بالتعريف بضلعي الأغنية، لم يخطر ببال أحد السؤال، لماذا لا تكون أنثى هي التي كتبت تلك الكلمات فيكون وقعها أشد وطأة؟ الإجابة كانت عند الأديب عباس العقاد قبلها بثلاثة عقود: النساء لا يصلحن للأدب ولا للشعر، وذلك في كتابه «شعراء مصر وبيئاتهم» عام 1937.
كان رأي العقاد موجهًا لكاتبات القصة وشعر الفصحى، فماذا سيكون رأيه لو سُئل عن كاتبات الشعر العامي الذي يُعد كُتابها (ذكورًا وإناثًا) أقل قيمة في نظر الكثير من المثقفين؟
المرأة لا تصلح.. كلهم ساروا على نهج العقاد!
«شعر العامية بطبيعة الحال مستهجن في مصر على مدار تاريخه، فما بالك إذا كانت تكتبه امرأة في مجتمع يكره كل ما تنتجه من إبداع ويعتبره محض ثرثرة نسائية، فالعقاد قال بذلك، ومن بعده ردد نفس الحديث شاعر كبير بحجم أحمد عبد المعطي حجازي». بهذه الكلمات استهل الشاعر والناقد شعبان يوسف، حديثه لـ«رصيف 22»، مُشيرًا إلى أن وجودهن في الحقب الزمنية المختلفة كان على استحياء، يبرزن فجأة ويختفين فجأة. ويضيف شعبان صاحب كتاب «لماذا تموت الكاتبات كمدًا؟»: «الذكورية بمعناها السلطوي لها دور في ذلك، ورغم وجود مؤسسات لحقوق المرأة، مثل المجلس القومي للمرأة وغيره، فالشاعرات والأديبات يتم إقصاؤهن بشكل متعمد منذ زمن بعيد». ويتابع: «تاريخ الشعر العامي الذي تكتبه نساء قليل جدًا، ويمكن عدهن على أصابع اليدين، فالبارزات منهن مثل: فريدة إلهامي، وكوثر مصطفى، وإيمان البكري، وسهير متولي، ابتعدن عن الساحة في ظروف غامضة».عانين ونجحن ثم اختفين في ظروف غامضة
«إذا استثنينا شاعرات الريف اللواتي قدمن لنا المقطوعات الجنائزية والبكائيات الشعبية الخالدة، فمن المستحيل في بلادنا أن نعثر على شاعرة تكتب الشعر بالعامية وتجيد فيه، فالمُجيدات يُفضلن الفصحى لينظمن بها، والناظمات بالعامية - يحزنني أن أقول- لم أصادف فيهن واحدة تحسن حتى مجرد النظم السليم؛ دعك من التعبير والمادة الشعرية ذاتها».الذكورية بمعناها السلطوي لها دور في ذلك، ورغم وجود مؤسسات لحقوق المرأة، مثل المجلس القومي للمرأة وغيره، فالشاعرات والأديبات يتم إقصاؤهن بشكل متعمد منذ زمن بعيد.
للسوشيال ميديا أثرها في انتشارنا حاليًا، والمتابعون يروننا نعبر عن أمور تخصهم فيُقبلون على ما نكتب، تلك الأمور ذاتها هي التي تدفع رواد الفرق المستقلة للتعاون معنا، دون التفرقة بين ذكر وأنثى.بهذا الكلمات عبر الشاعر الراحل صلاح جاهين عن حزنه لافتقاد مصر شاعرات عامية مُجيدات، وذلك في مقال له كتبه في 5 أكتوبر عام 1961، بمجلة «صباح الخير». عبّر جاهين في مقاله عن أسفه لافتقاد مصر شاعرة عامية قوية، لكنه في المقال ذاته، يبشر بميلاد موهبة ستُطلق باكورة الشعر العامي للأمام وتفتح الباب لقريناتها الموهوبات، وهي الشاعرة فريدة إلهامي، فيقول: «آسف.. كان هذا قبل أن أقرأ للشاعرة الشابة فريدة إلهامي، وفريدة إلهامي في العشرين من عمرها، طالبة بكلية الآداب بجامعة عين شمس.. تحب أشعار شوقي وإيليا أبو ماضي». انطلاقة فريدة إلهامي كانت تعبر عن كبث أنثوي بامتياز، فكتبت في أول أعمالها: «إحنا البنات إحنا اللي شفنا الذل وعرفنا الآهات مالناش وجود إحنا العدم إحنا اتخلقنا للألم شوف حتى يوم ما بنتولد الأب واقف ينتظر ومن القلق راح ينتحر خايف لا ما يجيلوش ولد وإن جَت له بنت يكون عذاب ويكون هوان ويكون خراب وتكون فضيحة في البلد». لم تدُم رحلة فريدة إلهامي طويلًا، إذ اختفت في ظروف غامضة لا يعلمها أحد حتى الآن، في الوقت ذاته ظهرت على استحياء الشاعرة نبيلة قنديل، زوجة الموسيقار علي إسماعيل، التي كتبت «هاتوا الفوانيس ولاد»، و«أهو جه يا ولاد»، بمناسبة حلول شهر رمضان، «شايلين في إيدنا سلاح»، و«أم البطل» بمناسبة النصر في حرب أكتوبر، لكن هل اهتم أحد بما كتبته نبيلة، سواء أغاني المناسبات أو ما قدمته مع فرقة رضا الأشهر عربيًا في هذا المجال؟ حالة نادرة أخرى تتشابه مع مصير فريدة ونبيلة، هي الشاعرة آمال شحاتة، التي لم نرَ لها إلا أغنية واحدة مع سيد مكاوي «إنت واحشني»، هل يعلم أحد عنها شيئًا الآن؟ الحال كذلك مع الشاعرة هند القاضي، صاحبة أغنيات «قلبك معدش ملكك»، و«غيرتني»، و«تتغير» لأنغام، و«إنتِ وأنا» لمحمد الحلو، و«عنقود العنب» لمحمد منير، لم تعد على الساحة الشعرية الآن.
صاحبة «علّي صوتك بالغنا» منزوية تبحث عن الدفء
الاختفاء أيضًا كان من نصيب أبرز شاعرة عامية في مصر، كوثر مصطفى، التي ابتعدت عن الساحة، بعد أن تركت ميراثًا هائلًا من الأغنيات الناجحة، مثل «شدي الضفاير» لحنان ماضي، و«علّي صوتك بالغنا، وشتا، وليلة واحدة، وغيرها» لمحمد منير. التقى «رصيف 22» الشاعرة كوثر مصطفى، التي أكدت أن عزلتها ليست باختيارها، مشيرة إلى أن الميزان انقلب، فلم تجد خيرًا من بيتها ليضمها بين جدرانه وأوراقها الشعرية تبحث عن الدفء. تقول كوثر: «أعاني من الاضطهاد منذ بداياتي.. شرعت في كتابة ديواني الأول (موسم زرع البنات) فرفضه القائمون على سلسلة إشراقات أدبية التابعة للهيئة العامة للكتاب، بحجة أنه لا يرقى لمستوى النشر». وتضيف: «وبعد عناء تمت الموافقة على نشر الكتاب، لكن للأسف وزارة الثقافة وما يتبعها من هيئات لم تدعمني، بل دعمني فنانون، مثل المطرب محمد منير، والمخرجَات يوسف شاهين، وخيري بشارة، والملحن كمال الطويل، الذين قرأوا أشعاري وتحمسوا لجعلها أغاني تعيش إلى الآن، وهي مفارقة إلى الآن لا أفهمها، كيف يعزف عني المثقفون ويتحمس لي الفنانون؟!». وبسؤالها، لماذا اختفيتِ بعد كل هذا النجاح؟ تجيب كوثر: «القائمون على الثقافة في مصر لا يحبذون المبدع، ما بالك لو كانت أنثى.. لدّي العديد من الأعمال الشعرية والمسرحية حبيسة الأدراج، ولم يقبل بها أحد، طرقت أبواب كل وزراء الثقافة المتعاقبين، فيأتيني الرد دائمًا: الشعر العامي درجة ثانية، وكاتبه ليس له ميزانية عندنا، فأُصِبت بالإحباط». وتتذكر كوثر مصطفى موقفين غريبَين حدثا لها تسببا في إحباطها: «ذهبت في إحدى المرات إلى إدارة التفرغ بالوزارة، للتقدم بطلب تفرغ لعمل مسرحية شعرية، قال لي أحد المسؤولين: شعر العامية لا يستحق التفرغ!». وتابعت: «وكتبت مسرحية للوزارة أخذت المركز الأول في أكثر من مهرجان، ووقت التكريم صعد المخرج وقدم كل المشاركين في العمل للجمهور إلا أنا، وبعد أيام حصلوا جميعًا على مقابل مادي، لكن ما حدث معي كان العكس، إذ طلبوا مني توقيع عقد جديد بعائد مادي أقل».شاعرات الألفية يذُقن النجاح «أندر جراوند»
على عكس ما عبرت عنه كوثر مصطفى من معاناة قابلتها في مستهل مشوارها، وجدت شاعرات العامية الشابات الطرق أيسر والسبيل للنجومية والانتشار أسهل كثيرًا، بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، والتعاون مع الفرق الغنائية المستقلة «الأندر جرواند». تقول الشاعرة دعاء عبد الوهاب لـ«رصيف 22»: «نحن محظوظات مقارنة بشاعرات ما قبل الألفية، فلدينا حسابات شخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، ننشر من خلالها أعمالنا، سُرعان ما تنتشر، فتلتقطها إحدى الفرق المستقلة، وتغنيها في حفلاتها، وتبدأ الانطلاقة». وتضيف دعاء: «شاعرات الزمن الماضي كن يعانين، لأنهن كن بحاجة للخروج والبحث عن نجم يغني أغنياتهن، أو الدخول بصعوبة ضمن الأوساط الثقافية؛ في المقابل ما حدث معي يدعو للعجب، فقد نشر لي ديوان، ولُحنت لي قصائد وأنا خارج مصر». وتابعت: «كتبت أغنيات لبلاك تيما، ومسار إجباري، وكايرو كي، وهي فرق مستقلة تحقق انتشارًا بين الشباب، وتلك الفرق لا تتعامل مع الشاعر كما يتعامل النجوم المعروفون بتعالٍ، والاعتماد على الأقربين، لذلك نحن موجودات ويسمعنا الناس، وكلما كتبنا أكثر نافسنا الرجال، لأن ما يجعل دور المرأة الشاعرة ينحسر هو الانشغال بأمور أخرى غير الكتابة، وبالتالي يتفوق الرجال». أما الشاعرة الشابة آمار مصطفى، التي تتعاون هي أيضًا مع فرق مستقلة، فتقول: «المجتمع له نظرة سطحية بعض الشيء في تقدير المهن، فيرى أن لعبة كرة القدم، رياضة رجالية، كذلك الحال مع الشعر العامي». وتضيف آمار لـ«رصيف 22»: «للسوشيال ميديا أثرها في انتشارنا حاليًا، والمتابعون يروننا نعبر عن أمور تخصهم فيُقبلون على ما نكتب، تلك الأمور ذاتها هي التي تدفع رواد الفرق المستقلة للتعاون معنا، دون التفرقة بين ذكر وأنثى».رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون