كان بلاط الخلفاء يعجُّ بالغناء والمغنيين من عامة الناس الذين اشتغلوا بتلك الصناعة، وكانت لهم مجالسُهم الخاصة التي يطورون فيها ألحانهم فيستمعون إلى بعضهم، ويتذوقون ما يقولون بحسٍّ فنيٍّ دقيق ودرايةٍ عميقةٍ بأصول الغناءِ والضرب على العود وفن القول.
وأخذَ الغناء في ذلك يتطورُ وينتشر، ويكثر بذلك المشتغلون به والمستمعون إليه، حتى تأثرَ الخلفاء أنفسُهم وأبناؤهم وبناتهم أيضاً بهذا الفن وتلك الصناعة، فانتقل بعضهم من دَورِ المستمع الهائمِ بالغناء في أوديةِ اللِّذة والمتعة والجمال بما يلمُّ به من تطريبٍ يدرك به ركْبَ النشاوى، إلى المغنى الذي يطرب الناسَ ويستثير فيهم لذةً تعلقُ بالوجدان وتجري بالبال وتسنح في الحسبان..
اشتغل بعضُ خلفاء الدولة الإسلامية وأمرائها بصناعة الغناء، سواء بالسماع أو التلحين أو التأليف، أو غير ذلك من ألوان الغناء، حتى أنَّ بعضهم اعتزل الخلافة للتفرّغ للغناء، منهم أيضاً من جلس في حلقة غناءٍ وجيشُ المسلمين يخوض حرباً حاميةً في عمورية، بعدما استغاثت امرأةٌ قائلةً "وامعتصماه"..
الطفرةُ الأكبر في اهتمامِ الخلفاء بالغناء واشتغالهم به، كانت على يدِ الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فدورُه لم يقتصر فقط على صناعة الألحان التي أنجزَ منها عدداً ضخماً، لكنَّ اشتغالَه بالغناء امتد ليشمل الضرب على العود، والنقرَ على الدفوف والطبول، فضلاً عن أنه كان يمشي بالدف على مذهب أهل الحجاز في المشي والغناء بالدف.
إبراهيم بن المهدي أحسن الإنس والجن والطير صوتاً
تولى إبراهيم بن المهدي، الخلافةَ فترةً في بغداد، وهو ابن الخليفة المهدي وأخو الخليفتين الهادي والرشيد، وعمُّ ثلاثة خلفاءَ هم أبناء أخيه، الأمين والمأمون والمعتصم، وكان من أبرز من اشتغلَ بالغناء من الخلفاء وأبنائهم.
وبعد سقوطِ خلافته ببغداد تفرغَ للغناء نحو ثلاثين عاماً من عمره، حيث ذكر عنه أبو الفرج "كان إسحاق الموصلي يقول، ما ولد العباس بن عبد المطلب بعد عبد الله بن العباس رجلاً أفضلَ من إبراهيم المهدي، فقيلَ له: مع ما تبذل له من الغناء؟! فقال: وهل تم فضله إلَّا بذاك".
ألَّفَ إبراهيم المهدي كتباً ورسائلَ في الغناء، كما غنّى في مجالس أخيه الرشيد، ومجالس أبنائه الثلاثة، الأمين والمأمون والمعتصم، وغنَّى أيضاً في مجالسِ محترفي الغناء، وفي مجالس كبراءِ بني هاشم.
وكان إبراهيم بن المهدي يغني مرةًّ للخليفة المعتصم، تذكَّر الأخيرُ أمراً عاجلاً من أمور الدولة فأمرَ باستدعاء قاضي القضاة أحمد بن أبي دواد، الذي كان يرفضُ الغناء ولا يستسيغه، ولا يغشى مجالسَ المغيين، كسلفه الشيخ أبي يوسف الأنصاري الكوفي، قاضي القضاة في عهد الخليفة الرشيد.
وكان أحمد بن أبي داود لا يُلِمُّ بمجلس غناءٍ إلَّا مجاملةً للخليفة أو لولي عهده أو لأحدِ الأمراء، وكان إذا جلسَ بها ظلَّ صامتًاً لا يتذوق شيئًاً مما يسمع، حتى إنَّه كان يرى في مجالسِ الغناءِ تضييعاً للوقتِ وإهداراً للمال، وعلى ذلك يتعجبُ رغبةَ الناسِ في الغناء ومجالسه.
فلما اقتربَ قاضي القضاة وكان إبراهيم بن المهدي قد استغرقَ غناءً واستخف الطربُ بمن يسمع، تسلَّل الغناءُ إلى نفسه في رويّةٍ وأريحية حتى تفتحتْ له حواسُّه في شغفٍ ولذة، وصافحَ أذنيه بشعورٍ وحسٍّ أخفَّ من النسيم، تملَّكته الحيرةُ وغلب عليه الاضطراب، وفي لحظةٍ كان للغناء فيها مفعول السحر بقاضي القضاة، الذي شغله الغناء عن كل شيء حتى سقطت عصاه من يده، دخل وجلس يستمع.
فلما أتم إبراهيم بن المهدي غناءه كان الطربُ قد استبد بالقاضي، فوثب من مجلسه يلتمس من الخليفة أن يأمرَ بإعادته، فضحك الخليفة وقال للقاضي "إن تبتَ عما كنت تناظرنا عليه في صناعة الغناء سألتُ عمي إبراهيم بن المهدي أن يعيدَ غناءه عليك"، فقال القاضي
"قد تُبتُ من ذلك، ورجعتُ عن رأيي في الغناء، وتركت مذهبي فيه إلى مذهب أمير المؤمنين، فإني سمعت والله من غناء الأمير إبراهيم بن المهدي ما أذهلني، وقد كنت لا أعرفُ معنى قول الناس إن الأمير هو أحسن الإنس والجن والوحش والطير صوتاً، حتى سمعته فعرفت".
كان الخليفة الواثق أشهرَ مغنٍ وملحن بين جميعِ من اشتغل بالغناء من خلفاء بني العباس وبني أمية، حيث تولى الخلافة بعد أبيه المعتصم، ثامن الخلفاء العباسيين، ولم يمكث بها سوى خمس سنوات، ليترك أثراً قويّاً وخالداً في تاريخ صناعة الغناء.
وإذا دار الحديث عن صناعة الغناء كان يقول "إنما هذه فُضلةُ أدب وعلم مدحه الأوائل واشتهاه أصحاب رسول الله، والتابعون بعدهم، وكثُر في حرم الله ومهاجر رسول الله" يؤكد الواثق، الذي يعلم عن وعي ما يقول، أن الغناء نشأ في مكة والمدينة، ولم يكن ذلك بعيب، حيث لم ينكره الصحابة والتابعون.
وقالت عنه عريب، المغنيةُ الحاذقة بالغناء والمُلمَّة بسرّ صناعته "صنع الواثق مائةَ صوتٍ، ليس فيها صوتٌ ساقط، ومنها لحنه:
هل تعلمين وراءَ الحب منزلةٌ تدني إليك فإن الحب أقصاني
ومما قاله عنه إسحاق الموصلي "إن الواثق كان أعلمَ الناس بالغناء، وأن صنعته بلغت مائة صوتٍ، وكان أحذق من غنى بضرب العود، وكان الخليفة الواثق يجالس المغنيين باعتبارهم زملاءه في صناعة الغناء وليس باعتبارهِ خليفة، ويزيد من تواضعه معهم حتى إنه كان يتحيَّن كلَّ فرصة لمجالستهم ورفع التكليف بينه وبينهم، وله في ذلك موقف طريف".
يتابع "حين خرج أبوه المعتصم إلى حربه المشهورة بعمورية في بلاد الروم، انتدب ابنه الواثق للجلوس على كرسيه بمدينة سامرا، وكانت قاعدةَ الدولة وقتها، فأخبر الواثق زملاءه في صناعة الغناء بما حدثَ وطلب منهم أن يبكروا إليه، فلما حضروا قال لهم: إني لا أجلس على سرير حتى أختلط بكم، ونكون كالشيء الواحد، فاجلسوا معي حلقة.
فلما جلسوا أخذ العود وقال: "أنا أبدأ بالغناء" ثم غنى أحدَ ألحانه المشهورة، ومن بعده غنى كبار المطربين، حتى انتهى الدور إلى إسحاق الموصلي فتدلَّلَ واعتذر ولم يأخذِ العود قائلاً: "لا أستطيع الغناء اليوم" فقال الواثق: دعوه، ثم أخذ العود وغنى لحناً ثانياً من ألحانه ثم ثالثاً، وكل ذلك والجيش الزاحف إلى عمورية تلبيةً لصرخة المرأة الهاشمية: "وامعتصماه"، لم يكن قد ابتعد عن سامرا إلّا قليلاً.
وحين تولى الواثقُ الخلافةَ، جمع عدداً كبيراً ممن توسم فيهم النبوغ في صناعة الغناء، حيث تحدث أحدهم قائلاً "دعا بنا الواثق يوماً، وكنا عشرين غلاماً كلنا يغني ويضرب، فقال لنا: خذوا هذا الصوت، ثم ألقى علينا لحنًا يقول:
أشكو إلى الله ما ألقَى من الكمد حسبي بربي فلا أشكو إلى أحد
ويتابع أحدهم قائلًا "فما زال الواثق يردد لحنه، ويشدد علينا في إتقان حفظه على أصح وجهٍ، حتى حفظناه جميعاً".
من سلسال بيت الرشيد ممن اشتغل بالغناء من أولاد الخلفاء، كان عبد الله بن محمد الأمين، أحدُ أبناءِ الخليفة الأمين بن الرشيد، اشتغلَ بمنادمة خلفاء العباسيين وهم أبناء عمومته، من الواثق إلى المتوكل إلى المنتصر، غير أربعةٍ آخرين اشتغل بمنادمتهم أيضاً، وكان ميراث عبد الله من أبيه قليلاً جداً، حيث خلع من الخلافة وقتل، فانتفع بمن أفاءه عليه فن الغناء من جوائز كثيرةٍ نالها من الخلفاء الذين نادمهم.
عبد الله بن المتوكل ألحانه بعدد الأيام
وكان لعبد الله بن المتوكل أيضاً ثلاثمائة لحن، فواصل اجتهادَه وعطاءَه حتى جعلها ثلاثمائة وستين صوتاً، مثل عدد أيام السنة الهجرية، فلما أتمها كما أراد اعتزل التلحين والغناء.
وللخليفة المتوكل عددٌ كبير من البنين، منهم ثلاثة خلفاء عرفوا الغناء واشتغلوا به، وهم المنتصر والمعتز والمعتمد، ولم يقتصر الأمر على أولاده فقط، بل امتد إلى حفيديه عبد الله بن المعتز والخليفة المعتضد، الذي غنى ولحن، فضلاً عن اهتمامه في الوقت ذات بحفظ الدولة وصلاح شأنها.
عبد الله بن موسى أضرب الناس بالعود
عبد الله بن موسى أحد أبناء الخليفة موسى الهادي، لحن وغنى كآخرين من أولاد الخلفاء العباسيين، وروى أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني أن المغني أبو حشيشة الطنبوري قال "كان عبد الله بن موسى أضرب الناس بالعود، وكان من أحسنهم غناءً".
ورغم أن هذا الأمير الذي ارتبط بالغناء ارتباطاً من شأنه أنه يلهمه التوازن وحسن التصرف والتحكم في انفعالاته، إلَّا أنه كان سريعاً ما يفقد أعصابه، ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل يمتد إلى حدٍّ يقدم فيه على ضرب الحاضرين في مجالس غنائه، حتى هجره من كانوا يحرصون على حضور مجلسه، وجفاه أصحابه، واكتسب ابنه القاسم صناعة الغناء من أبيه، فكان يضرب بالعود ويغني وهو لا يزال صغيراً بعد.
عمر بن عبد العزيز..مستمعٌ فملحّن
كان خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز أولَ الخلفاء الذين اشتغلوا بالغناء، تزامنَ ذلك مع شبابه، إذ لم ينهمكْ فقط في جلساتِ الغناء والطرب مستمعاً، إنما اشتغل أيضاً بالتلحين حين صنعَ سبعةَ ألحانٍ كلها في سعاد، حسب قول أبو الفرج الأصفهاني في كتابه "الأغاني"، من تلك الألحان السبعة: يا سعادُ التي سَبتْني فؤادي.. ورقادي.. هَبِي لعيني رقادي منها أيضاً: حظُّ عيني من سعاد أبداً طولُ السهاد أيضاً: سبحان ربي بَرَا سعادا لا تعرفُ الوصلَ والودادايزيد بن عبد الملك.. لحنٌ واحد
لم يكن عمر بن عبد العزيز الخليفة الوحيد الذي اشتغل بالغناء وصناعته، بل إن الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك أيضاً ممن اشتهروا بذلك، وله لحن واحد في تلك الصناعة يرويه الناس، لكن أبو فرج الأصفاني ينفي عنه هذا اللحن، في حين لا ينفي عنه اشتغاله بالغناء واهتمامه به.الوليد بن يزيد.. الطفرة الأكبر
"نشأ الغناء في مكة والمدينة، ولم يكن ذلك بعيب، حيث لم ينكره الصحابة والتابعون"
الطفرةُ الأكبر في اهتمامِ الخلفاء بالغناء واشتغالهم به، كانت على يدِ الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فدورُه لم يقتصر فقط على صناعة الألحان التي أنجزَ منها عدداً ضخماً، لكنَّ اشتغالَه بالغناء امتد ليشمل الضرب على العود، والنقرَ على الدفوف والطبول، فضلاً عن أنه كان يمشي بالدف على مذهب أهل الحجاز في المشي والغناء بالدف.
إبراهيم بن المهدي أحسن الإنس والجن والطير صوتاً
تولى إبراهيم بن المهدي، الخلافةَ فترةً في بغداد، وهو ابن الخليفة المهدي وأخو الخليفتين الهادي والرشيد، وعمُّ ثلاثة خلفاءَ هم أبناء أخيه، الأمين والمأمون والمعتصم، وكان من أبرز من اشتغلَ بالغناء من الخلفاء وأبنائهم.
وبعد سقوطِ خلافته ببغداد تفرغَ للغناء نحو ثلاثين عاماً من عمره، حيث ذكر عنه أبو الفرج "كان إسحاق الموصلي يقول، ما ولد العباس بن عبد المطلب بعد عبد الله بن العباس رجلاً أفضلَ من إبراهيم المهدي، فقيلَ له: مع ما تبذل له من الغناء؟! فقال: وهل تم فضله إلَّا بذاك".
ألَّفَ إبراهيم المهدي كتباً ورسائلَ في الغناء، كما غنّى في مجالس أخيه الرشيد، ومجالس أبنائه الثلاثة، الأمين والمأمون والمعتصم، وغنَّى أيضاً في مجالسِ محترفي الغناء، وفي مجالس كبراءِ بني هاشم.
وكان إبراهيم بن المهدي يغني مرةًّ للخليفة المعتصم، تذكَّر الأخيرُ أمراً عاجلاً من أمور الدولة فأمرَ باستدعاء قاضي القضاة أحمد بن أبي دواد، الذي كان يرفضُ الغناء ولا يستسيغه، ولا يغشى مجالسَ المغيين، كسلفه الشيخ أبي يوسف الأنصاري الكوفي، قاضي القضاة في عهد الخليفة الرشيد.
وكان أحمد بن أبي داود لا يُلِمُّ بمجلس غناءٍ إلَّا مجاملةً للخليفة أو لولي عهده أو لأحدِ الأمراء، وكان إذا جلسَ بها ظلَّ صامتًاً لا يتذوق شيئًاً مما يسمع، حتى إنَّه كان يرى في مجالسِ الغناءِ تضييعاً للوقتِ وإهداراً للمال، وعلى ذلك يتعجبُ رغبةَ الناسِ في الغناء ومجالسه.
فلما اقتربَ قاضي القضاة وكان إبراهيم بن المهدي قد استغرقَ غناءً واستخف الطربُ بمن يسمع، تسلَّل الغناءُ إلى نفسه في رويّةٍ وأريحية حتى تفتحتْ له حواسُّه في شغفٍ ولذة، وصافحَ أذنيه بشعورٍ وحسٍّ أخفَّ من النسيم، تملَّكته الحيرةُ وغلب عليه الاضطراب، وفي لحظةٍ كان للغناء فيها مفعول السحر بقاضي القضاة، الذي شغله الغناء عن كل شيء حتى سقطت عصاه من يده، دخل وجلس يستمع.
فلما أتم إبراهيم بن المهدي غناءه كان الطربُ قد استبد بالقاضي، فوثب من مجلسه يلتمس من الخليفة أن يأمرَ بإعادته، فضحك الخليفة وقال للقاضي "إن تبتَ عما كنت تناظرنا عليه في صناعة الغناء سألتُ عمي إبراهيم بن المهدي أن يعيدَ غناءه عليك"، فقال القاضي
"قد تُبتُ من ذلك، ورجعتُ عن رأيي في الغناء، وتركت مذهبي فيه إلى مذهب أمير المؤمنين، فإني سمعت والله من غناء الأمير إبراهيم بن المهدي ما أذهلني، وقد كنت لا أعرفُ معنى قول الناس إن الأمير هو أحسن الإنس والجن والوحش والطير صوتاً، حتى سمعته فعرفت".
عُلَيَّة مغنيةٌ كأمها
واصلَ الخليفةُ إبراهيم المهدي رحلةَ غنائه حتى اشتهر بالغناء هو وبعض من أهله، حيث عُرِفَت أخته عُلَيَّة بالغناء أيضاً، ولم تقلَّ عنه تقدماً وإنتاجاً في الغناء، فلها عشرات الألحان، وكانت أمها "مكنونة" جارية مغنية أيضاً اشتراها المهدي بمائة ألف درهم، وتعلمت عُليَّة من أمها الغناء ثم استزادت منه وتبحرت فيه على يد إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق وأخيها إبراهيم. وأبدى أخوها الرشيد السرورَ بها حين علِم بأمرها في الغناء، في حين لم يعلم بدايةَ اشتغالها بالغناء، وعندَما اطلع على الأمر لم ينكر عليها ذلك، بل استمع إليها وقبَّل رأسها وهو يقول لها معاتباً "يا سيدتي هذا الفن عندك ولا أعلم".الخليفة الواثق.. صانع المائة صوت
كان الخليفة الواثق أشهرَ مغنٍ وملحن بين جميعِ من اشتغل بالغناء من خلفاء بني العباس وبني أمية، ليترك أثراً قويّاً وخالداً في تاريخ صناعته
كان الخليفة الواثق أشهرَ مغنٍ وملحن بين جميعِ من اشتغل بالغناء من خلفاء بني العباس وبني أمية، حيث تولى الخلافة بعد أبيه المعتصم، ثامن الخلفاء العباسيين، ولم يمكث بها سوى خمس سنوات، ليترك أثراً قويّاً وخالداً في تاريخ صناعة الغناء.
وإذا دار الحديث عن صناعة الغناء كان يقول "إنما هذه فُضلةُ أدب وعلم مدحه الأوائل واشتهاه أصحاب رسول الله، والتابعون بعدهم، وكثُر في حرم الله ومهاجر رسول الله" يؤكد الواثق، الذي يعلم عن وعي ما يقول، أن الغناء نشأ في مكة والمدينة، ولم يكن ذلك بعيب، حيث لم ينكره الصحابة والتابعون.
وقالت عنه عريب، المغنيةُ الحاذقة بالغناء والمُلمَّة بسرّ صناعته "صنع الواثق مائةَ صوتٍ، ليس فيها صوتٌ ساقط، ومنها لحنه:
هل تعلمين وراءَ الحب منزلةٌ تدني إليك فإن الحب أقصاني
ومما قاله عنه إسحاق الموصلي "إن الواثق كان أعلمَ الناس بالغناء، وأن صنعته بلغت مائة صوتٍ، وكان أحذق من غنى بضرب العود، وكان الخليفة الواثق يجالس المغنيين باعتبارهم زملاءه في صناعة الغناء وليس باعتبارهِ خليفة، ويزيد من تواضعه معهم حتى إنه كان يتحيَّن كلَّ فرصة لمجالستهم ورفع التكليف بينه وبينهم، وله في ذلك موقف طريف".
يتابع "حين خرج أبوه المعتصم إلى حربه المشهورة بعمورية في بلاد الروم، انتدب ابنه الواثق للجلوس على كرسيه بمدينة سامرا، وكانت قاعدةَ الدولة وقتها، فأخبر الواثق زملاءه في صناعة الغناء بما حدثَ وطلب منهم أن يبكروا إليه، فلما حضروا قال لهم: إني لا أجلس على سرير حتى أختلط بكم، ونكون كالشيء الواحد، فاجلسوا معي حلقة.
فلما جلسوا أخذ العود وقال: "أنا أبدأ بالغناء" ثم غنى أحدَ ألحانه المشهورة، ومن بعده غنى كبار المطربين، حتى انتهى الدور إلى إسحاق الموصلي فتدلَّلَ واعتذر ولم يأخذِ العود قائلاً: "لا أستطيع الغناء اليوم" فقال الواثق: دعوه، ثم أخذ العود وغنى لحناً ثانياً من ألحانه ثم ثالثاً، وكل ذلك والجيش الزاحف إلى عمورية تلبيةً لصرخة المرأة الهاشمية: "وامعتصماه"، لم يكن قد ابتعد عن سامرا إلّا قليلاً.
وحين تولى الواثقُ الخلافةَ، جمع عدداً كبيراً ممن توسم فيهم النبوغ في صناعة الغناء، حيث تحدث أحدهم قائلاً "دعا بنا الواثق يوماً، وكنا عشرين غلاماً كلنا يغني ويضرب، فقال لنا: خذوا هذا الصوت، ثم ألقى علينا لحنًا يقول:
أشكو إلى الله ما ألقَى من الكمد حسبي بربي فلا أشكو إلى أحد
ويتابع أحدهم قائلًا "فما زال الواثق يردد لحنه، ويشدد علينا في إتقان حفظه على أصح وجهٍ، حتى حفظناه جميعاً".
عبد الله بن محمد الأمين.. نديم الخلفاء
كان لعبد الله بن المتوكل ثلاثمائة وستون لحناً، مثل عدد أيام السنة الهجرية، ولما أتمها كما أراد اعتزل التلحين والغناء
من سلسال بيت الرشيد ممن اشتغل بالغناء من أولاد الخلفاء، كان عبد الله بن محمد الأمين، أحدُ أبناءِ الخليفة الأمين بن الرشيد، اشتغلَ بمنادمة خلفاء العباسيين وهم أبناء عمومته، من الواثق إلى المتوكل إلى المنتصر، غير أربعةٍ آخرين اشتغل بمنادمتهم أيضاً، وكان ميراث عبد الله من أبيه قليلاً جداً، حيث خلع من الخلافة وقتل، فانتفع بمن أفاءه عليه فن الغناء من جوائز كثيرةٍ نالها من الخلفاء الذين نادمهم.
عبد الله بن المتوكل ألحانه بعدد الأيام
وكان لعبد الله بن المتوكل أيضاً ثلاثمائة لحن، فواصل اجتهادَه وعطاءَه حتى جعلها ثلاثمائة وستين صوتاً، مثل عدد أيام السنة الهجرية، فلما أتمها كما أراد اعتزل التلحين والغناء.
وللخليفة المتوكل عددٌ كبير من البنين، منهم ثلاثة خلفاء عرفوا الغناء واشتغلوا به، وهم المنتصر والمعتز والمعتمد، ولم يقتصر الأمر على أولاده فقط، بل امتد إلى حفيديه عبد الله بن المعتز والخليفة المعتضد، الذي غنى ولحن، فضلاً عن اهتمامه في الوقت ذات بحفظ الدولة وصلاح شأنها.
عبد الله بن موسى أضرب الناس بالعود
عبد الله بن موسى أحد أبناء الخليفة موسى الهادي، لحن وغنى كآخرين من أولاد الخلفاء العباسيين، وروى أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني أن المغني أبو حشيشة الطنبوري قال "كان عبد الله بن موسى أضرب الناس بالعود، وكان من أحسنهم غناءً".
ورغم أن هذا الأمير الذي ارتبط بالغناء ارتباطاً من شأنه أنه يلهمه التوازن وحسن التصرف والتحكم في انفعالاته، إلَّا أنه كان سريعاً ما يفقد أعصابه، ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل يمتد إلى حدٍّ يقدم فيه على ضرب الحاضرين في مجالس غنائه، حتى هجره من كانوا يحرصون على حضور مجلسه، وجفاه أصحابه، واكتسب ابنه القاسم صناعة الغناء من أبيه، فكان يضرب بالعود ويغني وهو لا يزال صغيراً بعد.
أبو عيسى أحمد بن الرشيد.. قمةَ المغنيين
ولم يكن أبو عيسى أحمد بن الرشيد أقل شهرةً بحال من الأحوال من الخلفاء وأولادهم الأمراء ممن اشتهروا بالغناء والتلحين، وكان لهم باع طويل في صناعته والاشتغال به، حيث كانت عريب، أستاذة المغنيات، تقول فيه "ما سمعت قط غناءً أحسن من غناء أبي عيسى بن الرشيد" وتلك شهادة جديرة بأن يتبوأ بها أبو عيسى قمةَ المشتغلين بالغناء من الخلفاء والأمراء، فله بالفعل العديد من الألحان الجياد، ومن ألحانه الجيدة المأثورة في شعر الأخطل: إذا ما نديمي علَّني ثم علَّني ثلاثَ زجاجاتٍ لهنَّ هديرُ خرجتُ أجرُّ الذيلَ حتى كأنني عليكَ أميرَ المؤمنين أميرُرصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع