شهدت جلسة الجمعية العامة للاتحاد البرلماني الدولي التي عُقدت في جنيف محاولات لتضييع "الوقت الثمين" للوفود البرلمانية المشاركة. كانت هذه شكوى أحد البرلمانيين العرب المشاركين. تبدو الشكوى منطقية تستدعي التعاطف مع البرلماني، فالأخير كان يسعى للإنجاز وآخرون في الاتحاد الدولي حاولوا هدر وقته. فما الذي فعله هؤلاء مع البرلمانيين "الحريصين على وقتهم"؟ كان هناك جلسة مخصصة، حسب ما أعلن الاتحاد، لمناقشة "دور البرلمانات في إنهاء التمييز على التوجه السياسي، واحترام حقوق المثليين". لكن معظم الوفود التي حضرتها، وتحديداً الآتية من البرلمانات الإسلاميّة والعربيّة، رأت النقاش بخصوص "مشروع القرار المتعلق بحقوق المثليين" بمثابة "مضيعة للوقت الثمين". وكان هناك من رأى أيضاً أنها "قضيّة غير ملحة عدا كونها جدليّة"، وهناك من اعتبرها "محاولة تمويه لتمرير قرارات أخرى خطيرة". ولأن "الحتميّة" الاجتماعية والقانونية التي تواكب وفود تلك البرلمانات الذاهبة إلى جنيف تجعلها تنظر إلى حقوق الإنسان بتعالٍ على اعتبار أن الأخيرة هي ترف الضعفاء والعاطفيين إزاء انشغالها هي بقضايا "مصيرية"، كان من "الطبيعي" أن تأتي نتيجة التصويت كالتالي: 636 صوتاً ضد مناقشة القرار، 499 مع مناقشة القرار و130 امتناع. وعليه، احتفى المعارضون، وهم إلى جانب البرلمانات الإسلامية والعربية الكثير من دول أفريقيا ودول أخرى من بينها الصين وروسيا، بـ"فوزهم" على أولئك الذين كانوا يصرون على أهميّة طرح القرار على طاولة النقاش. وكانت المجموعتان البرلمانيتان، الإسلامية والعربية، قد عقدتا اجتماعين على هامش المؤتمر، في إطار التأكيد على رفض مشروع القرار المتعلق بحقوق المثليين. وللعلم، يضم الاتحاد البرلماني الدولي، الذي تأسس عام 1889 على يد كل من فريدريك باس (فرنسا) وويليام راندال كريمر(بريطانيا)، 178 بلداً وتجمعاً إقليمياً كما يضم ستة تجمعات برلمانية اقليمية هي مجموعة أميركا اللاتينية والمجموعة الإفريقية والمجموعة العربية ومجموعة آسيا والمحيط الهادئ والمجموعة الأورو ـ آسيوية ومجموعة أوروبا الوسطى وكندا.
"هذا الأمر يتعارض مع معتقداتنا وثقافتنا"
من لبنان، شارك رئيس مجلس النواب نبيه بري والوفد البرلماني المرافق في الجلسة، بعدما لعب دوراً ناشطاً لمواجهة صدور قرار عن الاتحاد بهذا الخصوص. وقدم بري أكثر من مداخلة ركز فيها على أولوية التصويت على البند الطارئ كما ينص نظام الاتحاد، وهو البند المتعلق بموضوع "الأونروا" وحقوق الشعب الفلسطيني، وهو ما أكده كذلك رؤساء وأعضاء المجالس العربية قائلين إن الأولوية هي لموضوع "الأونروا"، وإن إدراج موضوع المثليين أمر مرفوض عدا عن أنه غير ملح. وقال بري: "أعتقد أن وفقاً لنظام الاتحاد البرلماني الدولي، يجب التصويت على البند الطارئ قبل أي شيء آخر"، مشيراً إلى "محاولة استهداف الاقتراح المتعلق بالأونروا وحقوق الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية من خلال السعي إلى تمرير موضوع حقوق المثليين". وأضاف: "إن ما يحدث هو ضد الديمقراطية"، محذراً من "استمرار مثل هذه المحاولة".البرلمانات الإسلاميّة والعربيّة رأت النقاش بخصوص "مشروع القرار المتعلق بحقوق المثليين" بمثابة "مضيعة للوقت الثمين". وكان هناك من رأى أيضاً أنها "قضيّة غير ملحة عدا كونها جدليّة"، وهناك من اعتبرها "محاولة تمويه لتمرير قرارات أخرى خطيرة"
لأن "الحتميّة" الاجتماعية والقانونية التي تواكب وفود تلك البرلمانات الذاهبة إلى جنيف تجعلها تنظر إلى حقوق الإنسان بتعالٍ على اعتبار أن الأخيرة هي ترف الضعفاء والعاطفيين إزاء انشغالها هي بقضايا "مصيرية"... كان من "الطبيعي" أن تأتي نتيجة التصويت كالتالي: 636 صوتاً ضد مناقشة القرارالرأي نفسه شاطره مع بري رئيس مجلس النواب المصري علي عبد العال، الذي يرأس للمناسبة اجتماع البرلمانات العربية في أعمال الجمعية العامة الـ139، وقال إن هناك موضوعات أخرى أولى بالاهتمام ويجب أن يعطيها الاتحاد البرلماني الدولي الأولوية مثل الحق في التعليم والتنمية في البلدان الفقيرة، بدلاً من "إقحام موضوعات جدلية لا يصح ولا يجب أن تمثل أولوية على أجندة عمل منظمة مهمة مثل الاتحاد البرلماني الدولي وأن تستهلك وقتها الثمين". كما تحدث رئيس الوفد الأوغندي عن المعارضين، وقال إن "شرعة حقوق الإنسان لا تأتي على ذكر هذا الموضوع (المثلية الجنسيّة)"، موضحاً ايضاً بالقول "هذا الأمر يتعارض مع معتقداتنا وثقافتنا". ولمسألة حقوق المثليين في قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان قضيّة إشكالية أخرى. فمنذ تأسيسها عام 1945، لم تناقش الأمم المتحدة حقوق المثليين (في ما يتعلق بالمساواة بغض النظر عن التوجه الجنسي أو الهوية الجنسية) وذلك حتى ديسمبر 2008، حين قُدمت مبادرة هولندية/فرنسية - مدعومة ببيان من الاتحاد الأوروبي - تدعم فيه حقوق المثليين إلى الجمعية العامة. ووجهت المبادرة بمعارضة من قبل جامعة الدول العربية، ولا تزال الأمور مفتوحة للتصويت من دون اعتماد صيغة رسميّة من قبل الجمعية العامة.
مفهوم كوني للكرامة الإنسانية... وإلا الصراع مستمر
إذا ما عدنا إلى قوانين الدول العربية الـ22، نرى أن ما حصل في اجتماع الاتحاد البرلماني حول مسألة المثلية الجنسيّة لم يخرج عن السياق "الطبيعي" للأمور. ليست الضغوط الاجتماعية وحدها ما يُثقل كاهل المثليين الجنسيين في هذه المنطقة، ثمة مروحة واسعة من القوانين التي تبدأ من الاضطهاد والسجن، ولا تنتهي بالجلد والإخصاء والقتل (يمكن الاطلاع هنا على كافة قوانين الدول العربيّة بشأن المثلية الجنسيّة). وعدا عن أن القوانين فضفاضة وخاضعة لاستنسابية رجال الأمن والسلطة، فهي تنظر للمثليين باعتبارهم فئة واحدة، متجاهلة الاختلافات بين مزدوجي الميل الجنسي والمتحولين جنسياً والسحاقيات... وتختلف القوانين من دولة إلى أخرى، بين المتشددة جداً والمتساهلة إلى حد ما، لكن تبقى السمة الغالبة للظلم قائمة في القانون والمجتمع… وفي اعتبار أنه حتى نقاش مسألة قرار يتعلّق بالمثلية الجنسيّة، مثلاً، مضيعة للوقت أو تمييعاً لقضايا كبرى. ولطالما كانت "القضايا الكبرى"بمفاعيلها السياسية/ الأمنية/ الجيو استراتيجّة تُساق كحجة جاهزة لتفادي النقاش في مسائل تخص حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، بحجة أن الوقت غير مناسب/ أنها ليست أولويّة/ أو أن المنادين بها يسعون لتمرير "أجندات" خارجيّة مشبوهة. في المقابل، أظهرت التطورات الاجتماعية والسياسية، وتحديداً في السنوات الأخيرة، أن من المستحيل تحقيق الاستقرار في أي مجتمع يشكو من الانتهاكات لكرامة الإنسان وإهانة البشر… وأن حقوق الإنسان ليست ترفاً. يطرح العالم والفيلسوف السياسي فرانسيس فوكوياما، في موضوع حديث له، بطريقة ما، هذه المسألة. يقول إن السياسة طوال القرن العشرين كانت تهيمن عليها أساساً القضايا الاقتصادية...لكن السياسة اليوم هي أقل اهتماماً بالقضايا الاقتصادية أو حتى الأيديولوجية مقارنة بمسائل الهوية. برأي فوكوياما، أصبحت الجماعات تعتقد أن هوياتها -سواء كانت قومية أو دينية أو عرقية أو جنسية أو جندرية أو غير ذلك- لا تحظى بالاعتراف الكافي، وبالتالي لم تعد سياسات الهوية ظاهرة ثانوية تظهر فقط في حرم الجامعات أو ضمن مناوشات الهامشية في إطار "الحروب الثقافية"... بل أصبحت مفهوماً رئيسياً يشرح الكثير مما يجري في الشؤون العامة. نتيجة لذلك، تواجه الديمقراطيات الليبرالية الحديثة تحدياً وجودياً... ما يحدث هو أن المجتمعات الديمقراطية تتشرذم إلى شرائح تتمحور حول هويات أضيق، مما يقوّض من أفق التعاون والعمل الجماعي من قبل المجتمع ككل. هذا الطريق، كما يقول فوكوياما في نصه "ضد سياسات الهوية: العشائرية الجديدة وأزمة الديمقراطية"، سوف يؤدي إلى انهيار الدولة، وفي النهاية، الفشل. وفي النهاية، "ما لم تتمكن هذه الديمقراطيات الليبرالية من العودة إلى مفهوم كوني للكرامة الإنسانية، فإنها ستحكم على نفسها -وعلى العالم- بالعيش في صراع مستمر".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...