أرتيميسيا جينتيليسكي. تردّد هذا الاسم على طاولة عشاء كان عليها عدد من الشبان الإيطاليين في معرض نقاش تناول "فضائح" الفنانة آسيا أرجنتو التي اتُهمت بالتحرش بممثل يصغرها بسنوات ما لبث أن رفع دعوى ضدها مطالباً إياها بالتعويض المالي.
"هو نفاق النسويات على شاكلة أرجنتو اللواتي كن في أساس حملة (مي تو) التي هزّت عرش الإنتاج وأحد أصحابه هارفي وينستين في هوليوود"، يقول أحدهم، ليقابله رفاقه بضحكات ونمائم عن أرجنتو التي تنتشر "مآثرها" في التحرّش بالشباب مذ كانت صغيرة ترافق والدها داريو أرجينتو، مؤسس الاتجاه الفريد في أفلام الرعب المعروفة بـ"جالو" في إيطاليا، إلى جلسات التصوير.
وبين أخذ وردّ، حضر خلالها الحديث عن الأستاذة الجامعية في أمريكا آفيتال رونيل (66 عاماً) التي اتهمها تلميذها، طالب الدراسات العليا، نيمرود رايتمان بالتحرش به جنسياً واستغلال نفوذها لابتزازه.
"نحن الرجال ضحايا كذلك، لكن النساء يحظين بامتياز الإقامة الدائمة في موقع الضحية". قال أحدهم ذلك، بينما كانت إحدى الفتيات الحاضرات في الجلسة تعيد على مسامعهم ما جاء في تقرير لـ"نيويورك تايمز" منذ فترة عن النساء في إيطاليا والتمييز الفاضح بحقهن مقارنة بدول أخرى في الاتحاد الأوروبي.
نعود إلى أرتيميسيا. تذكرها أحدهم في سياق الكلام راوياً تفاصيل قصتها مع الاغتصاب ومن ثم الانتقام بالفن. "المهم ألا تصل النساء إلى وقت تعمد فيه إلى تطبيق لوحات أرتيميسيا على أرض الواقع"، علّق ساخراً. ومع المضيّ في تفاصيل قصة تلك الفنانة الإيطاليّة التي عاشت في القرن السابع عشر، بدأت الخيوط تظهر شديدة الصلة بمعضلات عالمنا اليوم.
"هذا هو خاتم الزواج الذي انتظرته منك، هذه هي وعودك لي"
حكاية تلك الفتاة التي اغتُصبت في عمر الـ17 ثم حولت غضبها إلى لوحات صارخة - جعلت ذكراها محفوظة إلى اليوم- بدت لافتة. وفي حكايتها، التي دارت قبل قرون، ما يشبه حكايات نساء كثيرات في العالم العربي اليوم. أن تُغتصب وتسكت، أن تُغتصب وتساوم، وفي أحيان قليلة (ومُلهمة) تقرّر الخروج من رداء الضحيّة وسط ضغوط من أقرب الناس.
في كل تلك المراحل مرّت أرتيميسيا. قد يظهر الربط هنا كمحاولة مفتعلة للكتابة عن الفنانة، ممكن. لكن قصتها، أو على الأقل لوحاتها التي صوّرت نساء ينتقمن من الرجل بأعنف الطرق، تستحق الوقوف عندها، في زمن لم يكن يعترف بعد بالاغتصاب كجريمة.
نبدأ بقصة أرتيميسيا مذ ولدت في روما عام 1593 لفنان معروف هو أورازيو جينتيليسكي، والذي ارتبط بصداقة وثيقة مع كارافاجيو الذي طوّر وإياه ديناميات جديدة في الفن.
خلال حياتها وحتى وفاتها في نابولي عام 1654، استطاعت الابنة أن تتفوق في شهرتها على والدها، ما أثار غيرته منها طوال حياته، كما تمكنت من محاكاة أسلوب كارافاجيو لكن في قالب معاكس (يعطي السلطة للمرأة)، فوُصفت بالتلميذة المتمردة على أستاذها.
في كل تلك المراحل مرّت أرتيميسيا. قد يظهر الربط هنا كمحاولة مفتعلة للكتابة عن الفنانة، ممكن. لكن قصتها، أو على الأقل لوحاتها التي صوّرت نساء ينتقمن من الرجل بأعنف الطرق، تستحق الوقوف عندها، في زمن لم يكن يعترف بعد بالاغتصاب كجريمة
اللوحة التي رسمتها جينتيليسكي تمثل جوديث شابة قوية وجريئة تنخرط في عملية الذبح بعزم، مع امرأة أخرى تبدو في حالة تعاون معها. الاثنتان تذبحان الرجل الذي ينظر منكسراً، ما يمنح اللوحة بعداً ثورياً
كانت أرتيميسيا في الثامنة عشر من عمرها حين تعرضت للاغتصاب من قبل أغوستينو تاسي، وهو صديق لوالدها كان قد وعدها بالزواج وهو متزوج وله أولاد. في عام 1612، أي عندما كانت في التاسعة عشر، رفعت دعوى ضده استمرت لحوالي السنة من دون أي نتيجة.
لكن قبل الدعوى كانت القصة قد أخذت منحى دراماتيكياً أدخل الفتاة في حالة من التروما تجسّدت آثارها لاحقاً بأشكال مختلفة. بعد الاغتصاب استمرّت أرتيميسيا في علاقة مع مغتصبها لمدة سنة تقريباً، ولو أنه حقّق وعده لها بوضع خاتم الزواج في إصبعها لما كان لكل هذه القصة أن تُحكى وربما لما رأينا لوحاتها المثيرة للاهتمام. المشكلة كانت في تملّص المعتدي من هذا الزواج ما استدعى تحرّك أرتيميسيا "الانتقامي".
تحكي سجلات المحكمة عن محاولات أرتيميسيا لصدّ تاسي وحتى تهديده بالسكين، لكن الاغتصاب كما ذكرنا لم يكن جريمة، بل ما قيل حينها هو أن تاسي "أبطل صلاحيّة الفتاة للزواج" وشوّه سمعة عائلتها.
خلال التحقيق، شُدّت الحبال والأسلاك المعدنية على أصابع أرتيميسيا (كانت تلك وسيلة تحقيق بدائية تحوّلت لاحقاً إلى جهاز كشف الكذب)، ولم تنفكّ تردّد "إنه صحيح، إنه صحيح، إنه صحيح"، في محاولة للدفاع عن اتهامها. وفي لمسة درامية إضافية للمشهد صرخت "هذا هو خاتم الزواج الذي انتظرته منك، هذه هي وعودك لي".
ما زالت سجلات المحكمة آنذاك تؤرخ لحادثة الاغتصاب تلك كما روتها جنتيلسكي. يأتي صوتها بعد 400 عام، قوياً وصادقاً وجريئاً في الحديث عن واقعة كانت تُعتبر قاضية في حياة أي امرأة آنذاك. فكما ذكرنا، الاغتصاب لم يكن جريمة المغتصب، بل لوثة المُغتصَبة التي "ذهب شرفها".
"لقد دخل تاسي إلى غرفتي وبدأ بعروضه الجنسيّة لي والتي قابلتها بالرفض… دفعني على السرير، ضاغطاً على أحد ثديي بيد وباليد الأخرى مطبقاً على فمي لمنعي من الصراخ. كان يثبّت ركبته بين ساقيّ لمنعي من إغلاقهما. مزّق ثيابي، بينما حاولت أن أمزق وجهه بأظافري، قبل أن يدخل عضوه بي ضغطت عليه بشدة لمنعه، ثم تمكنت من التملص منه فأحضرت سكيناً لأدافع به عن نفسي، حصرني في إحدى الزوايا ثم شرّع صدره أمامي قائلاً "ها أنذا"... رميت السكين خائفة فلقد كدت أن أقتله".
الحرية لـ"فنان البابا المفضّل"... والتعذيب لضحيّته
في المحكمة تحدث أصدقاء و فنانون وأقارب مستحضرين قصص تاسي السيئة، وبعضهم قال إنه ربما قتل زوجته… صدّقت المحكمة ادعاءات جينتيليسكي ولكن، رغم ذلك، تعرّضت هي للتعذيب وتمّ إطلاق سراح المغتصِب. لماذا؟ لقد كان تاسي محمياً من قبل البابا جيوفاني باتيستي بامفيلي المعروف بـ"إينوسنت العاشر"، والذي قال عنه مرة "تاسي هو الوحيد بين فنانين ثلاثة لم يخذلني أبداً". هذا ما حرّر تاسي من التهمة وما جعل فنه مرموقاً آنذاك، بينما لا يتذكره أحد اليوم.
بعد الفضيحة، دبّر لها والدها زواجاً من بيير أنطونيو ستياتيزي، الفنان الآتي من فلورنسا، والذي حمل زوجته عائداً بها إلى مدينته، وهناك عملت في خدمة دوق توسكانا، وعائلة مديتشي تحديداً. كان عمرها 23 عاماً، واختلطت منذ ذلك الحين بالطبقة الحاكمة، كما ربطتها صداقات مع غاليلو غاليلي وميكيل أنجلو. اللافت في سيرتها كان استقبال أكاديمية فلورنسا للفنون لها كأول امرأة رسامة، وهو منصب كان مرموقاً في حينها.
انتقلت لاحقاً إلى البندقية ومنها إلى نابولي، وأقامت لفترة في لندن وهذا ما يفسّر تمسك المتحف البريطاني بأعمالها.
في حكايتها التي دارت قبل قرون ما يشبه حكايات نساء كثيرات في العالم العربي اليوم. أن تُغتصب وتسكت، أن تُغتصب وتساوم، وفي أحيان قليلة (ومُلهمة) تقرّر الخروج من رداء الضحيّة وسط ضغوط من أقرب الناس
أثناء البحث عن مراجعات كُتبت حول أعمال جينتيليسكي، يظهر أن هناك فرقة مسرحية في بريطانيا تحضّر لعمل عن حياتها تحت عنوان "إنه صحيح، إنه صحيح، إنه صحيح" (نسبة لاتهامها تاسي أمام المحكمة)، في أوكتوبر المقبل.
تقول مديرة العمل "ثمة الكثير من المفارقات التاريخية في قصة جينتيليسكي تجعلها مهمة حتى في وقتنا الحالي". تشرح قائلة "رغم أن الفنانة حازت على تقدير في إيطاليا وفي بريطانيا في وقتها، إلا أنه جرى التقليل من شأن أعمالها لقرون طويلة، إلى أن عادت إلى دائرة الضوء في السبعينات مع جهود نسائية سعت لإعادة الاعتبار للفنانات النساء المغبونات".
حين تمرّدت "جوديث" على كارافاجيو... وذبحت بجرأة
عادت جينتيليسكي إلى الضوء مجدداً مع حركة "مي تو" عام 2018، فبدت قصتها حديثة العهد محمّلة برسائل طازجة. في لوحاتها الشهيرة، ركز كثر على مقاربتها باعتبارها انتقاماً نسوياً من قصة اغتصابها، ونظّر البعض بأنها، كمعظم الفنانات، تعتمد على سيرتها الذاتية ومعاناتها لتحقيق الشهرة.
لكن معركة جنتيليسكي الطويلة لإثبات حضورها بعيداً عن كونها ضحية اغتصاب وحسب، هي معركة كل امرأة في العالم تحاول الخروج من ثوب الضحيّة، ويصرّ المجتمع، في أحسن نواياه لفهم الضغوط على المرأة، على قولبتها فيه.
في إحدى لوحاتها، تستحضر صورة القديسة كاترينا -التي تعرضت للتعذيب الشديد على دولاب زُرع بالمسامير كي تنهش من جسدها- وهي تمسك الدولاب بسلام وتحمل قطعة منه مظهرة أنها هي سيدة ألمها، وأن الدولاب من كُسر لا هي. جينتيليسكي ظهرت بالشكل نفسه، لكن بدل قطعة الدولاب، حملت ريشة رسمها.
وفي لوحتها الأشهر، أعادت جينتيليسكي تقديم قصة لوحة "جوديث" لكارافاجيو بأسلوب مختلف. في اللوحة التقليدية، يقدّم كارافاجيو الأرملة جوديث - المكلفة بقتل قائد الجيش البابلي هولوفيرنس- ضعيفة وخائفة وغير راغبة بالقتل، بينما خادمتها العجوز بقربها تحرض على تشجيعها. هي الخادمة نفسها التي ترافق جوديث للحفاظ على طهارتها. أما الرجل، فحتى وهو يُقتل، ينظر بقوة وسلطة إلى الأعلى. مشكلته الوحيدة كانت استنكار طبيعة الأداة (المرأة) التي أراد الأعداء استخدامها لاذلاله.اللوحة التي رسمتها جينتيليسكي تمثل جوديث شابة قوية وجريئة تنخرط في عملية الذبح بعزم، مع امرأة أخرى تبدو في حالة تعاون معها. الاثنتان تذبحان الرجل الذي ينظر منكسراً، ما يمنح اللوحة بعداً ثورياً.
"ماذا لو، ماذا لو اجتمعت النساء معاً؟ تحرّرن من مخاوفهن، من عقدهن وسلطة المجتمع عليهن؟ النساء تمتلكن القوة الباطنيّة وهذا ما يخيف الرجال فيحاولون كبتهن بشتى الطرق، فهل تخرج النساء من ثوب الضحية وتستعدن العالم من أيدي الرجال الذي يحكمونه بالقوة؟"، تساءلت مرة جينتيليسكي، التي بالكاد كانت تعرف القراءة والكتابة، بفنّها الصارخ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين