يطرح فيلم " arrival " الصادر عام 2016 تساؤلاً يرتبط بالقدرة على التواصل مع الكائنات الفضائيّة إن وُجدت، وما هي اللغة التي يمكن لنا بواسطتها أن "نتحدّث" معهم، هل هي صوتيّة؟ مرسومة؟ هل يمكن لنا "كبشر" أن نسمعها؟
هذه المقاربة تُعيدنا إلى اللغة ذاتها، بوصفها اتفاقاً بين متحدّثيها على مجموعة مُسبقة من القواعد، كلمات وأصوات وتعابير تمثّلُ العالم والمفاهيم السابقة لوجودهم، إذ أننا منذ الصغر نتعلّم ونقلّد أصواتَ الآخرين، لنقول أفكارنا ولنحاكمها، وكلما زاد الانحراف عن هذه القواعد، ظهرتْ أشكال الفن والشعر والعلم وغيرها من الأنشطة البشريّة.
تتيح لنا هذه "الفطرة اللغوية" أن نميّز الأصوات البشريّة عن الضجيج وعن مختلف الأصوات الشفوية الأخرى، إذ نُدرك أن بعضها لغة، حتى لو لم نفهمها، أو نعرف أخطاءها الداخليّة، كالأصوات التي نسمعها حين يتحدّث أحدهم اليابانيّة أمامنا إن كنا لا نتقنها، هذه القدرة الفطريّة، تمكّننا أيضاً من اختراع لغات متخيّلة، ذات أًصوات ومعان وإحالات لا تشبه ما نعرفه.
تحضر اللغات المخترعة من حولنا بكثرة، بين باعة الذهب وفي الأسواق الشعبيّة ولدى المشعوذين، وأيضاً في الشعر والأشكال الفنيّة.
لكن أكثرها شهرة، تلك التي نراها في الأفلام والمسلسلات، كلغة سكان "Asgard" في فيلم Thor، ولغتي Valyrian and Dothraki اللتين تحضران في مسلسل game of thrones، وغيرها من اللغات المتخيّلة التي نسمعها أو نقرأها في المنتجات الثقافيّة، والتي تتحوّل أحياناً إلى لغات "حقيقيّة" تنتقل إلى الحياة اليوميّة، وقد تصل إلى قاعات المحاكم، إذ تحاول الشركتان المنتجتان لمسلسل Star trek أن تحصلا على حقوق ملكية لغة "كلينغون" المتخيّلة، لنرى أنفسنا أمام محاولة فريدة من نوعها في التاريخ الثقافي لامتلاك لغة واحتكار استخدامها.
إن القدرة على خلق لغة وتعلمها وإتقانها، ولو بالحد الأدّنى، هي محط اهتمام الألسنيّ الأمريكي دايفد جوشوا باترسون، الذي اخترع اللغتين السابقتين في game of thrones، فيشرح في كتاب له الآلية الداخليّة لخلق لغة متخيّلة، ويُحدّد الاختلافات بين اللغات سواء أكانت واقعيّة أو متخيلة تنتمي لعالم وهميّ، أو مخادعة، تعطي الانطباع بأنها لغة لكنها ليست كذلك.
كل عام تُضاف إلى المعجم كلمات جديدة، بعضها مُخترع، لم يُعرف من قبل، إذ يتم تركيبها أو نحتها أو أخذها من لغات أخرى، بل أن العربية قبل التقعيد والنحو، كانت تَعتبرُ أن كل ما يقوله الأعرابي أو البدوي، عربياً، لكن إن كنا أمام لغة مُتخيّلة، كيف يمكن اختراع كلمة لا مرجعيّة لها من قبل؟
لفهم هذه الإشكاليّة يمكن النظر إلى الكلمة بوصفها حدثاً، لا مجرّد حدث واقعي، بل لغوي، تعيد ترتيب ما حولها، وأحياناً تكتسب وتعطي غيرها معان جديدة، كونها تعيد ترتيب اللغة ذاتها، سواء أكانت متخيّلة أم حقيقية، وهذا ما حصل مثلاً مع كلمة "قرآن" ، والتي خلخلت تعريفات وتصنيفات اللغة في التاريخ العربيّ، إذ يقول البعض أنها لم تستخدم من قبل، متناسين جذرها السرياني، مع ذلك، كانت حدثاً، لا مجرد صوت يدل على "غرض" ملموس.
ذات الشيء نراه في كلمة "حياة" ضمن القطاع العلميّ وتعريفها، والتغيرات التي طرأت على اللغة بسبب اكتشاف المايكروسكوب مثلاً، وظهور كائنات جديدة مجهريّة لا تمتلك تعريفاً واضحاً كالكائنات الدقيقة، فهل هي "حيّة" أم لا، المثير للاهتمام أن هذا الجدل مازال حاضراً حتى الآن حول الأجنة ومن هم في غيبوبة دائمة.
في اللغات المتخيّلة وسياقات الترفيه، طُلب مرة من باترسون أن يجعل شخصيتين من مسلسل "defiance" تتحدثان بلغتين مختلفتين، ولخلق هذا الاختلاف عمد إلى جعل هاتين اللغتين متعاكستين، وذلك عبر جعل واحدة تبدأ بضمير والثانيّة تبدأ بفعل، واحدة سريعة والأخرى بطيئة، هذه الاختلافات، تجعل كل واحدة من الكلمات المخترعة في كل لغة، ترتبط بالعلاقات ضمن اللغة المتخيلة ذاتها، بحيث لا تبدو غريبة، أو غير منطقيّة، ومثال ذلك في اللغة العربيّة أسماء مثل برلمان، إيديولوجيا، إمبرياليّة، والتي أصواتها أطول من أصوات الأسماء العربيّة التقليديّة.
الاقتصاد الصوتي
لخلق لغة جديدة لابدّ من مراعاة عدد من الخصائص الشكليّة والصوتيّة، تُكسِبُ اللغةَ حضورها الواقعيّ، وقدرتها لا فقط على نقل المعلومات، بل أيضاً على إعطاء الانطباع بأنها "لغة" لا مجرّد هباءٌ في الهواء. ما يجعل اللغة "مُقنعةً" هو ما يسمّيه باترسون بالـ"الاقتصاد الصوتي"/acoustic economy/ والذي يعني قدرة أي لغة بشرية على الاستفادة من الأصوات التي يُنتجها الفم البشريّ، وذلك بجعل الكلمات واضحة ومختلفة عن بعضها بعض، عبر استخدام أصوات صعبة تُميّز كل كلمة، وتجعل اللغة البشرية مختلفة عن الضجيج اللابشريّ. هذه الخاصيّة تسبق المعنى، وترتبط بالهوية السمعية للغة، وكيفية تلقيها، وهذا ما نراه في اللغات التي نعرفها ونألفها، إذ نستطيع أن نقلّد صوت الفرنسية والألمانيّة واليابانيّة، دون أن يكون لكلامنا معنى، نقلّد فقط الهوية الصوتيّة للغة، ونحاول استدعاء أصوات لا تُستخدمْ عادة في لغتنا، كمحاولاتنا تقليد الفرنسيّة أو تعلمها، والتي تبدأ بتعلم أصوات "e-u" والاختلاف بينهما. هذه الهوية السمعيّة مرتبطة بالعلاقة بين الأحرف الساكنة والأحرف الصوتية، والقدرة على مدّ الكلمات أو بترها، كذلك الكتل المنطوقة وكيفية نطقها، والتي تشكّل الواحدة منها أحياناً أٌقل من كلمة، وهنا تتم الاستفادة من الخصائص الفيزيائيّة للفم البشريّ، والقدرة على إنتاج الأصوات عبره، لجعل الكلمة تقارب صوتها الطبيعيّ، ككلمة نَفَسْ مثلاً، أو souffle بالفرنسيّة، أو breath بالإنكليزيّة، والتي نشعر بتدفق الهواء من الفم أثناء نطقها بصورة تشابه الحركة الطبيعيّة للهواء في الفم أثناء التنفس.في اللغات المتخيّلة وسياقات الترفيه، طُلب مرة من باترسون أن يجعل شخصيتين من مسلسل "defiance" تتحدثان بلغتين مختلفتين، ولخلق هذا الاختلاف عمد إلى جعل هاتين اللغتين متعاكستين، وذلك عبر جعل واحدة تبدأ بضمير والثانيّة تبدأ بفعل، واحدة سريعة والأخرى بطيئة.
ما يجعل اللغة "مُقنعةً" هو "الاقتصاد الصوتي" الذي يعني قدرة أي لغة بشرية على الاستفادة من الأصوات التي يُنتجها الفم البشريّ، وذلك بجعل الكلمات واضحة ومختلفة عن بعضها بعض، عبر استخدام أصوات صعبة تُميّز كل كلمة، وتجعل اللغة البشرية مختلفة عن الضجيج اللابشريّ.في السياق المتخيّل، وضمن game of thrones ، قام باترسون بتطوير نظام أصوات خاص، لجعل بعض الكلمات مقارِبةً لا للصوت الطبيعيّ، بل للصوت اللغوي الانكليزي، ككلمة حكاية story وفي لغة الدوثراكي هي "أستوسور-Astosor"، ليبدو التشابه الصوتيّ هنا قائماً على ما هو مألوف لغوياً، كذلك وظّف صوت "الخاء"، التي تعطي الانطباع بالقسوة والشدّة والعنف. هذا التشابه الصوتيّ يحضر بكثرة في التعريب الحرفيّ للكلمات الأجنبيّة.
الكلمة كحدث
كل عام تُضاف إلى المعجم كلمات جديدة، بعضها مُخترع، لم يُعرف من قبل، إذ يتم تركيبها أو نحتها أو أخذها من لغات أخرى
كل عام تُضاف إلى المعجم كلمات جديدة، بعضها مُخترع، لم يُعرف من قبل، إذ يتم تركيبها أو نحتها أو أخذها من لغات أخرى، بل أن العربية قبل التقعيد والنحو، كانت تَعتبرُ أن كل ما يقوله الأعرابي أو البدوي، عربياً، لكن إن كنا أمام لغة مُتخيّلة، كيف يمكن اختراع كلمة لا مرجعيّة لها من قبل؟
لفهم هذه الإشكاليّة يمكن النظر إلى الكلمة بوصفها حدثاً، لا مجرّد حدث واقعي، بل لغوي، تعيد ترتيب ما حولها، وأحياناً تكتسب وتعطي غيرها معان جديدة، كونها تعيد ترتيب اللغة ذاتها، سواء أكانت متخيّلة أم حقيقية، وهذا ما حصل مثلاً مع كلمة "قرآن" ، والتي خلخلت تعريفات وتصنيفات اللغة في التاريخ العربيّ، إذ يقول البعض أنها لم تستخدم من قبل، متناسين جذرها السرياني، مع ذلك، كانت حدثاً، لا مجرد صوت يدل على "غرض" ملموس.
ذات الشيء نراه في كلمة "حياة" ضمن القطاع العلميّ وتعريفها، والتغيرات التي طرأت على اللغة بسبب اكتشاف المايكروسكوب مثلاً، وظهور كائنات جديدة مجهريّة لا تمتلك تعريفاً واضحاً كالكائنات الدقيقة، فهل هي "حيّة" أم لا، المثير للاهتمام أن هذا الجدل مازال حاضراً حتى الآن حول الأجنة ومن هم في غيبوبة دائمة.
في اللغات المتخيّلة وسياقات الترفيه، طُلب مرة من باترسون أن يجعل شخصيتين من مسلسل "defiance" تتحدثان بلغتين مختلفتين، ولخلق هذا الاختلاف عمد إلى جعل هاتين اللغتين متعاكستين، وذلك عبر جعل واحدة تبدأ بضمير والثانيّة تبدأ بفعل، واحدة سريعة والأخرى بطيئة، هذه الاختلافات، تجعل كل واحدة من الكلمات المخترعة في كل لغة، ترتبط بالعلاقات ضمن اللغة المتخيلة ذاتها، بحيث لا تبدو غريبة، أو غير منطقيّة، ومثال ذلك في اللغة العربيّة أسماء مثل برلمان، إيديولوجيا، إمبرياليّة، والتي أصواتها أطول من أصوات الأسماء العربيّة التقليديّة.
التدوين والاستقلال
إن اختراع أي لغة مرتبط بمتحدثيها، وإيمانهم بمعانيها، لكن ما إن تقعّد هذه اللغة وتُكتبْ حتى تستقلَّ عنهم، أي أنها تكسب القدرة على الانتقال بين الأفراد حتى لو كانوا لا يتحدثون بها، وهنا نعود للكتابة، وطبيعة النظام البصريّ الذي نريد أن نستخدمه لـ"رسم" اللغة وأصواتها. في الهيروغليفيّة مثلاً، الأشكال أيقونيّة، تُحيل إلى أشكال واقعيّة، وفي العربيّة، أشكال الأحرف اعتباطيّة ومجرّدة، وهناك الأشكال الصوتيّة، التي تُحيل إلى أصوات شفوية، كالفرق بين "ت" و "تاء"، الأولى تُحيل إلى صوت والثانيّة إلى حرف، وهناك التمثيل البصري للأصوات فقط، الذي نراه في تقنيات الاختزال –stenography، حيث تُحيل "الأشكال" إلى أصوات فقط، فالفرد يتعلّم حينها نظام التشفير الصوتي، سواء أكان المتحدّث ينطق بالعربية أو الانكليزيّة أو السنسكريتيّة، وهنا يمكن ملاحظة أن هذه الأنظمة من الكتابة، لا تراعي القواعد ولا تعكس خصائص اللغة كخزّان معرفيّ وتاريخيّ، هي مجرّد نقلٍ لأصوات معينة دون معان سياسية و ثقافيّة دفينة. بعيداً عن التأويلات الدينيّة والرومانسيّة لأصل الرسم اللغويّ، يعود اختراعُ أبجديّةٍ وأشكالٍ للأصوات إلى الخيار الشخصيّ والرغبة باللعب، كما فعل باترسون حين طور نظاماً أبجدياً للغة castithan المنطوقة في مسلسل "defiance" مستعيناً بأنظمة أبجدية قديمة من العصور الوسطى ليبدأ التدوين ويعطي للأصوات أشكالاً. دليل مبسط جداً لاختراع جملة: 1- اخترْ خمسة أصوات، اثنان منها صوتيان وثلاثة أصوات ساكنة، وحدّد كيفيّة لفظها بدقة. 2- حدّدِي الأبجدية التي تنتمي لها هذه الأصوات. أي هل رسم هذه الأصوات يتصل بعضه ببعض أم لا؟ وهل هي اعتباطيّة كأصوات لا تُحيل إلى شيء ما أو العكس؟ 3- اخترْ العبارة التي تريد قولها: (لعب الولد بالكرة) 4- جرّدي العبارة السابقة إلى معاني منفصلة: (اللعب-الولد- الكرة) 5- اخترعي معادلاً لكل واحدة من هذه المعاني باستخدام أحرفك الخاصة. 6- عدّل أحرفك وأضف أصوات بسيطة، بصورة تضمن الاشتقاق والتأنيث والتذكير والفعل والاسم وغيرها من العلامات لغويّة. 7- اكتبْي العبارة وردّديها.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...