تقول روايات قديمة تختلف صياغتها من مصدر إلى آخر، بأن أصدقاء الشاعرَ "الحطيئة"، الذي عاش في أواخر عصر الجاهلية وبدايات الإسلام، طلبوا منه أن يؤلف بيت شعر أخير في آخر أيامه.
لم يجد الشاعر الذي عُرِف بهجائه للجميع حتى لأبيه ولأمه ولنفسه، بدّاً من أن يهجو الموت وهو يقترب منه، فاستشهد بما قاله شاعر آخر عاصره وهو ضابئ بن الحارث:
لكل جديدٍ لذّةٌ غير أنني وجدتُ جديدَ الموتِ غير لذيذٍ
وأتبعه بقولٍ له:
ما لجديدِ الموتِ يا بشر لذةٌ وكل جديدٍ تُستلذُّ طرائِقُهُ
وبحسب الرواية، كان ذلك آخر ما قاله.
لم تختلف الحال بعد مئات السنين، بل إن بيتَيْ شعر الحطيئة وابن الحارث ذهبا ليصبحا أشبه بمثليْن يعبّران عن لذة ومتعة اختبار التجارب الجديدة، شريطة ألا تكون تجارب حزينة أو سوداوية.
لا زال العقل والروح البشريّان حتى اليوم "يستلذّان" بكل "جديد" و"بطرائقه"، وينبذان "جديد الموت" الذي "لا لذة له"، وسيستمران على هذا المنوال على الأرجح لمئات أخرى من السنين، إلا إن تغيّرَ مفهوم "الجديد" وصل إلى حال يعجز فيه عن أن يكون "جديداً".
ما هو "هرمون المكافأة"؟
نتفاعل مع الخبرات الجديدة الممتعة والإيجابية وتنجذب لها، سواء كانت عملاً جديداً، أو مدينة لم نكتشفها من قبل، أو طعاماً نتذوقه لأول مرة، أو حتى صبغ شعرنا بلون غريب أو تغيير شكل التسريحة التي اعتدنا عليها. تقع المنطقة المسؤولة عن ذلك التفاعل تحديداً في الدماغ الأوسط وتدعى "المنطقة السطحية البطنية"، وهي تلعب دوراً هاماً في عمليات الإدراك والتحفيز. في اختبارات علمية عديدة وعلى مدار سنين طويلة، تبيّن بأن هذه المنطقة تتنشط بواسطة الصور التي لم يرَها الإنسان من قبل شريطة ألا تكون صوراً ذات محتوى سلبي أو عنيف للغاية، وذلك عن طريق تفعيل مسارات هرمون الدوبامين وهو الهرمون الذي يؤثر ويلعب دوراً أساسياً في السعادة والمتعة والإدمان.في اختبارات علمية عديدة وعلى مدار سنين طويلة، تبيّن بأن أدمغتنا تتنشط بواسطة الصور التي لم يرها الإنسان من قبل شريطة ألا تكون صوراً ذات محتوى سلبي أو عنيف للغاية، وذلك عن طريق تفعيل مسارات هرمون الدوبامين وهو الهرمون الذي يؤثر بمشاعر السعادة والمتعة والإدمان.
يصل تفاعلنا إلى أعلى درجاته عندما تكون الصور والتجارب التي نختبرها جديدة تماماً، حيث ترتفع مستويات الدوبامين المسؤولة عن المتعة إلى أعلى حد ممكنتزيد التجارب الجديدة من معدلات إفراز الدوبامين والذي يجعلنا راغبين باكتشاف ما وراء تلك التجارب، وهو ما يشبّهه العلماء "بالمكافأة"، حتى أن هذا الهرمون بات يعرف باسم "هرمون المكافأة"، وهو جزء من نظام المكافأة في الدماغ والذي اكتُشف أواسط القرن الماضي ويعبر عن مجموعة من المسارات العصبية المسؤولة عن الإدراك والتحفيز والمشاعر الإيجابية. الملفت هنا هي السرعة التي يتحول بها هذا الجديد إلى أمر عادي لا نكهة له. التجارب ذاتها أظهرت تفاعلاً أقل لذلك الجزء من الدماغ في حال استخدام صور مكررة أو أقل جدّة من غيرها، أو في حال دمج صور جديدة مع أخرى قديمة. في هذا السياق يقول أحد الأطباء الألمانيين المختصين بالأعصاب ويدعى "إمرا دوزل" بأننا "عندما نرى أشياء جديدة، نعتقد بأنها مكافأة من نوع ما، وهو ما يدفعنا لاكتشافها بالتفصيل. مع استمرارنا بهذا الاكتشاف نعلم بألا مكافأة محددة تنتظرنا، وبالتالي نفقد اهتمامنا بشكل تدريجي بذلك الشيء، ونحتاج إلى جديد آخر كي نستعيد الحافز للاكتشاف". إذاً، لكي يكون التفاعل في أقصى درجاته، يجب أن تكون الصور والتجارب جديدة تماماً، حتى ترتفع مستويات الدوبامين إلى أعلى حد ممكن. ولكي تكون هذه التجارب جديدة حقاً، لا بد لها من أن تفاجئنا أولاً كي تكون قادرة على إمتاعنا، ومن أن تضيف شيئاً لتجاربنا السابقة، وإلا قد تغدو غير ذات قيمة بالنسبة لنا، ولا يبدو كل ذلك سهلاً مع تقدمنا بالعمر وكذلك بالخبرات. فإن تصوّرنا حياتنا كخط زمني متصاعد، يمكننا أن نرسم مقابله خطاً زمنياً للذةِ ومتعة اكتشاف الجديد والقدرة عليه، وهو على الأغلب خط منحدر أو بأحسن الأحوال متوقف عند قيمة معينة. أيضاً، لا بد لتلك التجارب من أن تكون إيجابية أيضاً. لنتذكر قول ابن الحارث، فجديد الموت غير لذيذ. إضافة لذلك، لا يكفي أن تكون التجارب مفاجئة وممتعة وإيجابية لكي نخوضها، لكن يجب أن تكون في متناول اليد كي نتحدث عنها وعن لذتها. لا يمكننا أن نفكر بالسفر إلى أماكن نائية لم تطأها قدمنا يوماً دون أن تقف تأشيرات الدخول وجوازات سفرنا العربية عائقاً في وجهنا. ولا قدرة لنا على البحث عن عمل آخر والتخلي عن وظائفنا المملة دون أن ننظر لنسبة البطالة في بلداننا العربية والتي قد تصل في بعضها لأكثر من خمسين بالمئة خاصة بين الشباب. نريد جديداً قابلاً للتطبيق وليس مجرد خيال.
لنبتكر تجارب جديدة في حياتنا
بكل الأحوال، تستحق أدمغتنا المزيد من الدوبامين كمكافأة لنا ولها بين الفينة والأخرى، ومن المفيد أن نبحث عن بعض التجارب الجديدة التي نرغب بخوضها ونستطيع خوضها في الوقت ذاته. لذلك فوائد عدة، أولها أن نتغلب على خوفٍ قد يراودنا في بعض الأحيان من النتائج، وأسئلة مشروعة لا بد أن تمر في رأسنا. ماذا لو لم تعجبنا التجربة، أو تعرّضنا للفشل فيها؟ الإقدام على التجربة وحده كفيل بالعثور على إجابات شافية عن تلك الأسئلة، وبمعرفة أن لذة التجربة أكبر من التوجس منها. الاختبارات الجديدة تساعدنا أيضاً على اكتشاف ذواتنا بشكل أعمق. مهما بلغنا من العمر، فإن كل تجربة غير مسبوقة تضعنا أمام قيمٍ وتفضيلات لم نكن نعرفها يوماً عن أنفسنا. لهذه المعرفة قيمة لا تقدر بثمن، ولا يمكننا اكتسابها من العلم أو العمل وحدهما. وبالعودة للعلماء واكتشافاتهم حول الدوبامين، فإن هذا الهرمون مرتبط بشكل وثيق بالإبداع والنجاح، وإفراز المزيد منه يجعلنا أشخاصاً اجتماعيين ومنطلقين وقادرين على الابتكار. بعيداً عن التفسيرات العلمية، وبكل بساطة، لا بد لأي موقف جديد نجد أنفسنا فيه من أن يحفزنا بل ويجبرنا على الخروج من قوالبنا المعتادة نحو التفكير بأسلوب لم نعهده من قبل. قد يكون كل ذلك مفيداً لنا كي نقدم أنفسنا بشكل فريد وأكثر جاذبية للعالم حولنا، لعائلتنا وأصدقائنا ورؤسائنا في العمل، أو بكلمات أخرى، بطريقة أكثر قابلية للتسويق في حياتنا المهنية والشخصية على حد سواء. هنا بعض النصائح سلهة التطبيق لخلق تجارب جديدة:- لنجرب رياضة جديدة واستمتعوا بالتحدي الجسدي الذي قد تفرضه هذه الرياضة علينا.
- لنحاول الاستفادة من بقايا الطعام في ثلاجتنا، وطهي وجبات لم نجربها من قبل. الطهي أيضاً مهارة ومتعة، ولا تتطلب حتى مغادرة المنزل.
- لنبدأ بتعلّم لغة جديدة، أو لنضع قائمة من خمسين كلمة تعتقد بأنها الأكثر استخداماً في الحياة اليومية، ولنحاول تعلّمها بعشرين لغة. سيبدو الأمر ممتعاً وقد نتعرف حينها أي اللغات تبدو الأقرب إلينا.
- لنستمع إلى أنواع موسيقية ليست مألوفة بالنسبة لنا. الموسيقا عالم لا نهاية له.
- لنتعلم مهارة جديدة لم تخطر على بالنا من قبل. الحياكة أو الزراعة في المنزل قد تكون بداية جيدة.
- لنحاول أن نصنع الهدايا التي نود تقديمها خلال الأشهر القادمة، ستبدو أجمل وأكثر غرابة من الهدايا المنتقاة من السوق، والتي تتشابه في أغلبها.
- لنتطوع ليوم في الأسبوع أو الشهر مع واحدة من الجمعيات المحلية التي تساهم في دعم الأطفال أو حماية البيئة. يساعدنا ذلك في اكتشاف جوانب من مجتمعناربما لم نعرفها من قبل.
- لنكن سائحين في مدينتنا دون أن نضطر لمغادرتها. لا بد وأنها مليئة بأماكن لم نمر بها يوماً، ويستحق ذلك التجربة بكل تأكيد.
- أخيراً، لنتجنب تقديم الأعذار، ولنكون متفائلين، جوابنا دوماً هو "نعم"، نعم للتجارب الجديدة وللأفكار المبتكرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...