تؤلف مقاطع الفيديو المُحمَّلة على فيسبوك ويوتيوب، على بدائيتها، مادة توثيقية بدأت تجاربها بالتراكم مع مرور السنوات لتكوّن أرشيفاً يتطوّر في أسلوبه وطريقة عرضه. يترافق ذلك مع إضافة مزايا المونتاج وخدمات أخرى جديدة في يوتيوب، أو حتى تسريع الزمن الفيلمي وتعديل الألوان، كما في انستغرام. ويبدو واضحاً أن تحسّن الشكل الخارجي لهذه التجارب أتاح لمخرجي "السينما الوثائقية" الاعتماد عليها. تتركز المادة التي ينتجها هؤلاء على تسجيل حياتهم اليومية لتُعرض، صوراً أو فيديوهات، أمام جمهور معظمه من الأقارب والأصدقاء.
لكنّ هذا الجمهور تتسع حلقته بحسب استثنائية الحدث المُصور. فعلى سبيل المثال، نرى على يوتيوب أنّ أكثر المقاطع مشاهدة مصورة على أجهزة موبايل، كمقاطع الفاينالساخرة أو المقاطع التي تنقل ظواهر غريبة. بذلك، يمكن اعتبار الموبايل اليوم الوسيط الفني الأكثر تداولاً في العالم الرقمي.
ينظمّ سنوياً أكثر من 30 مهرجاناً لأفلام الموبايل في أنحاء عدة من العالم استطاع بعضها عرض أفلام حازت شهرة عالمية مثل فيلم "زيتون" Olive الذي صوّر بجهاز نوكيا واستطاع الوصول إلى هوليوود، والفيلم الوثائقي الطويل "طهران بدون إذن" الذي وجد طريقه إلى مهرجانات دولية أيضاً. على الرغم من ذلك، فقد أخذت هذه الأفلام اهتماماً بسبب طرق انتاجها التقليدية. تمّ تصويرها بأجهزة موبايل، ولكنها لم تختلف بطرق انتاجها وتسويقها عن طرق انتاج الأفلام العادية وتسويقها.
يقول منظّم أول مهرجان لأفلام الموبايل في سوريا (فضّل عدم الكشف عن اسمه) إن في المرحلة التي أعقبت عام 2011 "لم يكن يخطر على بال أحد مدى التأثير الذي يمكن أن يصنعه مقطع فيديو مصور بواسطة موبايل تم تحميله على يوتيوب". نقلت هذه المقاطع المظاهرات التي شهدتها سوريا وقد كانت صلتها الوحيدة بالعالم، لا سيما مع التعتيم الإعلامي الذي كان يمارسه النظام على الأحداث في البلاد. "كان الموبايل خلال الثورة وسيلة فاعلة من وسائل النضال السلمي".
حفّزت هذه الوظيفة الإيديولوجية المعطاة للتصوير بالموبايل والمدفوعة بقوة الإرادة الشعبية، فئة واسعة من حاملي هذه الأجهزة على تصوير الفيديو ليمارسوا به نفوذاً عالمياً. لكن هذا التأثير، بحسب منظم المهرجان، أخذ أهميته أولاً عبر وسائل الاعلام التقليدية، "وهذا ما يعيدنا إلى دور الرقابة التي نقلت ما تريد مما وضعه السوريون على وسائل التواصل، ولكن فعلها رغم سلبيته، كرّس هذه الفيديوهات كوثيقة تملك مصداقية ما، تعمل بحسب آليات تختلف عن آليات صناعة الأفلام التلفزيونية أو السينمائية".
بحسب المنظّم، ينطلق التنظير الأساسي لهذه الأفلام من أن "ليس الأعلى دقة هو الأكثر مصداقية بالضرورة". فيديو قصير يصور حدثاً استثنائياً بكاميرا منخفضة الجودة، هو أعلى قيمة من فيديو يصور حدثاً عادياً بكاميرا عالية الجودة، لكن من دون تعميم طبعاً. يحيلنا هذا مثلاً إلى حركة الكاميرا التي أصبح ارتجاجها عادياً، وهو ما لم تتجرأ السينما الوثائقية على اعتماده حتى في أكثر نماذجها تجريبية. "تصبح الكاميرا امتداداً لليد، أي جزءاً من الجسد البشري". إذ ذاك يغدو ثباتها هو الخطأ وليست حركتها، مما يعني أن وجود المصوّر وراء الكاميرا يصبح علنياً ولا ضرورة لإخفاء حضوره.
شاركت في "مهرجان سوريا لأفلام الموبايل" الذي أقيم البارحة في بعض المدن السورية مثل حلب، ودرعا، وكفرنبل، وسراقب، مجموعة أفلام أنتجت إثر ورشات تدريبية مدة الواحدة منها 7 أيام، نظّمت في مدينتي كفرنبل وجوزيف. ركّزت هذه الورش على تدريب الصحافيين على استخدام كاميرا الموبايل كوسيلة لإنتاج أفلام، وزوّدت المشاركين خلالها بالمهارات المتعلقة بصناعة الفيلم الأولية (التصوير والمونتاج)، وبكيفية ملاحقة العمل على أفلامهم الشخصية. تعددت أنواع الأفلام المشاركة من الوثائقي إلى الروائي والتجريبي، لكن من دون أن تتعدى مدتها الثلاث دقائق.
في الأفلام الوثائقية، يوثق فيلم "لمن تقرع الأجراس" تشييع جنود من الجيش السوري ينتمون الى الطائفة الشيعية. تتنقل الكاميرا خلال التشييع بين المشاركين من دون أن يعيرها أحد أي انتباه، وكأن وجود كاميرا الموبايل، الصغيرة الحجم، أخف ثقلاً من الكاميرات العادية. فقد اعتاد الناس على وجودها بينهم. وهذا ما يبدو واضحاً عندما نرى أشخاصاً آخرين يصورون بأجهزتهم الخليوية جوانب من التشييع، بحيث ينتقل هؤلاء، بخفة من موقع الممثل إلى موقع المخرج. هذا ما تكرّسه الأفلام المنتشرة بين المقاتلين، والتي تصوّر يومياتهم، حيث ينتقل هؤلاء من معركة يخرجون أفلامها إلى ممثلين في أفلام غيرهم، مكرّسين أنفسهم "أبطالاً".
أما في فيلم "بطلقة واحدة أخذو حياته" فلا يظهر أي ممثل سوى الكاميرا المتوارية عن العيون كي لا تكتشف. وهي تتلصص بحذر مبقية وجهتها نحو الأسفل لتصوّر الأرض وأقدام أشخاص مجهولين، ولا ترتفع إلا في حالات استثنائية لتصور لافتة ما أو ورقة. تلصصها هذا يبدو غير مزعج في الفيلم، إذ تدور في مقبرة لتبحث عن شاهد قبر لشخص ما، بدون الالتفات لرؤية أشياء أخرى تبدو قليلة الأهمية بحضور الموت المكثف في المكان. هذا الأسلوب ليس بعيداً عن بعض تجارب شرق آسيا في التصوير، وهي تجارب ارتكزت على إيهام المتفرّج بأن الكاميرا مخفيّة عن الشخصيات. ومعروف أن هذا الأسلوب يشبه أسلوب تصوير مقالب الكاميرا الخفيّة التي انتقلت إلى يوتيوب في السنوات الأخيرة بنسخ تنفذ حصراً بكاميرا الموبايل، بحيث يعمد صاحب القناة اليوتيوبية، الذي يكون منفذ المقلب والمصور في الوقت نفسه، إلى تصوير ضحاياه من دون أن ينتبهوا. من البديهي في هذه الحالة أن ترتجف الكاميرا وتُصور عشوائياً الأرض في حالات عدم الأمان. ومن الملاحظ أن هذه القنوات تُحصّل أرقام مشاهدة مرتفعة جداً رغم رداءة المادة التي تقدمها.
يجمع استخدام أسلوب التصوير هذا في مهرجانات أفلام الموبايل، أو في أشكالها الترفيهية أو التوثيقية المكرسة يوتيوبياً أو على إنستغرام وفيسبوك، والمصوّرة بدوافع إيديولوجية خلال الثورات العربية والحروب الداخلية مثلاً، قواسم فنية مشتركة. فلا تمنع رداءة التصوير والتسجيل الصوتي ملايين المشاهدين من مشاهدة الفيديو، ويطغى الموضوع المصوّر على التقنية ويتحوّل إلى الوسيلة والهدف. أدّى هذا التقليل من مكانة الصورة ونوعيتها إلى التخفيف من عبء الكاميرا العاديّة، وهو ما سيساهم في حال تطوّر أفلام الموبايل في الإلغاء التدريجي لموقعها وآليات عملها وقوانينها المكرّسة عبر المئة سنة الأخيرة.
يذكر أن المهرجان الذي الذي أقيم في 15 أكتوبر في سوريا سيقدم مجموعة عروض دولية في عدد من الفضاءات الثقافية والفنية في أنحاء مختلفة من العالم، كباريس ولندن وبرلين وبلجيكا، يعلن عنها لاحقاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون