صدام، ركان، فلاح، نايف، عقاب… هذه ليست أسماء شبان فحسب، بل هي الأسماء التي تُطلق على الصقور التي يقتنيها ويدربها بعضنا على غرار أي حيوان أليف آخر. وقد أدرج الصيد بالصقور، عام 2010، ضمن التراث الثقافي غير المادي للبشرية في اليونسكو التي اعتبرت أنّ هذا الصيد كان بدايةً وسيلة للحصول على الطعام، إلا أنه تحوّل إلى وسلية مصادقة ومشاركة يمارسها الهواة والمهنيون من كل الأعمار ويتناقلونها كتقليد ثقافي.
هواية القنص عبر التاريخ
عُرفت هذه الهواية عند العرب منذ القدم وأثارت فيهم روح الإقدام والمنافسة والتحدي، فتحول القنص تقليداً تتوارثه الأجيال. وحفلت مجالس العرب ودواوينهم بحكايات وأسرار ومغامرات القنص المثيرة، واحتلت ثقافة القنص حيزّاً من أشعارهم وأدبهم، فقارنوا قوة الرجال وفحولتهم بالصقر، في حين شبّهوا جميلاتهم بألوانه وجمال عينيه.
يُشاع أنّ أوّل من استخدم الصقور في الصيد كان الحارس بن معاوية بن طاهر الكندي في القرن الرابع ميلادي، وأشهر من استخدمه في بداية العصر الإسلامي كان عم النبي محمد، حمزة بن عبد المطلب. كما تشير الأدلة إلى أنّ الصقور كانت محط رعاية في الخلافتين الأموية والعباسية،حتى أن الخليفة يزيد بن معاوية أمر ببناء منازل خاصة لها.
وفي الإمارات العربية المتحدة، يعتبر الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان نصيراً للبيئة الطبيعية وأوّل من أسس برنامجاً للحفاظ على الصقور من الانقراض وهو "برنامج زايد لإطلاق الصقور" عام 1995. كذلك أولى أهمية خاصة بالقنص، فتسابق الناس إلى اقتناء أجمل الصقور وأثمنها وتنظيم رحلات القنص، وصار القناص يحتل مكانة لائقة في المجتمع.
تعدّ الإمارات الدولة الأولى عالمياً التي أصدرت جواز سفر للصقور، كما أنشأت مستشفى خاصاً للصقور عام 1983 في دبي، لتتكامل بذلك الجهود الرسمية والشعبية في إعطاء هذه الرياضة التي تربط الإماراتيين بحياة آبائهم وأجدادهم.
الصقور وتفاصيلها
من قلب دبي، وتحديداً منطقة ند الشبا، يطل مركز الصقور والرياضات التراثية الذي أطلقته بلدية دبي قبل سنوات كمبادرة لإحياء التراث الإماراتي. هنا، نجد كل ما يتعلّق بعالم الصقور، من أدوات وأكسسوارات وحتى عيادة بيطرية، بالإضافة إلى متحف صغير يغوص بنا إلى تفاصيل عالم هذا الطير. ومع أنّ هذا المتحف لم يصبح بعد من أهم وجهات دبي السياحية، فإنه محطة مثيرة للاهتمام للتعرف على هذه الرياضة التراثية.
يرافقنا المرشد السياحيّ خالد الظاهري في رحلة ليكشف لنا عالم الصقور. كثيرة هي أنواع الصقور في الإمارات، منها “القرموشة” الذي يتميّز بتعدد ألوانه وطول منقاره وصغر رأسه ودقة مخالبه المتفرقة، و”العوسق” الذي يعدّ من أكثر الطيور تأقلماً في العالم، و”الكوبج” الذي يتميز بصغر الرأس والعينين والكتفين في حين يُطلق اسم "الوحش" على الصقر الذي يعيش في الطبيعة.
قد يعيش الصقر حتى 22 عاماً ويفوق نظره عشرين مرة نظر الإنسان بحسب آخر الدراسات، في حين أن سرعته تراوح بين 40 إلى 100 كم/الساعة وقد تصل إلى 300 كم عند الانقضاض، وارتفاع طيرانه قد يصل إلى 1000 متر. ويشرح لنا الظاهري أنه غالباً ما يحوي جناح الصقر الواحد 22 ريشة، وذيله 11 إلى 12 ريشة، موضحاً أن كل منها تُعرف باسم معيّن: الريشة الأخيرة مثلاً تًعرف بالـ"الموس" والريشة التي قبلها بـ"النايفة".
ولكن تبقى مخالب الصقر من أهم أجزاء جسده، إذ إن بعضها يساعده على القتل والصيد والأخرى على الإمساك بفريسته. يعددها لنا الظاهري قائلاً: “التابع” وهو المخلب الخلفي يساعد الصقر على ضرب فريسته و”العالف” وهو المخلب الأمامي والداخلي يساعده على الإمساك بالفرائس و”السنان” وهو المخلب الأمامي والأوسط، وأطول المخالب، يساعده على القبض على الفريسة بعد صيدها، في حين يعتبر “اللاحف” وهو المخلب الأمامي والخارجي، مساعداً للتابع. أما الرأس الذي يتحرّك بكلّ الاتجاهات، فهو إلى جانب الجناح يساعد على التمييز بين مختلف أنواع الصقور، وبين الأنثى والذكر، إذ غالباً ما يكون أكبر لدى الأنثى. وتمتلك الصقور مناقير صغيرة مقارنة بحجم الرأس وتتميز بوجود تركيبة فريدة على حافتها العلية تعرف بـ"السن البارز" الذي يستخدم لكسر عنق الفريسة.
يتطلب اقتناء صقر وتدريبه العديد من المعدات، الحديثة والتقليدية، من بينها المنظار الذي يساعد على كشف تحركات الصقر وتتبّعه عن بعد، و”المنقلة” وهي قطعة قماش تلبس حول اليد وتستخدم لنقل الصقر من مكان إلى آخر، و”الداس” وهو قفاز من الجلد لحماية اليد من مخلب الصقر، و”التلواح” الذي يصنع من ريش الصقر ويستخدم لتدريبه، والسبوّق وهي قطعة من الجلد تلتف حول قائمة الصقر لتقييده والمرسل، وهو الوصلة التي تربط بين السبوق ووكر الصقر، والبرقع وهو غطاء جلدي يغطى به رأس الصقر ليساعد على تهدئته.
يخبرنا الظاهري أن الصقور قلما تبني عشاً، فهي تتخّذ بيتاً لها أعشاشاً مهجورة أو فتحات الكهوف حيث تبيض الأنثى من 2 إلى 5 بيضات. وغالباً ما تتكاثر بين فبراير وأكتوبر. يكتفي الصقر بشريك واحد مدى حياته، وكثيراً ما يتغذى من الزواحف والقوارض والحشرات والطيور الأخرى.
تدريب الصقر
قبل البدء بتدريب الصقر، لا بدّ من التقاطه. هناك طرائق مختلفة لصيده، إلا أنّ جميعها تدور حول خداعه. “التكويخ” مثلا وسيلة تعتمد على بناء "الكواخ" حفرة في الرمل يخفي فيها نفسه، وتغطى بالنخيل ويمتد منها خيط يربط به الطعم. أما “الشبكة”، فتضم خيوطاً رقيقة من النايلون أو شباكاً منسوجة من وبر الخيل أو الجمل، يربط فيها الطعم الذي غالباً ما يكون حمامة أو طائر حبارى (أصعب ما يصطاده الصقر).
أما في ما يتعلّق بالتدريب، فيحتاج الصقر من 4 إلى 6 أسابيع لتدريبه. يضع الصقار بداية البرقع على رأس الصقر في محاولة لتهدئته وترويضه، ويصحبه في المجالس ليعتاد الأصوات والناس. يوضع الصقر دائماً على اليد اليسرى لأنها غير حركية، "ميسورة الحال" على حد قول الظاهري، ويجب أن تبقى مرتفعة لأن الصقر لا يحب الدنو. بعدها، يبدأ الصقار تدريبه على صيد مختلف الفرائس بطرائق عدة، أحدثها الطائرات الصغيرة من دون طيار، التي توضع فيها الفرسية في قفص صغير. بعد انهاء التدريب، يقول الظاهري إنّ الصقر لن يهرب وسيعود
دائماً إلى صقاره.
تعتبر بعض الصفات على غرار الوحاشة والحدقة والهيئة وأجزاء الجسم في منتهى الأهمية لدى اختيار الصقر الذي قد يصل سعره إلى 100 ألف درهم (نحو 27000 دولار). وبالتالي، يقول الظاهري أن الفحص الدوري والكشف الطبي مهمان جداً للتأكد من صحة الصقر ومعالجة الأمراض فور إصابته بها. يضمّ مركز الصقور والرياضات التراثية مختبراً وعيادة بيطرية لعلاج الصقور من الفطريات أو تشوه القدم أو الالتهابات وغيرها من الأمراض التي تُعالج بالطرائق الحديثة أو التقليدية كاستخدام الأعشاب أو سكر البنات. إلى هذا المركز، هنالك العديد من المستشفيات المتخصصة بالصقور في دبي وأبوظبي.
بطولات ومنافسات
مع اكتساب رياضة الصيد بالصقور شهرة واهتماماً كبيرين في الأعوام الماضية، رأت الكثير من المسابقات النور وجذبت العديد من الصقارين من مختلف أنحاء الإمارات ومن دول أخرى. تتميّز بطولات فزاع التراثية التي تتولّاها إدارة البطولات في مركز حمدان بن محمد لإحياء التراث بجوائزها وفئاتها المتعددة التي تجعلها مضماراً يتنافس فيه آلاف الهواة والمحترفين القادمين من ثقافات ودول مختلفة. من بين هذه الفئات: الصيد بالصقور التلواح، والصيد بالصقور الحي، وبطولة فخر الأجيال للصيد بالصقور.
كذلك تنظّم بطولات أخرى للصيد بالصقور في أبوظبي، إلا أنّ البارز إطلاق نادي صقاري الإمارات مسابقة جمال الصقور التي نجحت في آخر دورة لها بجذب العديد من أصحاب مزارع الصقور من كل أنحاء العالم.
ولعل الاهتمام المتزايد بالصقور وإعادة إحياء عادة تعود إلى آلاف السنوات تعكسان الجهود المبذولة من مختلف مكوّنات المجتمع الإماراتي للحفاظ على التراث والرياضات التراثية التي يمكّن "عدها على أصابع اليد" على حدّ قول الظاهري. وما ظهور مسابقات جمال بعيدة عن الصيد سوى دليل على أن هذه الهواية لا تعني حب الصيد فحسب، بل تجسّد باقة واسعة من القيم والتقاليد الاجتماعية المتوارثة ومرجعاً للإرث الثقافي.
الصور من مركز حمدان بن محمد لإحياء التراث
نشر هذا الموضوع على الموقع في 21.04.2015
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومينأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 3 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...