لا يستطيع قارئ رواية "بالتساوي" التوقف عن الابتسام أو الضحك على امتداد قراءته لهذه الرواية الساخرة والطريفة. ذلك أن "خليل الرز" وضع نصب عينيه وهو يكتب: متعة القارئ أولاً، والتعبير بخفة ومرح عن البؤس والسوداوية واليأس التي يحياها أبطاله ثانياً، لذا فهو يغرقنا في الضحك حين يجب أن نبكي على قهرنا وخيباتنا.
يومان هما الزمن الفعلي للأحداث، غير أن هذين اليومين ينفتحان من خلال ذاكرة الشخصيات على عمرٍ كامل، هكذا يأخذنا الروائي إلى طفولة "عبد الهادي"، وتحديداً إلى اليوم الذي عقد فيه والده اتفاقاً مع والد "بديعة" يقضي بزواجهما حين يكبران. "وكان أبوه، منذ بلغ عبد الهادي الثامنة من عمره، قد قرأ، بحضور شيخ وشهود، فاتحة زواجه من بديعة، صغرى بنات صديقه وجاره في سوق الحميدية، فنعما لسنوات طويلة بامتيازات زوجين قاصرين عفيفين ومدللين".
هذا الاتفاق القديم هو ما سيحرّك الأحداث في الرواية، إذ إن "عبد الهادي" يقرر في ليلة زفافه أن يتمرد على هذا الاتفاق، وبدلاً من أن يمضي إلى منزل عروسه، يتوجه إلى منزل "سميع"، مصطحباً إياه إلى ملهى ليلي.
"سميع" هو صديقه الذي يكبره بعشر سنين، وهو موظف في مؤسسة "استنهاض التراث العربي"، ظلَّ طوال عمره ينتظر أن يترفّع في منصبه ليصبح مديراً للمؤسسة، لكن دون جدوى. وفي عيد ميلاده التاسع والأربعين، تتصل به "ابتسام" التي أحبها في شبابه، طالبة أن تلتقيه في مقهى "النوفرة" بعد يومين. "ثم ازرقّ من وقع المفاجأة، لقد هنأته المرأة بعيد ميلاده التاسع والأربعين الذي صادف دون أن ينتبه في ذلك اليوم. (...) نوّهت ابتسام له قبل أن تنسحب من المكالمة بأنها سوف تنتظره في المكان نفسه الذي رعى مشاعرهما الأولى قبل أكثر من عشرين عاماً".
هكذا يخلق الكاتب حبكة روايته، فيوقع بطليه في دوامة الماضي، في اليوم نفسه، "عبد الهادي" الذي يجب أن ينفذ اتفاقاً قديماً، و"سميع" الذي يطرق حبٌ قديم بابه، وهما اللذان ما خرجا قط، حتى لو توهّما ذلك، من تبعات هذا الماضي وآثاره.
في الملهى الليلي يقع "عبد الهادي" في غرام الراقصة التونسية "أزهار"، وفي صبيحة اليوم التالي يذهب إلى مكان إقامتها ليعيش مغامرات مجنونة، تنتهي به محطم القلب والروح والجسد في منزل عمّته "بهيرة". تلك العمّة تبدأ مونولوجاً طويلاً يحتل فصلاً كاملاً، يضيء من خلاله الكاتب على جوانب من حياة الأسرة الدمشقية البرجوازية، وجوانب مظلمة من الهيمنة الذكورية التي يفرضها رجال العائلة على النساء.
هذا المونولوج الطويل الذي يختصر تاريخاً كاملاً من القهر والتسلط، وبرغم كل القسوة التي يمتلأ بها، فهو من أكثر مقاطع الرواية إمتاعاً. لا يبحث الكاتب عن مفردات فصيحة للتعبير عن أوجاع العمّة، بل يترك الكلمات تندلق على هواها، سامحاً للمفردات العامية بالتسلل كيفما شاءت إلى أرجاء مونولوجها مانحةً إياه تدفّقاً لا يخلو من طرافة.
على الجانب الآخر، و"بالتساوي" مع هذيانات العمة، يكون "سميع" في منزله الذي يقيم فيه مع مؤجّرته "الست بهيجة" مصاباً بالحمى، واقعاً بين فكي مؤجرته والطبيب الذي جلبته من جهة، وبين تلاطم الذكريات في مخيّلته من جهة أخرى، فيصبح السرد متفجراً بين ثلاثة أزمنة مختلفة في الفصل نفسه، وحتى في المقطع نفسه. "سميع" ينفذ أوامر الطبيب الآن، وفي عقله يسترجع ذكرياته عن معسكر للحزب الشيوعي، وكيف كان الرفيق الحزبي يصطاد سمكة، بالتوازي مع ذكريات عن ذهابه برفقة صديقه إلى ماخور. كل ذلك يحدث بعبارات متلاحقة، لا فاصل بينها، بل تبدو مترابطة وكأنها فعلاً تحدث في الزمن نفسه، والمكان نفسه، وهذا ما يتطلب تركيزاً وجهداً من قبل القارئ كي لا يتوه.
"افتح فمك! أصدرت له الست بهيجة أمراً صارماً، فانبلق باب المومس أمامه وخرج منه رجل أشبه ما يكون بحائط، بينما غمر الماء ثلاثة أرباع جزمة الرفيق عضو المكتب السياسي. افتح فمك! كررت الست بهيجة، فيما نزل الرجل على الدرج وظل الباب وراءه شاغراً أمام الأستاذ سميع، ووصل الماء إلى ركبتي الرفيق".
إذاً، يفجر "خليل الرز" كل البنية التقليدية، مدمراً السرد المتصاعد والزمن الخيطي، لمصلحة التجريب وإنتاج أشكال جديدة للسرد الروائي. ولا يكتفي بنسف ما يتوقعه القارئ من تتالي العبارات، بل أيضاً ينسف الأماكن وجغرافيتها، خالطاً بينها، فيحدث مثلاً أن ينام "عبد الهادي" في فندق بارون في حلب، ثم يستيقظ صباحاً ويمشي باتجاه منطقة "التجهيز" في دمشق!
خليل الرز روائي ومترجم سوري، ولد في الرقة عام 1956، درس الأدب العربي في جامعة حلب، ثم سافر إلى روسيا حيث عمل معدّاً ومقدماً في إذاعة موسكو. وهو الآن يعمل في دائرة التأليف والترجمة في وزارة الثقافة السورية. له سبع روايات، هي "سولا ويسي"، "يوم آخر"، "وسواس الهواء"، "غيمة بيضاء في شباك الجدة"، "سلمون إرلندي"، "أين تقع صفد يا يوسف؟"، و"بالتساوي". نقل من اللغة الروسية إلى العربية قصصاً لـ "شفارتس"، و"بونين"، و"تشيخوف".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع