"كنت كل يوم أصلي وأتوب، لعل ربنا يتقبل مني ويشفيني من المثلية، إلى حد بدأت، في سن العشرين، أقرأ أبحاثاً علمية عن الجينات والهرمونات والكروموزومات، فاكتشفت في النهاية أن المثلية ليست مرضاً، وهنا بدأ التساؤل: لماذا حرّم الله المثلية وخلقنا في نفس الوقت بها؟".
التساؤل الذي دار في ذهن عائشة، "أدمن" صفحة "مثليات مسلمات"، يلخص أزمة التعارض الحاصل بين الأديان والاتجاه المثلي الجنسي في العالم العربي.
فقد وقف شيخ الأزهر أحمد الطيب على منصة جامعة هداية الله، في العاصمة الإندونيسية جاكرتا، في مطلع 2016، ليشن هجوماً حاداً على مسؤولي بعض الكنائس الغربية بسبب قبولهم بتزويج مثليين على اعتبار أن اختيار التوجه الجنسي حق من حقوق الإنسان. وتساءل الطيب: "وأين حق الله؟"، واضعاً المثلية على خط المواجهة مع الدين.
كما جاء في معرض بيان أصدره مفتي تونس حمدة سعيد اعتراضاً على ترخيص الحكومة التونسية لجمعية تدافع عن حقوق المثليين، أن المثلية "انحراف خطير ومساس بقيم الإسلام وأخلاق المسلمين".
وتشابه هذا البيان مع بيان آخر أصدرته "هيئة علماء المسلمين" في لبنان، في فبراير 2017، احتجاجاً على حكم صادر يعطي المثليين حق "إقامة علاقات إنسانية أو حميمية مع ما يرونه من ناس". واعتبرت الهيئة أن القرار "ضرب بعرض الحائط ما قرّرته جميع الشرائع السماوية".
الأمر لا يتعلق بالدين الإسلامي فقط. فالبابا تواضروس الثاني، بابا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وبطريرك الكرازة المرقسية، وصف المثلية، في لقاء له مع شباب كنيسة سيدني بأستراليا، بأنها إما خطيئة تحتاج إلى توبة وإما مرضاً يحتاج إلى علاج.
نفس الوصف ورد على لسان مدير المركز الكاثوليكي للإعلام الأب اللبناني عبده أبو كسم، فالمثلية الجنسية، من وجهة نظره، هي خطيئة من الخطايا الكبرى وتستوجب التوبة.
وعلى أساس التحريم الديني، جرمت معظم الأنظمة العربية المثلية، وحاكمت مَن يمارسها بتهم "الفجور أو التحريض عليه أو إهانة القيم الاجتماعية". هذا عدا مواجهة المثلي نبذاً اجتماعياً.
وترتسم في عقول أبناء الدول العربية صورة للمثلي كشخص متحرر من الإيمان بالشرائع السماوية، ومتمرد على القوالب الاجتماعية. وتواجه المثليات صورة أكثر تنميطاً.
الإسلام والمثلية... "نظرة توافقية"
هناك مَن يرى إمكانية للتعايش بين الدين والمثلية. هذا ما تعرضه مجموعة فتيات في الوطن العربي، دشنّ صفحة "مثليات مسلمات" على فيسبوك. تقول عائشة، من سوريا، أدمن الصفحة لرصيف22 إن "الفتاوي تضع المثلية في تناقض مع الدين، وعندما يفشل المثلي في التنازل عن ميوله الفطرية المثلية، سيضطر حتماً إلى ترك الدين، ويصبح ملحداً أو لا دينياً". وتضيف: "لكنني قررت التمسك بديني، ولم أرَ فيه ما يحرّم مثليتي، واكتشفت بعد تعمق ومعرفة بالمثلية من منظور ديني أن الدين لا يحرمها". تعتبر عائشة أن آراء رجال الدين في العالم العربي ليست مرجعاً ملزماً لها، وتقول: "لا يوجد أحد معصوم من الخطأ. حتى الشيوخ غير منزهين عن الخطأ. وكما توجد مؤسسات دينية في العالم العربي ترفض المثلية، هناك مؤسسات دينية استغلت أجواء الحرية في الغرب وأعلنت تأييدها للمثليين، كما برزت ناشطات مسلمات يدعمن المثلية ويتمسكن بالإسلام". من بين هؤلاء الناشطات، اتخذت فتيات صفحة "مثليات مسلمات" من الناشطة الأمريكية المسلمة "بلير إيماني" أيقونة لدعوتهن حول إمكانية التعايش بين الدين والميول المثلية. إيماني ناشطة أمريكية من جذور إفريقية، اتخذت من موقعها على شبكة الإنترنت منصة لدعم المثليات في العالم، وللمطالبة برفع يد المجتمع عنهن. وظلت إيماني وحتى فترة قريبة ترتدي الحجاب، ولا ترى فيه أي تناقض مع ميولها الجنسية، بل حرصت عبر مقالاتها على توضيح رؤيتها في مسألة أن المثلية أمر طبيعي ثابت علمياً. موقف الناشطة الأمريكية هذا دفع عائشة لتطالب كل رجال الدين الذين يحرمون المثلية بأن "يرجعوا إلى الأبحاث العلمية والمؤسسات الطبية العالمية والأطباء الذين أثبتوا أن المثلية فطرة وليست اختياراً". ليست فطرية الميول الجنسية وحدها ما دفع الفتيات للاقتناع بأن المثلية حلال. فوفقاً لفاطمة، وهي فتاة فلسطينية أردنية مثلية، "لم ترد كلمة واحدة في القرآن تحرّم المثلية، ولا يوجد تحديد لنوع الزواج، وتقييد له بالزواج بين الرجل والمرأة، والأصل دائماً الإباحة وليس المنع". لفاطمة وغيرها من مديرات صفحة "مثليات مسلمات" تفسير خاص لآية قوم لوط التي تُعَدّ مرجعاً في تحريم المثلية إسلامياً. فهي ترى أن فاحشة قوم لوط ليست كما يفسرها المشايخ بأنها ممارسة المثلية، ولكن فاحشتهم هي اغتصاب الرجال وقطع الطرق، أي أن طريقة الممارسة هي المحرمة، وليست الممارسة ذاتها. تروي فاطمة لرصيف22 أن مخالفتها لفطرتها وإجبارها على الزواج انتهى بالطلاق، وتقول إنها الآن ليست على استعداد لأن ترتكب نفس الخطأ مرة أخرى، وستتمسك بمثليتها، ولن تتخلى في الوقت ذاته عن إسلامها، معلنة استعدادها لتفنيد أية حجة تحرّم المثلية.علاج ذو نتائج عكسية
قناعة القائمات على صفحة "مثليات مسلمات" بأن المثلية فطرة فيهن عززت داخلهن الطمأنينية بأنهنّ لا يسرن في اتجاه مخالف للدين الإسلامي. ولكن هذه القناعة لم تكن موجودة منذ البداية لديهنّ. قبل ذلك، سبق لهن جميعاً تجربة العلاج، تأثراً برأي المحيطين بهن بأن المثلية مرض."الفتاوي تضع المثلية في تناقض مع الدين، وعندما يفشل المثلي في التنازل عن ميوله الفطرية المثلية، سيضطر حتماً إلى ترك الدين. لكنني قررت التمسك بديني، ولم أرَ فيه ما يحرّم مثليتي"
"أتمنى أن أعود إلى بلدي، لأدعم المثليين وأوصل رسالة بأنني متدينة والمثلية ليست حراماً، وأنا أؤدي الصلاة، وفي نفس الوقت بيني وبين فتاة علاقة حب. وأنا مقتنعة بأنه لو المثلية حرام، ما كان الله خلقنا بها"وكان بعض الدعاة قد ساعدوا على ترسيخ تفسير الميول المثلية باعتبارها مرضاً. فقد خلط الداعية اليمني الحبيب علي الجفري بين المثلية الجنسية Homosexuality واضطراب الهوية الجنسيةGender Identity Disorder، وطالب بمعالجة المثلي باعتباره شخصاً مريضاً باضطراب الهوية الجنسية، وبإخضاعه للعلاج الهرموني لضبط ميوله الجنسية. هذا على الرغم من أن المصاب باضطراب الهوية الجنسية، وخلافاً للمثلي، هو شخص يشعر بعدم الارتياح بشكل تام لهويته الجنسية، ويسعى إلى إجراء عملية لتحويل نوعه، وليس مجرد شخص ينجذب لأفراد من نفس نوعه الجنسي. بسبب هذا النوع من التعاطي مع المثلية، نشأت قناعة عند الأهل بإخضاع الفتيات اللواتي تحدثن لرصيف22 للعلاج الهرموني أو النفسي أو كليهما، اعتقاداً منهم بأنهم بذلك سيجتثون جذور الميول الجنسية المثلية من نفوس بناتهم. ولكن، وفي أفضل الأحوال، لم يؤدِّ العلاج إلى أية نتيجة إيجابية، وفي أسوأها تسبب بمعاناة الفتيات من مضاعفات صحية شديدة. كانت تجربة العلاج شديدة القسوة على دعاء. فالفتاة المصرية ذهبت لتلقي علاج هرموني بمبادرة شخصية منها، وبمساعدة عمتها الطبيبة، لاعتقادهما بأن ميولها الجنسية المثلية ترجع إلى اختلال في هرموناتها. أثرت أدوية الهرمونات على دعاء، فقد شعرت في البداية بالعزلة والاكتئاب لعدم إتيان العلاج بأية نتيجة، بجانب خوفها الشديد من الآثار الجانبية الناتجة عن تعاطي العلاج الهرموني على مدى طويل، والمتمثلة في أمراض القلب والجلطات الدموية. وبعد اشتداد حالة الاكتئاب لديها، قررت دعاء أن توقف العلاج الهرموني، وتلجأ إلى العلاج النفسي، بمبادرة شخصية أيضاً. ولكن ما جعلها توقف هذا العلاج لاحقاً هو اطلاعها على أدلة أقنعتها بأن المثلية ليست مرضاً، وبأن عليها تقبّل نفسها كما هي. على العكس من حالة دعاء، فإن حالة العلاج التي خضعت له آية من فلسطين، نشأت من ضغط الأهل، وليس من اقتناع شخصي، فقد خيّروها بين العلاج أو الطرد من المنزل بعد اكتشاف ميولها المثلية. تعرّضت آية، وفقاً لما قالته، للاستغلال المادي تحت مسمى العلاج من المثلية. فالطبيب الذي قام على علاجها حصل على مبلغ مالي ضخم. وعلى الرغم من عدم ظهور أية بوادر تغيّر في ميولها، واصل الطبيب حصصه العلاجية والحصول على الأموال الباهظة، معتمداً على رغبة الأهل في "علاج" ابنتهم من المثلية. وبعد أن اطلعت آية على تقارير دولية من مؤسسات طبية عالمية تؤكد أن المثلية ليست مرضاً، قررت أن تقطع علاقتها بالعلاج، وتواجه أهلها مرة أخرى بمثليتها، ولكن بتصميم أشد. تجربة علاج أخطر عاشتها عائشة. فالعلاج الهرموني الذي أجبرها أهلها على مباشرته، دفعها إلى التفكير جدياً في الانتحار، وما حال دون ذلك، وفقاً لما قالت، هو عملها على إحداث مصالحة نفسية بين مثليتها وبين تمسكها بالدين الإسلامي، معتمدة في ذلك على تجارب دعاة مسلمين في الغرب أخذوا على عاتقهم عبء الدفاع عن المثلية، ومحاولة التوفيق بينها وبين الإسلام.
مؤسسات تدعم... ودعاة مثليون
فيما توحّدت المؤسسات الدينية في العالم العربي ضد المثلية الجنسية، اتخذت بعض المؤسسات الدينية في الغرب موقفاً مغايراً. وشجّع اتجاه بعض الكنائس، كالكنيسة الإنجيلية في كندا والأسقفية في بريطانيا، للاعتراف رسمياً بزواج المثليين، دعاة مسلمين على الإقدام على الاعتراف بزواج المثليين. أكثر من ذلك، أعلن بعض هؤلاء الدعاة مثليتهم. من أشهر هؤلاء الدعاة الإمام نور وارسامي، مؤسس جمعية مرحباً الأسترالية. تعليم نور الأزهري لم يمنعه، منذ انتقاله إلى أستراليا عام 2000، من أن ينشط كمثلي يدعو إلى التصالح بين الدين والمثلية، منتقداً في تصريحات له "التفسيرات غير العصرية للقرآن والتي تؤدي إلى تحريم المثلية". واتخذت منظمة بريطانية تدعم المثليين المسلمين "إيمان" اسماً لها، لتشير بهذا إلى أن الإيمان موقف يُتخذ بمعزل عن هوية الشخص الجنسية، وفقاً لما جاء على موقع المنظمة. ربما حالة التصالح هذه جعلت جنى، المثلية العراقية وإحدى عضوات إدارة صفحة "مثليات مسلمات"، الأكثر حظاً بين رفيقاتها، لاستطاعتها الحصول على لجوء إلى كندا. هناك، وجدت الشابة التي تبلغ من العمر 24 عاماً مناخاً ساعدها على أن تدرس وتبني علاقات صداقة وعلاقة حب أيضاً بفتاة، وسط تقبل اجتماعي. ورغم كل هذا، فإن ما تتمناه هو "أن أعود إلى العراق، لأدعم المثليين وأوصل رسالة بأنني متدينة والمثلية ليست حراماً، وأنا أؤدي الصلاة، وفي نفس الوقت بيني وبين فتاة علاقة حب. وأنا مقتنعة بأنه لو المثلية حرام، ما كان الله خلقنا بها".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...