يلفّ الغموض المشهد السياسي العراقي الخاص بتشكيل الحكومة المقبلة. تكتلان أعلنا أنهما نجحا في تشكيل "الكتلة الأكبر" في البرلمان الناتج عن انتخابات مايو الماضي، ما يعبّر عن حدة معركة "كسر العظام" الشيعية-الشيعية.
فقد أعلنت كتلة سائرون بقيادة مقتدى الصدر وكتلة النصر بزعامة رئيس الوزراء حيدر العبادي أنها شكلت تحالفاً يمنحها الكتلة البرلمانية الأكبر (يجمع نحو 180 نائباً من أصل 329، بحسب معلنيها)، تحت اسم "تحالف الإصلاح والإعمار"، ويضم بجانبهما ائتلاف الوطنية بزعامة إياد علاوي وتيار الحكمة الوطني بزعامة عمار الحكيم وكتلة القرار بزعامة نائب الرئيس أسامة النجيفي، وعدداً من النواب السنة والتركمان والإيزيديين والصابئة والأقليات المسيحية، ما يعطيه القدرة على تسمية رئيس الحكومة القادم وتشكيل الحكومة.
وكانت كتل "سائرون" و"النصر" و"الحكمة" و"الوطنية" قد أعلنت، في 19 من أغسطس، تشكيل نواة لتحالف مشترك يسعى إلى تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر.
وفي المقابل، أعلنت كتلة الفتح بقيادة هادي العامري، وكتلة ائتلاف دولة القانون بقيادة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي أنهما أيضاً شكلتا الكتلة الأكبر (145 نائباً)، تحت اسم "كتلة البناء"، وتضمّ بجانبهما منشقين عن ائتلاف النصر (يقودهم فالح الفياض)، والوطنية، ومجموعة سنية بقيادة خميس الخنجر وأخرى برئاسة محافظ صلاح الدين أحمد الجبوري، وآخرين.
ووقع خلاف حول كيفية احتساب "الكتلة الأكبر"، في أول جلسات البرلمان، في الثالث من أغسطس، فقرر رئيس السن إحالة الأمر إلى المحكمة الاتحادية لتقوم بتحديد الكتلة الأكبر.
وأساس الخلاف هو أن طرفاً (الصدر/ العبادي) يعتبر أن حساب الكتلة الأكبر يتم بحساب أعضاء الكتل التي يوقع رؤساؤها على وثيقة تحالف، بينما يرى الطرف الآخر (المالكي/ العامري) أن احتساب الكتلة الأكبر يتم باحتساب تواقيع النواب وليس رؤساء الكتل.
ويقول الطرف الثاني إن 21 نائباً من نواب تحالف النصر ونواباً "منشقين" آخرين انضموا إليه، ما يقلب الحسابات.
صراع شيعي-شيعي حادّ
يتمحور الصراع بين الكتل الشيعية بين خطين سياسيين: واحد يرمي بنفسه في حضن إيران وتترأسه كتلتا "الفتح" و"دولة القانون" وآخر ليس معادياً لإيران ولكنه يسعى إلى تشكيل حكومة تستطيع بناء علاقات مع قوى إقليمية ودولية مختلفة. ويعبّر عن هذا الصراع السجال الذي دار بعدما أعلن العبادي أن بغداد ستلتزم بالعقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، لحماية مصالحه، قبل أن يحدد أن الالتزام يقتصر على عدم التعامل معها تجارياً بالدولار، العملة التي تحتاج إليها الجارة الفارسية بشدّة. ورغم أن العبادي أعلن صراحةً أنه "لا يتعاطف" مع هذه العقوبات، إلا أن موقفه "المعتدل" أثار امتعاض الإيرانيين الذين كانوا ينتظرون موقفاً يدعمهم بقوة، إذ يبدو أن طهران، أمام محاولة واشنطن ضرب حصار عليها، لا تقبل بأنصاف الحلفاء والمتعاطفين، بل تريد قوى تلتصق بها وتربط مستقبلها ومستقبل بلادها بمصيرها، فإما يفوز الجميع أو يخسر الجميع. وعبّرت أصوات عراقية موالية بشدّة لإيران عن هذا الأمر، فقد دعا نوري المالكي الحكومة العراقية إلى "ألا تكون طرفاً في هذه العقوبات"، كما طالب القيادي في تحالف الفتح حسن سالم الحكومة العراقية بـ"مساندة الشعب الإيراني الذي قدّم الأرواح والمال والسلاح في محنة العراق الأمنية بدخول عصابات داعش". ورغم رفض موقفه المذكور، عاد العبادي وتحدّث عن موقف حكومته من العقوبات الأمريكية مؤكداً: "لن نجازف بمصالح شعبنا إرضاء لإيران أو أية دولة أخرى"، بل انتقد قطع إيران مياه نهر الكارون عن شط العرب، ما أدى إلى ارتفاع نسبة الملوحة فيه. وفي حين يعمل تحالف المالكي-العامري على تفكيك الكتل المعارضة له وكسب ولاء مجموعات وأفراد منها، لم ينجح العبادي في الحفاظ على وحدة كتلة النصر. فقبل أيام، أعفى العبادي فالح الفياض من منصبه كمستشار للأمن الوطني ومن رئاسة هيئة الحشد الشعبي وجهاز الأمن الوطني، بسبب "انخراطه بمزاولة العمل السياسي والحزبي ورغبته في التصدي للشؤون السياسية، وهو ما يتعارض مع المهام الأمنية الحساسة التي يتولاها".يتمحور الصراع بين الكتل الشيعية في العراق بين خطين سياسيين: واحد يرمي بنفسه في حضن إيران وآخر ليس معادياً لإيران ولكنه يسعى إلى تشكيل حكومة تستطيع بناء علاقات مع قوى إقليمية ودولية مختلفة
يلفّ الغموض المشهد السياسي العراقي الخاص بتشكيل الحكومة المقبلة. تكتلان أعلنا أنهما نجحا في تشكيل "الكتلة الأكبر" في البرلمان، ما يعبّر عن حدة معركة "كسر العظام" الشيعية-الشيعيةبرّر العبادي قراره بأنه "جاء استناداً إلى الدستور العراقي في حيادية الأجهزة الأمنية والاستخبارية، وإلى قانون هيئة الحشد الشعبي والأنظمة والتعليمات الواردة بهذا الخصوص، وتوجيهاتنا التي تمنع استغلال المناصب الأمنية الحساسة في نشاطات حزبية". ولكن العبادي كان قد تجاهل هذه الاعتبارات حين خاض الانتخابات النيابية، وكتفه على كتف الفياض الذي أسس "حركة عطاء". حينها، أراد العبادي أن يكون الفياض، وكلاهما ينتمي إلى حزب الدعوة، بجانبه لينافس تحالف قادة الحشد الشعبي برئاسة هادي العامري، وليبرر اسم قائمته "تحالف النصر"، كون الفياض تولى رئاسة هيئة الحشد الشعبي بعد إنشائها في 15 يونيو 2014. أما لاحقاً، صار العبادي يرى في الفياض منافساً له على رئاسة الحكومة، خاصةً بعد أن رشحته للمنصب شخصيات من "ائتلاف النصر" ولهذا قرّر محاصرته. وغمز تحالف "الفتح" من هذه العين في بيان أعلن فيه أنه "من غير المقبول" أن يقيل العبادي مسؤولاً أمنياً رفيعاً "بحجة أن هذا المسؤول لا يرى مصلحة في التجديد له لولاية ثانية". وكان بعض أعضاء تحالف النصر بقيادة فالح الفياض، قد برروا، في 19 أغسطس، افتراقهم عن رفاقهم برفضهم أي "تحالف محدود" وبدعوتهم إلى "ضرورة أن تكون الكتلة الوطنية الداعمة للحكومة ممثلة لكل القوى السياسية الوطنية الراغبة بدون أي استثناء". ولكن لا يمكن إغفال عاملين أساسيين أديا إلى هذا الانشقاق، أولهما السعي الإيراني إلى إضعاف تحالف الصدر-العبادي، والذي وصل بحسب معلومات صحافية غير مؤكدة إلى تهديد نواب سنّة؛ وثانيهما، أن الفياض يرى فرصة ليترأس الحكومة عبر حلفائه الجدد، خاصة أن المالكي أعلن أنه لن يترشّح للمنصب فيما العامري شخصية مرفوضة من المجتمع الدولي بسبب ارتباطه العضوي بإيران والحرس الثوري الإيراني.
تأجيل الموقف الكردي
في ما خص السنّة، كانت قيادات سنية قد أعلنت تأسيس تحالف "المحور الوطني" بمشاركة النجيفي وجمال الكربولي والخنجر وأحمد الجبوري وسليم الجبوري وفلاح حسن زيدان، لكن عقد هذا التحالف انفرط ومن أسبابه أن "الإصلاح والبناء" تعهّدت للنجيفي بمنحه رئاسة مجلس النواب، ما أثار امتعاض طامحين إلى المنصب، وهذا يعطي فكرة عن تأثير المصالح والطموحات الشخصية على القرارات السياسية في العراق. أما في ما خص الأكراد، فلم ينضم الحزبان الكرديان الرئيسيان (الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني) إلى أي تحالف ويبدو أنهما ينتظران نهاية معركة كسر العظام الشيعية الشيعية، لينضمّا إلى التحالف الأكبر ويوفّران له استقراراً. ويتواصل الحزبان الكرديان الرئيسيان (يمتلكان معاً 43 مقعداً) مع التيارين الشيعيين المتنافسين في محاولة لتحصيل مكاسب من أحدهما، وشكلا لجنة للتفاوض معهما لـ"مساومتهما" على كيفية التعامل مع مطالب إقليم كردستان. وتحدّث العبادي مؤخراً عن امتلاكه وثيقة تثبت أن "قوى سياسية" (يقصد الفتح ودولة القانون) تنازلت للأكراد عن المناطق المتنازع عليها بما فيها كركوك مقابل الانضمام إلى كتلتها النيابية، في إشارة إلى تعقّد مفاوضاته مع الأكراد لصالح خصومه، ومحاولة تفكيك الحلف المحتمل بينهما بإثارة العراقيين العرب ضد ما يحصل. ويبدو أن العلاقة بين زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني والعبادي وصلت إلى مرحلة متوترة جداً جعلت الأول يقرر عدم الموافقة على منح الثاني منصب رئيس الحكومة، وذلك على خلفية تعاطي العبادي مع المطالب الكردية. وذهبت تقارير صحافية إلى الحديث عن رفض البارزاني مطلب مبعوث الرئيس الأمريكي بريت مكغورك دعم العبادي لرئاسة الحكومة وقوله له بصراحة إنه سيدعم خصومه لأنهم يحققون مصالح كردستان، كما تحدثت تقارير أخرى عن قوله لوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إن العبادي يقود ميليشيات شيعية يصعب ضبطها، بعكس الميليشيات التي يقودها العامري. ويحمل الأكراد بشكل أساسي مطالب عدة منها عودة البيشمركة إلى كركوك والمناطق المتنازع عليها مع بغداد، وإيجاد حلّ لمصير هذه الأراضي، كما يطالبون بمنح إقليم كردستان 17% من الموازنة العراقية وبالسماح لهم بتصدير النفط، ويتواصلون مع الجميع بغية تحقيق مكاسب تعوّضهم عن خسائرهم التي نتجت عن قرارهم السير بالاستفتاء على استقلال إقليمهم في سبتمبر 2017.مَن سيتحكم بالعراق؟
مسألة تحديد "الكتلة الأكبر" ليست مسألة بسيطة فهي تعني أنها هي التي ستسمي رئيس الحكومة المقبل وتوزّع الوزراء على التكتلات المؤسسة لها وتحدد سياسات الدولة وتنتخب رئيسي الجمهورية ومجلس النواب، يعني باختصار ستتحكم بالمحاصصة وبصنع السياسات. قبل أن تُصدر المحكمة الاتحادية قرارها بشأن "الكتلة الأكبر"، وهو ما قد يتطلب عشرة أيام، ستستمر صولات وجولات كل من مكغورك وقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، للضغط على المترددين واستمالتهم، في فترة تكثر فيها الانشقاقات عن التحالفات. وكان بومبيو قد دخل مباشرة على خط جهود بلاده للتأثير في تشكيل الحكومة العراقية المقبلة وأجرى اتصالات بكل من البارزاني والعبادي وعلاوي والنجيفي. وتخشى الولايات المتحدة من أن تقلب تحركات المالكي والعامري الطاولة عليها وعلى حلفائها في العراق وتضعه بالكامل تحت النفوذ الإيراني، ولذلك تجد أن الخيار المتاح أمامها هو دعم العبادي لولاية جديدة، فهذا هو الحل الوحيد لولادة حكومة "وطنية ومعتدلة"، بحسب تعبير المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية هيذر ناورت. وعدا إبعاد بغداد قدر الممكن عن إيران، تهتم واشنطن باستمرار العمل بمقتضى "اتفاقية الإطار الاستراتيجي" بين البلدين وبأن تكون حاضرة في أية عملية لتحديد شكل العلاقة المستقبلية بين بغداد وأربيل. وبما أن أساس ميل القوى السياسية لتحالف دون آخر تحدده رغبتها بتحقيق بعض المصالح واكتساب بعض الامتيازات، فإن مواقف مقتدى الصدر، الذي هدد باللجوء إلى المعارضة بحال فشلت جهود تشكيل حكومة تكنوقراط، قد تعقّد موقف فريقه الواسع، إذ قال قبل أيام: "لا عودة للمحاصصة والطائفية والعرقية والفساد والهيئات الاقتصادية وخلطة العطار".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...