تونس تجرّمُ التمييز العنصري بقوّة القانون…من إلغاء الرق إلى تجريم العنصرية مسيرةُ قرنين
الجمعة 12 أكتوبر 201810:41 ص
بعد سنة على عرضه في البرلمان، أقرّ مجلس النواب التونسي مساء الثلاثاء قانوناً طال انتظاره: "قانون مناهضة التمييز العنصري والمساواة التامة بين المواطنين في جميع الحقوق”.
ويعاقب هذا القانون كل من يتفوه بكلام عنصري، بالسجن بين شهر وسنة وبغرامة مالية تصل إلى ألف دينار (353 دولاراً أميركياً).
ويشدد القانون العقوبة على من يحرض على العنف والكراهية والتفرقة والتمييز العنصري وكل من ينشر أفكاراً قائمة على التمييز العنصري أو كذلك " تكوين مجموعة أو تنظيم يؤيد بصفة واضحة ومتكررة التمييز العنصري أو الانتماء إليه أو المشاركة فيه” بالسجن بين عام وثلاثة أعوام وبغرامة مالية تراوح بين ألف وثلاثة آلاف دينار (1060 دولاراً).
هذا القانون الذي شبهه بعض التونسيين بـ “إلغاء العبودية” يهدف إلى"القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري ومظاهره حمايةً لكرامة الذات البشرية وتحقيقاً للمساواة بين الأفراد في التمتع بالحقوق وأداء الواجبات وفقاً لأحكام الدستور والمعاهدات الدولية المصادق عليها من قبل الجمهورية التونسية".
غير أن البرلمان التونسي لم يكن على كلمة واحدة أثناء التصويت على هذا القانون “الثوري”، الذي أحرز 125 صوتاً من أصل 217، إلا أن نائباً واحداً صوّت ضده، وامتنع خمسة نواب عن التصويت.
في حوار مع رصيف22، يقول المهدي بن غربية إن تاريخ الإنسانية هو مجموعة تراكمات، وتونس كانت سباقة إلى إلغاء الرق في عام 1841 والوعي باحترام المساواة، بشكل جعلها مختلفة نوعاً ما عن إطارها الجغرافي، “لكن رغم ذلك، لدينا نقائص عدة، أولاها أننا في تونس لا نقرُّ بوجود سلوك عنصري في المجتمع. وفي غياب الإقرار يصعب علاج المشكلة، وفي مجتمع منغلق تصعب المكاشفة. لكن ثورة 2011 غيرت المجتمع إلى حد كبير، ربما تأخرنا في سن هذا القانون المُجرّم للعنصرية، لكن إقراره أمس انتصار للمجتمع، لأننا قررنا مواجهة الشعب بشجاعة حتى نصلح ما بنا، فالحقوق لا يمكن أن تقسم الشعب بل العكس".
هل التونسيون عنصريون؟ سأل رصيف22 السيد بن غربية، عرّاب قانون تجريم العنصرية، فقال: “لدينا سلوك عنصري، كذلك لدينا ثقافة عنصرية علينا استئصالها، أُنظري مثلاً إلى تلك المفردات المنتشرة في مجتمعنا لوصف سمرة البشر، بكلمات عنصرية مثل “وصيف” و “كحلوش” وهي كلمات قبيحة ومؤذية رائجة دون شعور بخطورتها وبأنها عنصرية. حتى في حفلات الزفاف، تتعمد بعض الأسر وضع سيدة سمراء البشرة في الصفوف الأمامية كنوع من التميمة لكسر الحسد والعين، تقول تلك الخرافة… هذا كله موروث عنصري متداول في تونس”.
المطالبة بسن قانون يجرّم العنصرية لوضع حد للإفلات من العقاب، كان هدف بن غربية، لهذا سعى طوال ثلاث سنوات داخل الوزارة وخارجها إلى حشد قوى المجتمع المدني والساسة ونواب الشعب لصوغ هذا القانون. يقول: “تكرار الاعتداءات على الطلبة الأفارقة من جنوب الصحراء في تونس، وكذلك على الفتاة التونسية صابرين، لأنهم جميعاً من ذوي البشرة السمراء، كان أمراً لا يحتمل، لذا كان علينا دق ناقوس الخطر وبشدة. تحدثت لصابرين وقررنا معاً أنه آن الأوان لوضع قانون يضع حداً للممارسات العنصرية قولاً كانت أو فعلاً. كان على الدولة أن تتحمل مسؤوليتها في ذلك بوضع الإطار التشريعي المجرّم للعنصرية. وكان على السياسيين والنخب أن يكونوا طلائع في المجتمع التونسي للتصدي للعنصرية. لن نغير السلوك العنصري بين ليلة وضحاها. هذه بداية”.
تقول النائب جميلة كسيكسي لرصيف22: "وعي المجتمع المدني التونسي كان له الفضل في الدفع بقوة لطرح هذا القانون، فرغم أن تونس كانت سبّاقة إلى منع العبودية والرق، هناك رواسب عنصرية في المخيال الشعبي كان لا بد من مواجهتها بسن قانون يجرّم كل قول وفعل عنصريين”.
وتضيف: "قانون القضاء على التمييز العنصري هو نقلة كبيرة في تاريخ تونس، فبعد مرور 170 عاماً على إلغاء العبودية والرق، يأتي هذا القانون لينتقل بتونس إلى مرحلة جديدة من الوعي بضرورة استئصال العنصرية من سلوك الأفراد والمجموعة".
وتلفت إلى أن الحديث عن العنصرية في تونس، كان من التابوهات قبل ثورة 2011، للاعتقاد بأنها ليست بالخطيرة، وتستطرد: "لكن الثورة جعلتنا أكثر وعياً بذلك وهو ما دفع إلى طرح القانون في البرلمان”.
وماذا عن موقفها من زميلها الذي صوت ضد القانون والنواب الخمسة الآخرين الذين امتنعوا عن التصويت؟ أجابت: “كانت هناك بعض المواقف الصادمة، لكن المجلس بأغلبيته تبنى القانون. بعض النواب رأى أن التمييز بين الجهات يستحق المعالجة قبل هذا القانون، وربما امتنعوا لأن التعديلات التي اقترحوها لم تؤخذ بعين الاعتبار".
يقول محمد الكيلاني رئيس الحزب الاشتراكي لرصيف22: "إن إلغاء الرق في تونس في العام 1841 كان نتيجة ظهور لبنة تيار حداثي، لكن ذلك التيار لم يكن واضح الملامح، لذلك كان ذلك القانون ضيق الأفق ولم يرتقِ إلى منع العنصرية وتجريمها، ولم يستهدف الإنسان التونسي في عمقه لمحو العنصرية منه”.
ويعتبر أن الأثر الاجتماعي بقي يتقدم ببطء، وحتى الرق استمر في تونس حتى خمسينيات القرن الماض برغم منعه منذ القرن التاسع عشر، فيُقال “فلان عبد فلان”.
قصة صابرين والعرّاب كيف دفعت إلى سنٰ قانون يجرم العنصرية
عرّاب هذا القانون هو المهدي بن غربية، وزير العلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان المستقيل في يوليو الماضي. بن غربية هزته في أكتوبر 2016 حادثة تمييز عنصري تعرضت لها الفتاة التونسية ذات البشرة السمراء صابرين أنقوي، فقرر آنذاك، انطلاقاً من خطته الوزارية، تكثيف المشاورات مع مكونات المجتمع المدني لسنّ قانون رادع قادر على تجريم العنصرية قولاً كانت أو فعلاً. وفي خضم حملته ضد العنصرية، حصل بن غربية على مساندة رئيس الحكومة يوسف الشاهد الذي أعلن في ديسمبر 2016 سعي الحكومة إلى تخصيص يوم وطني لمناهضة التمييز العنصري، وإلى سن قانون يجرم فعل التمييز العنصري مطالبا، بالشروع فوراً في حملات توعوية للقضاء على العنصرية.

هل التونسيون عنصريون؟
طرحنا على جميلة وهي سمراء البشرة سؤالاً صريحاً: هل التونسيون عنصريون؟ ردّت: "العنصرية موجودة منذ نشوء البشرية، لكن تونس كانت في كل مرة تخطو خطوة للقضاء عليها. وهي كانت من أول البلدان التي وقعت الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري منذ سنة 1967، ولدي اقتناع بأن كل الحروب الأهلية التي اندلعت في العالم كانت العنصرية وراءها. لا نعمم لكن هناك ثقافة عنصرية في بعض الأوساط. وتونس دولة شجاعة إذ قررت مواجهة هذه الثقافة بتجريمها بقوة القانون". وعن كيفية تطبيق القانون ومدى جديته في تتبع المخالفين “العنصريين” في مجتمع لا يأخذ على محمل الجد خطورة وقبح النكات العنصرية ولا يتصدى لها، قالت جميلة: “سلوك المجتمتعات يتغير أحياناً بالقانون الذي يراقب سلوك الأفراد ويعاقب المخالفين. المهم في المرحلة الأولى أن يتغير السلوك العام، وستتم مراقبة السلوك في دوائر الدولة، وحين يُقضى على العنصرية في تلك الدوائر سيكون ذلك إنجازاً حقيقياً. علينا كذلك معرفة أهمية دور المناهج التربوية، ومراجعتها على نحو يؤصل لثقافة نبذ العنصرية. عندما نهتم بالناشئة سنضمن سلامة الأجيال المقبلة من السلوك العنصري. ومع مرور الزمن تصبح لدينا ثقافة صحية لا مكان للعنصرية فيها". لماذا تأخرت تونس في سن قانون يشدد العقوبة على مرتكبي التمييز العنصري إلى عام 2018، رغم أنها كانت سبّاقة عربياً وإسلامياً إلى إلغاء العبودية واعتبار الرق “جريمة”؟من إلغاء الرق إلى تجريم العنصرية
يعود إلغاء الرق وعتق العبيد في تونس إلى منتصف القرن التاسع عشر، حين أصدر أحمد باي الأول (باي تونس) في 6 سبتمبر 1841 أمراً يقضي بمنع الاتجار في الرقيق وبيعهم في أسواق المملكة، كما أمر بهدم الدكاكين التي كانت معدة لجلوس العبيد بالبركة (المكان يحمل إلى اليوم الاسم ذاته “سوق البركة” وهي سوق الصاغة حالياً) ثم أصدر أمراً في ديسمبر 1842 يعتبر من "يولد بالتراب التونسي حراً لا يباع ولا يشترى”. كذلك أصدر في 23 يناير 1846 أمراً (قانوناً) يمنع الرق. لأمر علي بتاريخ 23 جانفي 1846 تدرّج أحمد باي في سلسلة التشريعات المجرّمة للعبودية والرق بإصدار أحكام تبطل العبودية في المملكة (تونس) أمر علي بتاريخ 29 ماي 1890 كان ذلك القانون ثورياً فعلاً، لا فقط في الإيالة التونسية التي تتبع الباب العالي (الإمبراطورية العثمانية)، بل كذلك في العالم. لماذا هو ثوري؟ لأن باي تونس لم يعد بالنظر إلى الباب العالي، الذي لم يكن يكرس العبودية فحسب بل أيضاً يعتمد عليها. اعتمدت الامبراطورية العثمانية على ما كانت تسميه "طبقة العبيد" المؤلفة من الصبية والبنات الأوروبيين الذين يخطفهم القراصنة أو يتم سبيهم خلال المعارك والحروب، ومن الأفارقة الذين كان يخطفهم تجّار الرقيق من قراهم جنوب الصحراء الكبرى لبيعهم للباب العالي.