تناول روائيون كثر في أعمالهم الدور الذي تلعبه كرة القدم في المجتمع، وكيف تعبّر عن الواقع وتحولاته في فترة معيّنة.
هذا ما يقوله لرصيف22 الناقد الأدبي مصطفى بيومي، مؤلف كتاب "كرة القدم في الأدب المصري/ شهادة اجتماعية وسياسية"، مشيراً إلى أنه "قبل عام 1952 كان اهتمام الأدباء بكرة القدم محدوداً جداً، بما يتناسب مع شعبيتها حينذاك، لكن بعد ثورة يوليو اكتسبت اللعبة انتشاراً انعكس في أعمال الكتاب، باعتبارها جزءاً من نسيج الحياة اليومية وثيق الصلة بالمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية".
توفيق الحكيم... "بنك القلق"
تسعة زبائن يترددون على بنك القلق. يحكي كل منهم مأساته وأوجاعه. من بينهم مشجع لنادي الزمالك دفعته الظروف السياسية السائدة في فترة الستينيات من القرن الماضي إلى تكريس جُلّ اهتمامه لكرة القدم. ويذكر بيومي لرصيف22 أن الحكيم قدّم في رواية "بنك القلق" التي نُشرت عام 1970 "رؤية مهمة عن ملامح المجتمع المصري في العهد الناصري، حيث احتكار السلطة لكل مفردات الحياة السياسية والاقتصادية، وإنكار حقوق الأفراد في المشاركة في الحياة العامة". ويشير إلى أن الحكيم قدّم في روايته "عيّنات من مظاهر القلق عبر تسعة زبائن يترددون على البنك، فتظهر كرة القدم كمصدر لصناعة القلق والتوتر عند المتطرفين في تشجيع الأندية إلى حد الهوس بها، في تعبير عن حالة المجتمع المسكون بالفراغ والخواء، ما يدفع إلى البحث عن انتماء يضفي معنى وجدوى حتى لو كانا زائفين". ويشرح بيومي أن "الزبون الرابع في الرواية مسكون بالحماس الزائد في تشجيع نادي الزمالك، في إشارة إلى التنظيم السياسي الواحد الذي يمثل جوهر حياته والمعنى الوحيد فيها، في الوقت الذي يكره فيه الأندية الأخرى، أي باقي القوى والأحزاب الهشة. ويترتب على هذا التعصب كوارث عدة تحمل إسقاطات على النظام السياسي الذي يرفض الآخر ويحتكر السلطة، ويريد للأفراد العاديين الانخراط في منظومة فكرية وسياسية أحادية سابقة التجهيز".عبد الرحمن الشرقاوي... "الفلاح"
يلفت بيومي إلى أنه، كما اختلف حال الساحرة المستديرة من فترة زمنية لأخرى، تباين أيضاً الروائيون في تناولهم لها. ويقول لرصيف22 إن عبد الرحمن الشرقاوي مثلاً "عادة ما كانت الحماسة تأخذه في كتاباته، لذا اتخذ موقفاً سلبياً من الكرة باعتبارها تشغل الشعب عن قضاياه الأساسية، وهذا ما عبّر عنه في رواية ‘الفلاح’ التي تدور أحداثها سنة 1965". في الرواية المذكورة، لا تنجو القرية مما يسود في العاصمة والمدن من إسراف متطرف في متابعة مباريات كرة القدم والانشغال بها عن الهموم الحياتية. وفي اجتماع لوحدة الاتحاد الاشتراكي للقرية، يتجسد تأثير الكرة في الشباب. فبينما ينهمك المدرس الثوري عبد المقصود في حديث حماسي عن المخالفات الجسيمة للمشرف الزراعي وكيفية التصدي لانحرافاته، ويسود الصمت قبل التصويت على الإجراءات المزمع القيام بها، يرتفع من بعيد صوت معلق مباراة الأهلي والزمالك ليفسد التركيز الذي اتسم به الاجتماع، وليبرهن على اهتمام الإذاعة المصرية بالمباريات دون تفكير في الفلاحين الأولى بالاهتمام. ينسحب الطالب الذي يحمل جهاز الترانزستور (راديو صغير) بخجل، ويتبعه أكثر من طالب مفضلين متابعة المباراة على حضور الاجتماع الذي سيتخذ قرارات مصيرية. تعليقاً على كيفية حضور كرة القدم في هذه الرواية، يقول بيومي لرصيف22 "إن الشرقاوي في روايته يصب كل غضبه على الاهتمام الشعبي بالكرة". ويذكر "أن الفترة التي تدور فيها أحداث الرواية شهدت اهتماماً رسمياً من كبار قادة القوات المسلحة بها أيضاً، ويكفي أن عدداً منهم اجتمع عدة مرات للنظر في أمر انتقال لاعب يُدعى لمعي عبد السميع من المنصورة إلى الأهلي أو الزمالك بعد أن أثار ذلك جدلاً في الشارع المصري، كما أن عدداً منهم كانوا رؤساء لأندية، مثل كبير أمناء رئاسة الجمهورية صلاح الشاهد الذي كان رئيساً لنادي الترسانة، إضافة إلى أن المشير عبد الحكيم عامر كان رئيساً لاتحاد الكرة".نجيب محفوظ... "مفترق الطرق" و"ميرامار"
عدالة المستطيل الأخضر لا تستوعبها الحياة بمعطياتها الطبقية. قاعدة أساسية انطلق منها نجيب محفوظ في قصة "مفترق الطرق"، وفيها يستعيد جلال أفندي رغيب، مراجع الحسابات في وزارة المعارف، ذكريات المدرسة الثانوية بعد تعيين زميله في الدراسة حامد باشا شامل وزيراً. كان الزميلان يتنافسان على التفوق وصدارة الناجحين "وكانا في ملعب كرة القدم مثلهما في الفصل لا يريحان ولا يستريحان. وكان كلاهما يزعم أنه أحق من صاحبه بقلب الدفاع، فكان مدرس الألعاب يعاقب بينهما فيه، حتى بدا تفوق جلال للجميع فاستأثر به، فكان آخر عهد الآخر بلعب الكرة". لكن حامد تسلح بأصوله الطبقية، وواصل رحة التعليم وارتقى في المناصب الرفيعة وصولاً إلى تقلد الوزارة، بينما قبع جلال في القاع بفعل الفقر. ولأن كرة القدم لا تخضع للوساطة والمحسوبية، والبقاء فيها للأصلح والأفضل والأكثر مهارة وموهبة، استحوذ جلال على مركز قلب الدفاع في فريق المدرسة لأنه الأحق به، إلا أن الحياة خارج الملعب لا تتسم بمثل هذه العدالة، وينتهي المطاف بالمتنافسين القديمين إلى موقعين مختلفين لا متسع للمقارنة بينهما، حسبما يشرح بيومي في كتابه. وكان لكرة القدم نصيب من رواية "ميرامار" التي رصدت بسخرية أوضاع العهد الناصري، خاصة تراجع مكانة المثقفين والمفكرين في مطلع الستينيات وبزوغ العصر الذهبي لنجوم كرة القدم دون غيرهم. وفيها، لم يملك الصحافي العجوز عامر وجدي في مواجهة طوفان التحولات العارمة إلا أن يطلق صيحته الغاضبة الساخطة: "أيها الأنذال، أيها اللواطيون، ألا كرامة لإنسان عندكم إن لم يكن لاعب كرة؟".بهاء طاهر... "المظاهرة"
"كرة القدم قد تكون معادلاً موضوعياً لحالة الخواء الفكري وليس فقط مجرد أداة إلهاء"، يقول بيومي. ويروي لرصيف22 أنه في قصة "المظاهرة" التي كُتبت ونُشرت عام 1966، وتظهر في مجموعة "الخطوبة" (1972)، "كشف بهاء طاهر عن واقع الحياة المصرية في منتصف الستينيات وغياب أي مصدر من مصادر الانتماء، ما ترتب عليه اتجاه المواطنين إلى الكرة التي تَبرز كشيء وحيد يحاربون من أجله أمام عدو وهمي".يرصد نجيب محفوظ في رواية "ميرامار" بسخرية أوضاع العهد الناصري، خاصة تراجع مكانة المثقفين والمفكرين في مطلع الستينيات وبزوغ العصر الذهبي لنجوم كرة القدم دون غيرهم
قبيل مباراة حاسمة بين مصر وإسرائيل للتأهل إلى كأس العالم، يسأل رياض: "لماذا لا نلعب مع إسرائيل؟"، فيجيبه أحد اللاعبين بأن إسرائيل عدو، فيرد: "هل الوطنية أن نواجه العدو أم نهرب من مواجهته؟"في القصة المذكورة، يذهب الراوي إلى عمله كل صباح مكرراً ما يفعله كل يوم من ترتيب للملفات والأوراق. وفي مرة، يجد نفسه متورطاً في متابعة تظاهرة كروية احتفالية صاخبة، رغم أنه ليس من المهتمين بكرة القدم بل إنه لم يشاهد مباراة واحدة في حياته. ينخرط الرواي في التظاهرة الاحتفالية ويشارك فيها مع مشجعي الفريق الفائز الذين يمارسون طقوساً غرائبية متشنجة تليق بمرضى الفراغ الباحثين عن انتصار رياضي يعوضهم عن هزائم حياتهم المكتظة بالإحباط واليأس والتعاسة، ما يفسر اندماجه المفاجئ معهم على ضوء أوجاع يعاني منها ولا علاقة لها بكرة القدم، حسبما يحلل بيومي في كتابه. وتنتهى الاحتفالية بالرواي في قسم البوليس بعد سلسلة مشاجرات عنيفة يوجه خلالها سيلاً من الضربات لمشجع من الفريق الآخر ويتلقى مثلها، ما يحمل دلالات حول كراهية الآخر المجهول، فهو لا يضرب عدواً يعرفه من قبل، لكنه يصارع رمزاً يتكثف أمامه ليلخّص كل ما يعاني منه من ضيق وكبت وهوان وتعاسة.
صنع الله إبراهيم... "شرف"
منحى آخر لكرة القدم اتخذه صنع الله إبراهيم في رواية "شرف" التي صدرت طبعتها الأولى عام 1997، وتدور أحداثها في عام 1995. يقول إبراهيم لرصيف22 إن الرواية تتناول طبيعة الحياة داخل السجون المصرية باعتبارها صورة مصغرة للواقع خارجها، وذلك من خلال تجربة الشاب أشرف عبد العزيز سليمان الشهير بـ"شرف". ويروي أنه استعان بالكرة في الرواية باعتبارها نشاطاً اجتماعياً يكشف ما يحدث في المجتمع، وينعكس بالتبعية في السجن عبر مشاهدة السجناء لمباراة الأهلي والزمالك التي تفصح عن حقيقة تفاعلات المجتمع الداخلية. فالضابط المسؤول عن السجن يوافق على وضع التلفزيون في الغرفة وتشغيله لمشاهدة المباراة، وتسيطر الفرحة على المساجين. لكن المتطرفين من أعضاء الجماعات الإسلامية يرون الرياضة الشعبية لهواً محرماً يستدعي المقاومة والرفض، فيقودهم ذلك التحفظ إلى لقاء الضابط ومحاولة إثنائه عن قراره، لكنه يرفض. بعد المباراة التي انتهت بفوز الأهلي، يدخل السجناء في حوارات ممتدة حتى ساعات الصباح الأولى حول المباراة، تتطور إلى مشاجرات، فيتطرف مشجعو الأهلي للدفاع عن فريقهم ونعت المنافس بأوصاف غير لائقة، تنم عن التعصب وضيق الأفق والتطرف الذي يخاصم العقل وعدم تقبل الآخر، بينما يتهم مشجعو الزمالك الحكم بمجاملة الأهلي، في إشارة إلى عدم الإقرار بالهزيمة وعدم وجود تفسير لها إلا في ضوء التآمر والغدر. وبحسب بيومي، "كأنهم يتحدثون عن الحياة الواقعية الحافلة بالانكسارات والهزائم خارج ملعب كرة القدم والتي لا يحكمها منطق إلا مظالم الحكام".أحمد الصاوي... "إصابة ملاعب"
من خلال مجموعة مصادفات معقدة يحكمها الإسراف في الخيال، بقدر ما هي ممكنة وورادة، يصطدم الحلم المصري بوصول منتخب كرة القدم إلى نهائيات كأس العالم بخوض لقاءين فاصلين حاسمين مع الفريق الإسرائيلي، وتتحول المباراة إلى أداة للكشف عن خبايا المجتمع المصري عبر شخصيات شتى تدور كلها في فلك الساحرة المستديرة. في رواية أحمد الصاوي "إصابة ملاعب"، لا أحد يتوقف عند مسؤولية المنتخب المصري وتعرضه للهزيمة في مباريات سابقة، وهو ما يفضي به إلى لقاء إسرائيل، في الوقت الذي يتحدث فيه متبنو نظرية المؤامرة عن ضغوط أمريكية ومخابراتية من أجل إقامة هذه المباراة. وبحسب بيومي، فإن الإعلاء من شأن نظرية المؤامرة يمنح شعوراً زائفاً بالرضا وتوهم القوة التي لا وجود لها عملياً. واللافت للنظر كما يلاحظ بيومي هو الجهل الكامل للمدرب "حندوسة"، المسرف في الإيمان الزائف، بالفريق الإسرائيلي الذي يتحتم عليه أن يلاقيه وأن ينتصر عليه ليصل إلى النهائيات، فهو يؤمن بأن مشاهدة مباريات إسرائيل بمثابة التطبيع المرذول. لكن جدلية اللعب من الأساس تفرض نفسها. يسأل رياض قائد المنتخب: "لماذا لا نلعب مع إسرائيل؟"، فيجيبه أحد اللاعبين بأن إسرائيل عدو رغم السلام البارد، فيرد: "هل الوطنية أن نواجه العدو أم نهرب من مواجهته؟". ورغم أن المحترف المصري العالمي ناصر، ذا الثقافة المختلفة بحكم إقامته في أوروبا واحتكاكه بقيمها، يبدو مرشحاً لاتخاذ موقف معتدل تجاه المباراة، إلا أن تراثه العائلي الموجع يحول دون قدرته على اللعب. فوالده قتله الإسرائيليون وأمه ضحية أخرى عانت في طفولتها محنة التهجير بعد هزيمة 1967. ويصل به الأمر إلى حد الاعتزال حتى يتجنب المشاركة. وسط كل ذلك، يسعى الإرهابي سعيد الصوارمي إلى استثمار اللقاء لتحقيق انتصار مزدوج ضد النظام وإسرائيل، ويقول لأنصاره ومريديه: "العدو سيأتي وسيوفر على المجاهدين عناء السفر إليه". تنتهي أحداث الرواية قبل ساعتين من الموعد المحدد لبداية المباراة الأولى في ستاد القاهرة، وتبقى أسئلة كثيرة بلا إجابات واضحة محددة: هل يقام اللقاء؟ كيف يسير؟ ما النتيجة؟ وماذا عن العمل الإرهابي؟إيهاب قاسم... "ملعون"
في رواية "ملعون"، تمثل الكرة خلفية لبطل الرواية فتحي غانم ووسيلة للترقي الاجتماعي، ما يعكس المعطيات السياسية والاجتماعية السائدة آنذاك. يقول مؤلف الرواية إيهاب قاسم لرصيف22 إنه اعتمد على كرة القدم في البناء الروائي لبيان كيف أن المجتمع قبل ثورة يوليو كان يستوعب الجميع خاصة الأجانب بثقافاتهم المختلفة. وبحسب قاسم، اكتسب بطل الرواية فتحي غانم خبرة حياتية من خلال وجوده في الملاعب، ما أهّله للحكم على ما يدور حوله من متغيرات سياسية واجتماعية. وشرح قاسم أن الكرة في الرواية كانت إحدى الشماعات التي رمى عليها النظام أسباب هزيمة يونيو، لذا صدر قرار بتوقف النشاط الكروي. وبعد أن تنتهي طقوس العزاء بالضابط الشهيد محمود فتحي غانم، يقول الأب لابنه علاء وحميه المستشار توفيق الطرابيلي: "سوف أغادر غداً إلى الكويت، كما تعلمان رموا الهزيمة على الكورة والست أم كلثوم فأوقفوا الدوري وأخرسوا الأغاني.. مسخرة. لم يعد لي عمل هنا، حصلت على عقد عمل لتدريب أحد الاندية هناك، قد أعود مرة في العام، وقد لا أعود". وعندما يتساءل المستشار: "وهل لديهم فرق كورة في الكويت؟"، يرد فتحي: "لديهم كل شيء. ونحن فقدنا كل شيء".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...