تحول "القاعديون" أو "البرنامج المرحلي" (الفصيل الطلابي اليساري الأبرز في الجامعة المغربية) إلى تنظيم يطالب الجميع برأسه. وقد وقع العديد من الصحفيين والسياسيين والباحثين في مغالطات عدة وهم يحاولون تجميع صورته عقب المواجهات المختلفة التي شهدتها جامعة فاس بين طلبة يساريين وطلبة إسلاميين، وما تلاها من احتجاجات ومن إضرابات طويلة عن الطعام لعدد من الطلبة اليساريين في السجون.
دخل الطلبة اليساريين منذ بداية التسعينات من القرن الماضي في مواجهات عنيفة مع الطلبة الإسلاميين الذين أصبحوا رقماً صعباً في الجامعات المغربية. يصف القاعديون هذه القوى بـ"الظلامية" و"الرجعية" التي تحمل مشروعاً تخريبياً للحركة الطلابية وبأنها مدسوسة من طرف النظام للقضاء على العمل النقابي الطلابي. في المقابل، عمل الإسلاميون على استهداف رموز القاعديين في عدد من المواقع الجامعية وتحديداً في سنة 1991 (الإنزال الكثيف للإسلاميين أمام الحي الجامعي في فاس)، بالإضافة إلى اغتيال عدد من رموزهم مثل المعطي بوملي وبنعيسى أيت الجيد عام 1993.
ثمة نقاط غموض كبيرة تصادف أي محاولة للبحث في تاريخ أو تقييم تجربة الطلبة القاعديون بإيجابياتها وسلبياتها، إذ يصعب الخروج برواية دقيقة عن تفاصيل هذا التنظيم الطلابي الثوري في ظل النقص المهول في المعطيات والوثائق. على عكس بقية تجارب اليسار الراديكالي في المغرب، لم يحرص المنتمون إلى التجربة على تدوين تاريخها إما لهجرهم الفكرة التي كانت تمثلها أو لتعاملهم معها بنوع من التقديس، وهذا ما يجعل محاولة لملمة شتاتها وتأريخها خاضعاً للكتابات المحتشمة والمعدودة على رؤوس الأصابع لعدد من المنتمين إليها.
أجمعت معظم الكتابات المتوفرة على أن الطلبة القاعديين داخل الجامعة المغربية يعتبرون امتدادًا موضوعياً لما عرف في أدبيات "الاتحاد الوطني لطلبة المغرب" (أوطم) بـ"الطلبة الجبهويين" (أسسها طلبة منظّمتي إلى الأمام و23 مارس) رغم الاختلاف الكبير بين التجربتين، إذ إن القاعديين الذين ظهروا كنتاج لحظر "أوطم" سنة 1973 لم يكن لهم أي سند سياسي خارج الجامعة وأعلنوا بشكل واضح استقلاليتهم وعدم تبعيتهم لأي تنظيم سياسي.
ظهرت أولى التجمّعات الطلابية التي خرج من رحمها ما عرف فيما بعد بالحركة الماركسية اللينينية المغربية (الحملم) في عدد من المواقع الجامعية المغربية كفاس والدار البيضاء والرباط، وتمكن الطلبة الجبهويون في مؤتمرهم الخامس عشر سنة 1972 من انتزاع قيادة المنظمة برئاسة عبد العزيز المنبهي أحد قادة منظمة "إلى الأمام"، فيما انسحبت بقية التيارات السياسية معلنةً رفضها نتائج المؤتمر ومقرراته وبيانه الختامي الذي حمل لهجة نقد لاذعة. أقدم النظام بعدها على حملات اعتقالٍ ومطارداتٍ واسعة في صفوف قادة "أوطم"، خاصة في صفوف الطلبة الجبهويين، وهي موجة اعتقالات أعقبها إعلان الدولة حظر النقابة الطلابية في الرابع والعشرين من سنة 1973.
يُعدّ "الطلبة القاعديون" نتاجاً للحظر القانوني المفروض على "الاتحاد الوطني لطلبة المغرب"، فقد عملت مجموعة من الطلبة في محاولة منها لتجاوز هذا الحظر، على تشكيل "مجالس النضال السرية" سنة 1974 لاسترجاع المنظمة من أيدي من كانوا يصفونهم بـ"التوجه البيروقراطي". سيتوج هؤلاء الطلاب الذين كانت تجمعهم أرضية الإيمان بالماركسية كخيار إيديولوجي، واعتبار النظام القائم غير ديمقراطي، برفع الحظر القانوني عن "أوطم" نهاية سنة 1978، ليظهر "الطلبة القاعديون" لأول مرة في المؤتمر السادس عشر للاتحاد الوطني للمغرب سنة 1979 والذي انسحبوا منه بسبب رفضهم لمارسات "التوجه البيروقراطي" معتبرين إياه مؤتمر الردة والتراجع.
بعد فشل المؤتمر 17 دخل الاتحاد الوطني مرحلة الحظر العملي. حاول القاعديون بعد بقائهم بمفردهم داخل الساحة الجامعية استعادة المؤسسات الجامعية ومواجهة إدخال "البوليس السري" إلى الجامعة. تعرضوا لحملة اعتقالات واسعة في صفوفهم، تحديداً سنة 1984، توفي على إثرها الطالبان القاعديان بوبكر الدريدي ومصطفى الهواري في مراكش بعد خوضهما إضراباً عن الطعام استمر مدة 62 يوماً.
من هنا ستعرف الانشقاقات في صفوف هذا الفصيل الطلابي منحى تصاعدياً، ففي ذكرى مرور أربعين يوماً على وفاة بلهواري والدريدي قامت مجموعة من الطلبة القاعديين بتوزيع كرّاس يدعو إلى إعادة هيكلة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب وعقد المؤتمر الاستثنائي ومحاولة إيجاد حد أدنى للتوافق مع بقية الأحزاب كما قدم هذا الكرّاس نقدًا للطلبة القاعديين وحمّلهم جزءاً من المسؤولية في فشل المؤتمر السابع عشر. اتهم القاعديون في ذلك الحين المنظمة بمحاولة فرض تصور يميني غريب على التجربة القاعدية ومنهجيتها وثوابتها المبدئية.
في سنة 1986، أطلق القاعديون ما سمّي "البرنامج المرحلي" في محاولة منهم لربط النضال الطبقي الإستراتيجي بالنضال المرحلي وكإجابة منهم على أزمة الحركة الطلابية وكيفية الخروج منها رافضين أي تنسيق مع بقية الفصائل المفتقدة لـ"الشرعية الثورية".
تضمن هذا البرنامج الذي ظهر لأول مرة في وجدة قبل أن يُعمّم على مواقع جامعية أخرى النقاط التالية: النضال من أجل رفع الحظر العملي عن أوطم، ومواجهة ما يمكن مواجهته في أفق المواجهة الشاملة، ومواجهة البيروقراطية.
في العام 1994 ظهرت تيارات جديدة منبثقة من داخل التجربة الطلابية اليسارية القاعدية في المغرب، من بينها "مجموعة 94" و"أنصار خط الجريدة" و"التحاق الشجعان بالقوى السياسية"، وهي وجهات نظر من داخل التجربة نفسها جوبهت بالرفض من الخط الأصلي للقاعديين.
تسود وسط عناصر "البرنامج المرحلي" نظرة فوضوية تعادي التنظيم وتقدس العفوية على نحو مبالغ فيه وبشكل لا علاقة له في أحيان كثيرة بالمنهج الماركسي، وهو ما يجعل أرضيتهم لإعادة بناء نقابة طلابية مغربية قوية غامضة ومفتقدة أي مشروع واضح، فإذا كانت بقية التجارب القاعدية قد قدمت على الأقل مقترحات عملية أو تقترب من ذلك لإعادة البناء، فإن "البرنامج المرحلي" لم يستطع تجاوز الفكرة العائمة التي تقول بـ"مواجهة ما يمكن مواجهته".
ومن الانتقادات الموجهة إلى التجربة وعناصرها خاصة في السنوات الأخيرة: ضعف الثقافة النظرية والتنظيمية، سيطرة المعرفة النصية لا النظرية لمقولات ماركس ولينين وأنجلز، والعجز عن بلورة شعارات ملائمة والاستعاضة عنها بشعارات متطرفة وجوفاء تدخل في باب المزايدة غير المجدية، إذ إن من بين الشعارات الهلامية التي يرفعها المنتسبون إلى الفصيل شعار "المجانية أو الاستشهاد".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...