حرص فلسطينيو الداخل منذ عام 1948 على تطوير وخلق أطر اجتماعية وثقافية وسياسية تحفظ لهم هويتهم الخاصة وتضمن صمودهم في وجه موجات العبرنة التي راحت تعصف بهم منذ ذلك الوقت وحتى اليوم. لكن يبدو أن هذه الموجة، مدعومة بسياسات للحكومية الإسرائيلية، تمكنت من اختراق سياج الهوية الذي أقامه هؤلاء العرب حول أنفسهم.
يقول الدكتور محمد أمارة في كتابه "اللغة العربية في إسرائيل، سياقات وتحديات": "شهدنا في السنوات الأخيرة هجمة مباشرة على اللغة العربية وعلى مكانتها القانونية والدستورية، وهي جزء لا يتجزأ من الهجمة على الوجود العربي وعلى شرعيته في هذه البلاد، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، السعي المتواصل إلى إلغاء مكانة اللغة العربية كلغة رسمية في مشاريع الدستور الإسرائيلية المقترحة، والخطة الحكومية لعبرنة أسماء آلاف القرى والمدن والمواقع، استمراراً لمخططات تهويدها".
تضافرت مآلات السياسة الإسرائيلية الداعمة لفكرة العبرنة مع عوامل أخرى معيشية واجتماعية لتدفع عرب 48 عنوة صوب الدمج الحياتي بين اللغتين العربية والعبرية، لينتج مخلوق لغوي وثقافي مشوه أطلقت عليه الصحافية الإسرائيلية أفيا سكلار، في تحقيق نشره موقع "ماكور ريشون" اسم "اللغة العربرية"، في إشارة إلى اللهجة الدارجة التي بات العرب المقيمون داخل إسرائيل يتحدثون بها في حياتهم اليومية.
ملامح مخلوق "العربرية" المشوّه
قبل أيام من النقاش العاصف الذي ولّده إقرار الكنيست "قانون الدولة القومية" الذي يعتبر أن "العبرية هي لغة الدولة الرسمية"، ما يُفقد اللغة العربية مكانتها كلغة رسمية، كتبت سكلار أن كثيرين من المهتمين بأبحاث اللغة يرون أن عرب إسرائيل باتوا يتحدثون لغة جديدة أسمتها "العربرية"، قوامها الأساسي بالطبع هو اللغة العربية، لكنها مطعّمة بعدد لا يُحصى من الكلمات العبرية، البعض منها تم إدخاله بصيغته الأساسية، والبعض الآخر خضع لعملية مواءمة للقواعد العربية. يشير الدكتور توفيق أبو بكر، وهو لغوي ومحاضر في اللغة العبرية في كلية بيت بيرل الأكاديمية في إسرائيل، إلى أنه كان في زيارة إلى الأردن، فركب إحدى السيارات، فقال له السائق الأردني: "حط الحجورا" أي "اربط الحزام"، وبعد أن سارت السيارة بضع دقائق، أجرى السائق اتصالاً هاتفياً مبدياً ضجره من شيء ما، ولما سأله أبو بكر عن السبب قال: "مفيش كليتا"، أي "لا توجد شبكة أو إرسال". وعندما توقفت السيارة على إشارة مرور، قال السائق: "الرمزورات عندكو متل عنا"، أي "إشارات المرور عندكم مثل عندنا". ويضيف أبو بكر: "عندما سألته بالعربية ‘لماذا تدخل كلمات عبرية في حديثك’ أجابني السائق ‘لأن عرب إسرائيل يستعملون كلمات عبرية في حديثهم’". يعترف أبو بكر في حديثه لـ"ماكور ريشون" بتزايد تأثير العبرية على العربية العامية في إسرائيل ويقول: "لا يوجد حوار بين العرب في إسرائيل إلا وتدخل به كلمات عبرية. لقد تحولت هذه الكلمات إلى جزء من الثروة اللغوية للعربية الدارجة بإسرائيل في كافة مناحي الحياة، وهذا الأمر تعرفه جميع الدول العربية، وقد حدث أحياناً نتيجة عدم وجود مقابل للكلمة في اللغة العربية، وأحياناً أخرى نتيجة هيمنة ومحورية الكلمة العبرية".عرب 48 ما بين الظلم والخيانة
قد يرى البعض أن ظهور "العربرية" في أوساط عرب إسرائيل جاء نتيجة تنازلات أو تخلي عن هويتهم العربية بشكل سمح للكلمات العبرية بالدخول في حديثهم اليومي، لتسجل انتصاراً لصالح الجانب الآخر من الصراع، لكن البعض الآخر يرى أن السماح بدخول الكلمات العبرية إلى لغة الحديث اليومي للعرب داخل إسرائيل أمر فرضه عليهم الواقع السياسي والحياتي الذي يتعايشون معه يومياً.عوامل كثيرة تدفع عرب 48 صوب الدمج الحياتي بين اللغتين العربية والعبرية، لينتج مخلوق لغوي وثقافي مشوه أطلقت عليه الصحافية الإسرائيلية أفيا سكلار اسم "اللغة العربرية"
"لا يوجد حوار بين العرب في إسرائيل إلا وتدخل به كلمات عبرية. لقد تحولت هذه الكلمات إلى جزء من الثروة اللغوية للعربية الدارجة بإسرائيل في كافة مناحي الحياة"يقول المكتب المركزي للإحصاء إن أكثر من 50% من عرب إسرائيل يجيدون اللغة العبرية بمستوى من جيد إلى جيد جداً، قراءة وكتابة. ويضيف الدكتور عبد الرحمن مرعي، أستاذ الأدب في كلية بيرل، أن معرفة العبرية لا تقتصر على المثقفين فقط، بل هناك الكثيرون من العرب لا يتحدثون العبرية فقط، بل يكتبون لأنفسهم بها، مثل تسجيل اليوميات والمشتريات وغيرها. وتوضح الشريحة العمرية للمتحدثين العرب بالعبرية دلالة على اختراق العربرية لحياة عرب 48. يقول مرعي إن جيل الشباب لديه لغة عبرية أفضل من تلك التي يتقنها الكبار، وهذا يرجع إلى متابعتهم لمحتوى الميديا. أما من الناحية الجندرية، فيتميز الرجال بأنهم أكثر إجادة للعبرية من الإناث، فيما يلعب التوزيع الجغرافي للسكان العرب دوراً في إجادة العبرية وتغلغل الكلمات العبرية في المحادثات العربية، فكلما كان التجمع السكاني العربي قريباً من منطقة الوسط يصبح تأثير العبرية أكبر. وبطبيعة الحال فإن سكان المدن المختلطة مثل يافا، حيفا، اللد، الرملة وعكا، أكثر عرضة لاستخدام العبرية بسبب الاحتكاك اليومي مع الجيران اليهود. ويوضح مرعي أن ارتباط القطاع العربي بسوق العمل اليهودي يمثل أحد أسباب اختراق العبرية للمحادثات العربية، ويقول: "كان المجتمع العربي زراعياً في الأساس، كل أسرة كانت تعمل في الأراضي التي تمتلكها. لكن في عام 1948 تم سلب تلك الأراضي ومنذ ذلك الحين تكثفت العلاقة بين أرباب العمل اليهود وبين العمال العرب، فعندما يعمل العامل العربي في مصنع أو مؤسسة يهودية، يحفظ بعض المصطلحات العبرية ويستعملها حينما يعود إلى بيته.
الهوية في الصراع بين العربية والعبرية
يقول الدكتور محمد الدوابشة، في كتابه "صراع العربية مع العبرية في المناطق المحتلة عام 1948": "أما عن مكانة اللغة العربية في الدولة العبرية، فقد كان المحور الأكثر أهمية في الأيديولوجية الصهيونية هو خلق هوية جديدة، تختلف عن هوية الشتات في جميع المفاهيم. في الهوية الجديدة سيتكلم الشخص العبري اللغة العبرية، وسيعمل في الأرض العبرية، أي، يمكن القول، إنه بتغير الهوية يمكن حصول تغير رئيسي في الشخص وفي الأرض، عندما يشكل إحياء اللغة العبرية (الشخص)، والقيم المنسوبة إلى العمل العبري (الأرض) العاملين الرئيسيين. وهكذا شكل إحياء اللغة مكانة حيوية في بناء الهوية القومية اليهودية الجديدة، وفي الهوية الجديدة يوجد مكان فقط للغة واحدة: العبرية، والعرب، بالطبع، هم خارج هذه الدائرة". واتضحت السياسات الإسرائيلية الرامية إلى تعزيز العبرية على حساب العربية في "قانون الدولة القومية". فبحسب جمعية حقوق المواطن في إسرائيل، يهدف القانون إلى إلغاء مكانة اللغة العربية كلغة رسمية، وجعلها "لغة ذات مكانة خاصة"، الأمر الذي يزيد من مخاوف العرب حول لغتهم التي تمثل جزءاً من هويتهم. لكن تلك المخاوف في حد ذاتها لم تكن جديدة، إذ يقول زعيم الحركة الإسلامية داخل الخط الأخضر، الشيخ رائد صلاح: "إذا أردنا الحفاظ على هويتنا، علينا التمسك باللغة العربية. عندما نتخلى عن كلمة ‘إن شاء الله’ ونستعمل بدلاً منها الكلمة العبرية ‘بسيدر’ )تمام(، وحينما نسمح لألسنتنا بأن تكون ساحة للاختراق اليومي للكلمات العبرية، فهذا يعني أن أرضنا وأماكننا المقدسة وهويتنا يتم سلبها منا، وكذلك كل مكوناتنا الوجودية كأفراد وكأمة، كلها معرّضة للهجوم. ويضيف صلاح: "من العار سماع الفلسطينيين يتحدثون اللغة العبرية بطلاقة كبيرة، ويهملون اللغة الأم العربية"، مشيراً إلى أن هذا الأمر يقع ضمن مخطط إسرائيلي لسلخ عرب إسرائيل عن الهوية العربية والإسلامية. وتوضح سكلار في تحقيقها أن الأصوليين من أمثال رائد صلاح ليسوا الوحيدين الذين تساورهم مخاوف من تآكل اللغة والهوية العربيتين، ويرون أن كلما تغلغلت العبرية إلى داخل المجتمع العربي، ازدادت المخاوف من أن تؤدي العبرنة إلى تآكل وتحلل الهوية القومية العربية. ولكن الدكتور توفيق أبو بكر يرى أن المخاوف السابقة ليس لها أساس، فالمجتمع العربي تقبّل اللغة العبرية سواء برغبته أو غصباً عنه، وأصبحت اليوم جزءاً لا يتجزأ من حياته اليومية وهذا أمر واقع. ويشير رئيس المعهد الأكاديمي العربي، البروفيسور علي وتد، إلى أن خطة "عبرية على الدوام" التي تتبناها وزارة التعليم الإسرائيلية تضر باللغة العربية لدى الأطفال، ويقول: "بالطبع نريد لأولادنا أن يتعلموا العبرية، لكن ذلك لا يكون على حساب الهوية والثقافة العربية... أولاً وقبل كل شيء يجب على الصغار أن يتعلموا اللغة الأم، وبعدها يمكنهم معرفة أية لغة ثانية". وتؤكد الدكتورة رنا زهر التي تحاضر في الكلية الأكاديمية للتربية أورانيم، على أنه رغم أن اللغة العربية كانت لغة رسمية في إسرائيل خلال السنوات الماضية، إلا أنه يتم الدفع بها إلى الهامش، ليس بسبب افتقارها إلى مصادر القوة، بل بسبب تعرض مصادر عظمتها للتخريب من خلال اعتماد سياسات لغوية وسياسات تدريس لغوية مقصودة، تتكيف أهدافها مع أيديولوجية الدولة.جهود المكافحة من أجل البقاء
تدفع المخاوف من تآكل الهوية العربية لعرب 48 البعض إلى التفكير في مبادرات لدعم اللغة العربية. فعلى سبيل المثال تبنى الشيخ رائد صلاح مبادرة "نصرة اللغة العربية" التي هدفت إلى حث عرب الداخل على عدم استخدام أية كلمة عبرية خلال الحوارات اليومية، ومَن يخالف ذلك يمكن تغريمه ما قيمته 10 شواقل. ويشير الدكتور محمد أمارة في مقال له نشره المجلس التربوي العربي إلى أن اللغة العربية لم تفِ بدورها في جهاز التعليم العربي في إسرائيل كلغة أقلية قومية وأصلية لها الحق في الحفاظ على الهوية العربية بأبعادها ومستوياتها المختلفة. ويوضح أن اللغة العربية لا تؤدي جميع الأدوار المطلوبة لتلبية الاحتياجات المجتمعية للمتعلم، لافتاً إلى أن هناك محاولات إسرائيلية واضحة لإفراغ المناهج والمضامين والكتب التدريسية العربية من مكوناتها القومية والوطنية، ومشدداً على ضرورة أن تكون اللغة العربية لغة التواصل في الجهاز العربي في إسرائيل، في كل أقسامه، كلغة تخاطب، ولغة بناء المناهج والمضامين، بالإضافة إلى ضرورة تعزيز اللغة العربية في الفصول والبيئة المدرسية عامة، وأن تكون هنالك مناهج ومضامين كتب تعليمية ووسائل مساعدة معدة مباشرة باللغة العربية وبدون ترجمة إليها.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 15 ساعةوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 15 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت