رغم التاريخ الطويل لهذا البلد، إلا أن العوامل التي جعلته أول وآخر مشروع أمريكي لصناعة نموذج حكم غربي بالقوة العسكرية وضعت كيانه وهويته موضع تساؤل. فبعد حروب طويلة، ودوامة عنف طائفي دموية أنهكت نسيج العراق الاجتماعي، أصبحت الهوية الوطنية موضع شكّ، ونشأ جيل عراقي شاب مع التقسيمات الطائفية التي سادت بعد الغزو الأمريكي 2003. هنا بعض الإجابات عن أسئلة أساسية، قد تعين على رسم صورة أوضح للعراق.
يعرف العراق تاريخياً بأرض السواد أو "بلاد ما بين النهرين" نسبة إلى دجلة والفرات. نشأت فيه حضارات قديمة امتدت لما يقرب من 7 آلاف عام مثل الحضارات السومرية والآشورية والبابلية. أما العراق الحديث فقد نشأ بعد الثورة العربية الكبرى على العثمانيين من اندماج ثلاث ولايات عثمانية، هي البصرة وبغداد والموصل على أيدي الانتداب البريطاني.
يتميز العراق بتركيبة عرقيّة - دينيّة - طائفيّة متنوعة. الكتل الأكبر فيه من ناحية العرْق عربية وكردية. أما من الناحية الدينية فيغلب على سكانه الدين الإسلامي، ويضم أقليات من المسيحيين والصابئة المندائيين واليزيدية. طائفياً يتبع أكثر من نصف المسلمين العرب في العراق المذهبَ الشيعي الإثني عشري، فيما يتبع البقية المذهب السني. بعد العنف الطائفي الذي تلا الغزو الأميركي للعراق، غادر الكثير من أبناء الأقليات بعد استهدافهم من قبل الجماعات المسلحة.
يحكم العراق مبدأ المحاصصة الطائفية بعد الغزو الأمريكي وإسقاط نظام صدام حسين. منذ ذلك الحين أصبح العرف السائد أن يتولى الشيعة رئاسة السلطة التنفيذية، والسنة السلطة التشريعية ورئاسة الحكومة كردية أو توافقية (تمثيل متوازن للكتل الثلاث).
منذ إعلان الجمهورية العراقية عام 1958 كان شكل النظام الفعلي يميل للنظام الرئاسي الذي يركز السلطات في يد رئيس الجمهورية. وبعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003، تبنى العراق نظاماً جمهورياً برلمانياً يركز السلطات بيد رئيس الوزراء ويجعل منصب الرئيس شرفياً، وذلك لمنع تكرار التجارب الدكتاتورية السابقة.
تتركز محاور الانقسام اليوم حول مفهوم الهوية الوطنية والمشروع المستقبلي لكل طائفة. فالكرد في شمال العراق يرون أن الوضع الحالي يجب أن يمهد لكيان كردي طال انتظاره. لا يصرح القادة الأكراد اليوم برغبتهم في الانفصال، ولكن وضع إقليم كردستان يشكل حالة مميزة داخل العراق تشبه دولة غير معلنة. وضرورات الدولة السياسية والمادية بدأت تفرض نفسها على العلاقة مع المركز. فحق التنقيب عن النفط وتصديره من أهم المشاكل مع حكومة المركز اليوم، إضافة إلى وضع الأراضي المتنازع على سيادتها، خصوصاً مدينة كركوك الغنية بالنفط.
بالنسبة للعرب فإن الانقسام السنيّ الشيعيّ هو المحور الأساس. الأحزاب الشيعية ترى أن العرب يتعاملون معهم بتخوف وعدائية ويدعمون أعمال العنف التي تستهدف الشيعة، مما يدفعهم للتحالف مع إيران. أما الأحزاب السنية فترى أن الأحزاب الشيعية تريد الاستئثار بالحكم وتغيير وجه العراق العربي إلى وجه شيعيّ متحالف مع إيران، مما يدفعهم للتحالف مع القوى العربية المجاورة لافشال هذا التوجه.
في الوسط الشيعي يعد حزب الدعوة (بزعامة رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي)، والمجلس الأعلى (بزعامة عمار الحكيم)، والتيار الصدري (بزعامة مقتدى الصدر) أبرز اللاعبين وأقواهم حضوراً. أما في الوسط السني فيعد كل من أسامة النجيفي (رئيس البرلمان السابق) وصالح المطلك (نائب رئيس الوزراء السابق) وحركة الأخوان المسلمين إضافة لوجوه عشائرية من مختلف المحافظات السنية السياسيين الأكثر تأثيراً.
أما في كردستان، فلا يزال الحزب الديمقراطي الكردستاني (مسعود البارزاني) وحركة التغيير (نوشروان مصطفى) والاتحاد الوطني الكردستاني (جلال الطالباني) إضافة لبعض القوى الإسلامية هي الأقوى على الساحة الكردية.
أُعلنت الملكية في العراق عام 1921 تحت حكم العائلة الهاشمية من سلالة فيصل بن الشريف حسين. انتهى الحكم الملكي عام 1958 بثورة قادها الزعيم عبد الكريم قاسم وأعلنت الجمهورية العراقية. في عام 1963 أطاح انقلاب بعثي بحكم قاسم، وتم تنصيب رفيقه في الثورة عبد السلام عارف رئيساً صورياً حتى شهر نوفمبر من العام نفسه، حين قام بانقلاب على البعثيين مستثمراً النقمة الشعبية ضد ممارساتهم وأضحى رئيساً كامل الصلاحية للبلاد. توفي عبد السلام عارف في حادث سقوط طائرة هليكوبتر كانت تقله عام 1965، ودعم الجيش ترشيح أخيه اللواء عبد الرحمن عارف رئيساً للجمهورية.
في عام 1968 أسقط انقلاب بعثي آخرُ حكمَ عارف وتم تنصيب أحمد حسن البكر رئيساً للجمهورية. في عام 1979 استقال البكر من رئاسة الجمهورية وتولى نائبه صدام حسين الحكم. استمر صدام رئيساً للجمهورية حتى عام 2003 حين سقط نظامه بعد دخول القوات الأميركية بغداد. تم بعد ذلك تعيين مجلس حكم بأسلوب محاصصة طائفية. وشغل غازي عجيل الياور منصب أول رئيس للجمهورية بعد الاحتلال. تلاه بعد ذلك رئيس الجمهورية الحالي جلال الطالباني.
شهد العراق منذ تكوينه حرباً بين الأكراد والمركز. كان الأكراد يأملون بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بتكوين دولتهم الخاصة، لكن الحسابات السياسية الدولية حالت دون ذلك. أعلن (الشيخ محمود) إقامة مملكة كردية عام 1923، لكن البريطانيين أجهضوا هذه المحاولة. تحت قيادة الملا مصطفى البارزاني استمر الأكراد في العمل المسلح مطالبين بكيان خاص بهم يضم محافظات أربيل ودهوك والسليمانية وكركوك. فشلت عدة محاولات تمت في العهدين الملكي والجمهوري، على اختلافها، في التوصل إلى حل يرضي الطرفين.
استطاع صدام حسين أن ينهي العمل المسلح في كردستان عام 1975 بتوقيعه اتفاقية الجزائر لترسيم الحدود مع إيران والتي قدم فيها تنازلات حدودية للشاه آنذاك مقابل وقف دعم الملا مصطفى البارزاني. منحت الحرب العراقية-الإيرانية (1980- 1988) لاحقاً الأكراد فرصة لاستئناف العمل المسلح ضد حكومة بغداد. ردّ صدام حسين على هذا بأعمال انتقام عنيفة تمثلت ذروتها بضرب حلبجة بالكيمياوي عام 1988، مما خلف ما يقرب من خمسة آلاف قتيل كردي. كما قام بإطلاق حملة الأنفال بعد وقف إطلاق النار عام 1988، والتي أحرقت فيها العديد من القرى الكردية وقتل الآلاف من الأكراد بحجة التعاون مع الإيرانيين.
ساهم ضعف الحكومة المركزية بعد هزيمتها أمام التحالف الدولي عام 1991 في إعطاء الأكراد فرصة لممارسة حكم ذاتي. رأى الأكراد في الغزو الأميركي للعراق فرصة لتثبيت حقوقهم التاريخية والسياسية في تكوين كيان خاص بهم. حالياً، يتمتع إقليم كردستان بقدر كبير من الاستقلالية عن المركز رغم كل المشاكل التي لا تزال تعترض هذه العلاقة. ويمارس القادة الأكراد دوراً مهماً في الحياة السياسية العراقية، سواء في البرلمان أو في الجهاز التنفيذي للدولة. وتشهد المدن الكردية التي تتمتع بالأمان حركة إعمار ونشاطاً اقتصادياً ملحوظاً.
يعتمد العراق في إيراداته بنسبة 90 بالمئة على الصادرات النفطية مما يجعله بلداً ذا اقتصاد ريعي (مداخيل بيع النفط). وبلغت الميزانية الأخيرة لعام 2014 والتي لم تقرّ بعد، 150.1 مليار دولار. رغم حجم الموازنة العامة إلا أن النفقات التشغيلية للحكومة تبلغ 75 بالمئة منها مما يشكل عبئاً يؤثر على خطط تنمية القطاعات الأخرى. كما أن الصناعة العراقية تأثرت سلباً بإغراق السوق بالبضاعة المستوردة. يسري هذا أيضاً على القطاع الزراعي الذي يعاني من شحّ المياه بسبب المشاريع التركية على نهري دجلة والفرات، وقلة الاستثمار الحكومي.
أدت الخلافات الحدودية مع الجارتين إيران والكويت إلى إشعال حربين مدمرتين. الأولى هي الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988، والتي كانت تهدف إلى إلغاء معاهدة 1975 ضمن أسباب أخرى. انتهت الحرب وبقيت الخلافات بدون حسم إلى أن غزا صدام حسين الكويت عام 1990 تحت دعاوى تاريخية وأعلن ضمها للعراق لتصبح المحافظة التاسعة عشر. بعد الغزو عاد العراق للقبول بمعاهدة 1975 مع إيران. هزم تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة الجيش العراقي عام 1991، أخرجه من الكويت، وخضع العراق لعقوبات اقتصادية خانقة حتى الغزو الأمريكي عام 2003.
يعترف العراق الآن بمعاهدة 1975 لترسيم الحدود مع إيران. كما يعترف بالترسيم الحدودي مع الكويت الذي أشرفت عليه الأمم المتحدة بعد حرب 1991 التي سببها الغزو العراقي. لقد طوت التجارب المريرة السابقة ملف الخلافات الحدودية مع هاتين الدولتين، ولم تعد المطالبات التاريخية بالحدود أمراً وارداً في القاموس السياسي العراقي.
يبدو النظام العراقي حالياً، وفي ظل الاصطفافات الطائفية، غير قابل للتغيير، على الأقل في المستقبل المنظور. فالتخندق الطائفي الذي تغذيه مشاعر عدم الثقة، والخوف من الآخر، والتدخلات الإقليمية هي العوامل المحركة الرئيسية للعملية السياسية في العراق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...