تمثّل المناسبات الرياضية فرصة للجماهير لكي تُخرج مكبوتاتها وتُظهر حساسياتها، فتستغل حالة التحشيد في المدرجات للتعبير الصريح عن أفكار لا تعبّر عنها عادةً أو لا تجرؤ على ذلك.
عندما يختار المشجّع فريقه، لا يقوم بذلك انطلاقاً من معايير فنية فقط. يختار فريقاً يسمح له بالتعبير، من خلال تشجيعه، عن آرائه السياسية أو الاجتماعية. لا يحدث ذلك فقط في البلدان التي تغيب عنها المنافسة السياسية والتي لا تعرف شعوبها صناديق الاقتراع. على سبيل المثال، تشهد إيطاليا هذه الحالة برغم ديمقراطيتها العريقة، فنرى الطليان يختارون فرقاً لتشجيعها انطلاقاً من اعتبارات مناطقية وطبقية تميّز الشمال الغني والمزدهر عن الجنوب الفقير.يُلاحظ هذا الفرز حين يلتقي نادي نابولي الجنوبي فرقَ شمال إيطاليا مثل يوفنتوس (وهو نادي مدينة تورينو الحاضنة لصناعة سيارتَيْ فيات وفيراري).
وتُلاحظ الاعتبارات الاجتماعية داخل المدينة نفسها بحيث ينحاز الفقراء إلى فريق وينحاز الأغنياء إلى خصمه. هذا هو الحال مع جماهير قطبي مدينة ميلانو الصناعية، إيه سي ميلان، المملوك من سيلفيو بيرلسكوني رئيس الوزراء السابق وئيس النادي ورجل الأعمال الكبير، وغريمه المحلّي إنتر ميلان.
أما في إسبانيا، فالحساسيات الأهم بين مشجعي الفرق، تنطلق من أسس قومية، كما الحال مع نادي برشلونة ممثل مقاطعة كاتالونيا التي يرغب كثيرون من أبنائها في الانفصال، وكذلك مع نادي أتليتيكو بيلباو الذي يجسّد رغبة أهالي إقليم الباسك في الانفصال أيضاً. تستعر حماسة جماهير هذين الناديين بشكل خاص حينما تلتقي فرقهم ناديَ ريال مدريد المعروف بالنادي الملكي والمجسد لوحدة إسبانيا تحت الراية الملكية.
لكن المسألة تصبح أكثر تعقيداً في الدول التي تسودها الحساسيات الأهلية الطائفية والإثنية لا سيما في العالم العربي.
ففي لبنان كان تشجيع فريقي النجمة والأنصار أبعد من تشجيع كروي وكان يعبّر عن انتماء الجماهير السياسي ـ الطائفي، فمعظم جماهير الأول كانوا من الشيعة، ومعظم جماهير الثاني من أبناء مدينة بيروت السنّة. وفي بطولة كرة السلة اللبنانية، كانت المباريات التي تجمع فريقي الحكمة والرياضي، خلال الحقبة العسكرية السورية في لبنان، قبل العام 2005، مناسبة للتعبير عن الاحتقان الطائفي بين عصبية مسيحية رافضة للوجود السوري في لبنان، وبين حالة إسلامية راضية به. وبعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، تغيّرت التحالفات الطائفية وأخذت الصراعات أشكالاً جديدة. احتدمت صراعات جماهير الأندية التي لم تكن تتردّد في إطلاق هتافات طائفية ومذهبية غالباً ما كانت تؤدي إلى اشتباكات دفعت الاتحاد اللبناني لكرة القدم ونظيره لكرة السلّة إلى اتخاذ قرار قضى بمنع الجمهور من مشاهدة المباريات تجنباً للأسوأ. واليوم يتحول الصراع السياسي على إدارة فريق الحكمة إلى جزء من الصراع على الزعامة ضمن الطائفة المارونية، بين التيار الوطني الحرّ وزعيمه ميشال عون وبين حزب القوات اللبنانية وزعيمه سمير جعجع.
أما في الأردن، فتسود حساسيات وطنية. ينقسم الأردنيون بين نادي الوحدات المحسوب على الفلسطينيين، ونادي الفيصلي المحسوب على العصبية البدوية المتحلقة حول المؤسسة الملكية الهاشمية.
وفي ليبيا، في عهد الرئيس المخلوع معمّر القذافي، كان النظام يهمّش المجتمع المدني بجميع مؤسساته بما فيها الرياضة. فلم يكن مسموحاً للعالم أن يعرف عن الليبيين سوى القذافي وكتابه الأخضر ومغامراته السياسية والعسكرية. وقد تبيّن لاحقاً، بعد سقوط النظام، أن أجهزته كانت تقوم بمكافحة النجومية وتمارس التعتيم الممنهج على أي ليبي قد ينال قسطاً من الشهرة في أي مجال، حتى في المجال الرياضي. وهكذا كان يُمنع ذكر أسماء اللاعبين عند عرض المباريات على شاشة التلفاز، ويُستعاض عن ذلك بذكر أرقام قمصانهم، فيقول المعلّق أن اللاعب الرقم 10 هو من سجّل الهدف وأن اللاعب الرقم 7 هو صاحب التمريرة الحاسمة.
برغم ذلك، نجح الشعب الليبي في التعبير عن معارضته للقذافي عبر التشجيع الكروي وبطريقة مبتكرة. فبعد فوز إيه سي ميلان الإيطالي على يوفنتوس، في المباراة النهائية لدوري أبطال أوروبا عام 2003، خرج آلاف الليبيين بمسيرات فرح. هذه الإشارة لم تخفَ عن القذافي، فنادي يوفنتوس كان محطاً لاستثمار عائلة القذافي عبر نجله الساعدي الذي أصبح لفترة عضواً في مجلس إدارة النادي العريق. لذا، في اليوم التالي لتلك الاحتفالات، ألقى القذافي خطبة طويلة هدد فيها المحتفلين وتوعّدهم وقال إنه يعرف أنهم يحتفلون لخسارة النادي المحسوب على العائلة ووصَفهم بالخونة. حينذاك، وفي "نبوءة" له غريبة، قال إنهم سيكونون في طليعة من سيساعد حلف الناتو عندما يقرر غزو البلاد.
وفي مصر، كان نادي الزمالك النادي المدلل لبعض ضباط ثورة يوليو، وكان عبد الحكيم عامر في طليعة المواظبين على مشاهدة مبارياته في الملاعب. بينما يقال أن الرئيس جمال عبد الناصر كان يشجع الأهلي في السرّ ولم يكن يفصح عن ميوله لأنه أراد الحفاظ على صورته كرئيس لكل المصريين وهو ما نجح فيه حين طلب من الأندية الكروية تقديم تبرّعات لتسليح الجيش فتسابقت على الاستجابة لطلبه. أما الرئيس أنور السادات فقد اعتمد أسلوب التقرّب علناً من جماهير النادي الأهلي بعد تسلمه الحكم، فهو النادي الأكثر شعبية في مصر وهو النادي الذي تنحاز إليه الطبقات الشعبية في مقابل الزمالك الذي يعتبر نادي الأرستقراطية المصرية.
وفي سوريا، أشعلت مباراة في الدوري المحلي انتفاضة كردية عارمة ومفاجئة في بلد كان شعبه خاضعاً لقبضة أمنية. ففي 12 مارس 2004، جمعت مباراة في مدينة القامشلي الكردية بين صاحب الأرض، نادي الجهاد، وبين ضيفه، نادي الفتوة، القادم من مدينة دير الزور.
وعلى خلفية إسقاط نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين وما رافقه من انفجار حساسية عربية – كردية، اشتعلت المدرجات بالهتافات العدائية ورمي الحجارة، فأدى ذلك إلى سقوط قتلى وجرحى، لتتطور بعد ذلك الأمور إلى احتجاجات كردية وصل صداها إلى العاصمة دمشق نفسها. حينذاك، ادّعى جمهور نادي الجهاد أن الأحداث بدأت على خلفية تحية جماهير الفتوة لصدام حسين والفلوجة المقاومة للاحتلال الأمريكي وحلفائه. بينما روى جمهور الفتوة رواية معاكسة تقول إن جمهور الجهاد هو من بدأ بشتم صدام حسين والهتاف باللغة الكردية لزعيمي إقليم كردستان العراق جلال الطالباني ومسعود البارازني وللبيشمركة.
أياً كان ما حدث، يبقى أن جمهور كرة القدم السوري عبّر عن حساسيات سياسية وإثنية لم يكن مسموحاً التعبير عنها بالطرق السياسية العادية. لدى غياب كل هذه النوازع العصبية للتشجيع في البلدان المتقدّمة، لا يعدم الجمهور الحيلة لإيجاد عصبيّات بديلة. هذا ما يفعله جمهور نادي فينورد روتردام الهولندي الذي يرفع الأعلام الفلسطينية حين يلتقي فريقه مع غريمه أياكس أمستردام الذي يرفع جمهوره في المقابل الأعلام الإسرائيلية. فأياكس هو النادي الوحيد في أوروبا الذي يُنظر إليه بصفته ذا هوية يهودية.
توفّر اللعبة الشعبية الأولى في العالم لجمهورها ما هو أبعد من الترفيه. الأمر لا يقتصر على المنافسات بين الأندية. تحدث أمور كثيرة حين تتواجه المنتخبات، وهذا حديث مختلف تماماً.
نشر هذا الموضوع على الموقع في تاريخ 15.12.2014
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين