مراكز احتجاز أشبه بالأقفاص ذات الأرضية الإسمنتية، هناك حيث يتم وضع الأطفال الذين يُفصلون عن ذويهم من المهاجرين إلى أمريكا وفق سياسة "عدم التسامح" الذي اتخذت بعداً تنفيذياً جديداً في الأيام الماضية جرى وصفه بالوحشي وعديم الإنسانية. ومع انتشار صور تلك الأقفاص، عادت إلى الذاكرة أقفاص العبودية التي كان يوضع فيها الأطفال الذين يُنتزعون من أهلهم عنوة ليجري بيعهم لاحقاً في سوق العبيد. في ذلك الوقت استعان مسؤولون أمريكيون بالإنجيل لإيجاد مبررات للعبودية ولفصل الأولاد عن أهاليهم في ظل النظام القائم. وصية الرسول بولس بوجوب "طاعة قوانين الحكومة لأنها جاءت من الله لإحلال النظام" كانت سلاحاً فعالاً آنذاك، وقد عادت قبل أيام مع وزير العدل الأمريكي جيف سيشنز الذي استخدم العبارة نفسها لتبرير القرار الذي أدى ما بين 5 مايو و9 يونيو إلى فصل 2342 قاصراً عن أهاليهم أو أقاربهم البالغين، أي ما يعادل أكثر من 66 قاصراً في اليوم، حسب وزارة الأمن الداخلي. "فرض احترام القانون مرتبط جداً بالكتاب المقدس"، هو ما قالته المتحدثة باسم البيت الأبيض سارة ساندرز بدورها، في معرض تبريرها لقرار ترامب الذي عبّر عن رفضه أن تتحوّل أمريكا إلى مخيّم لجوء بعدما وصف اللاجئين في معرض سابق بالحيوانات. هذا التلطي وراء الخلطة الدينية/ الأمنية/ القانونية لانتهاك بديهيات حقوق الإنسان ليس مستجداً على أمريكا، التي صادف انسحابها من مجلس حقوق الإنسان مع اليوم العالمي للاجئين.
تاريخ من الوحشية
ليست مثل هذه السياسة الوحشية مستجدة كذلك مع استلام ترامب الرئاسة، وإن كانت تعزّز مواقفه ربط كل مساوئ الإدارة الأمريكية بشخصه، فقد سجّل التاريخ الأمريكي ممارسات منهجية عدة جرى عبرها فصل الأطفال عن عائلاتهم تحت ذرائع مختلفة. من أيام العبودية، مروراً بإجبار الأمريكيين الأصليين على إرسال أطفالهم إلى المدارس الحكومية والكنائس حيث تم حلق شعرهم الطويل وإجبارهم على الاندماج في المجتمع الأبيض والتخلي عن لغتهم الأصلية، وصولاً إلى مطلع العام 1900 حيث كان الفقر مبرراً لنزع أطفال السكان الأصليين والسود من عائلاتهم، كما كان حال مالكوم أكس الذي كتب عن تأثير ذلك على حياته وكيف دخلت والدته إلى مصح الأمراض العقلية بعدما انتزعوه منها. وفي فترة الكساد الكبير خلال الثلاثينات، تمّ ترحيل حوالي مليون مهاجر من المكسيك وأمريكا الوسطى، بينما بقي الكثير من أطفالهم في أمريكا، ولم يتمكن هؤلاء من رؤية أهاليهم مجدداً. ومع ظهور الأطفال داخل الأقفاص، تعود إلى الذاكرة مجدداً صور من الحرب مع اليابان، حيث - وخلال حرب الولايات المتحدة مع اليابان في الأربعينات - وُضع حوالي 120 ألف شخص من ذوي الأصول اليابانية في مخيمات الاحتجاز، من بين هؤلاء حوالي 30 ألف طفل كان سلّط وثائقي "أطفال المخيمات" الضوء على معاناتهم وعلى انتظارهم بلوغ الـ18 ليشاركوا في الحرب في صفوف الجيش الأمريكي كي يثبتوا ولاءهم للأرض.ما مصير الأطفال وهل ستتغيّر السياسة؟
"أمي أمي! أريد أن أكون مع أبي"، بعض ما كانت تردده طفلة صغيرة كغيرها من الأطفال الذين، حسب وكالة "أسوشييتد برس"، كانوا غارقين في البكاء والنحيب لدرجة أن بعضهم لم يكن قادراً على التنفس. ضحايا "سياسية عدم التسامح"، وغالبيتهم من السلفادور وغواتيمالا، كانوا عرضة لاستهزاء بعض عناصر الشرطة الذي سجل الفيديو رد أحدهم على بكاء الأطفال بالقول "حسناً، لدينا أوركسترا جيدة هنا. الشيء الوحيد الذي نفتقده هو قائد للأوركسترا".في أبريل الماضي، أعلن المدعي العام الأمريكي جيف سيشنز سياسة "عدم التسامح"، بينما أعلنت وزارة الأمن الداخلي فصل 2342 قاصراً عن ذويهم ما بين 5 مايو و9 يونيو
العبودية، اضطهاد السكان الأصليين، الفقر، الحرب مع اليابان، الكساد الكبير... سجّل التاريخ الأمريكي ممارسات منهجية عدة جرى عبرها فصل الأطفال عن عائلاتهم تحت ذرائع مختلفةهذه المشاهد جاءت مخالفة لما ادعته وزارة الأمن الداخلي قائلة إن "معايير احتجاز الاطفال لدينا هي من الأعلى في العالم". يرجع تاريخ هذه السياسية إلى عهد باراك أوباما، وتحديداً إلى عام 2014، حين كانت إدارة باراك أوباما تحتجز العائلات من دون أن تفصلها. ولكن الانتقادات المتلاحقة للإجراء، دفع محكمة فيدرالية في عام 2015 إلى وقف الحكومة عن احتجاز العائلات لشهور دون تفسير. وبدلًا من ذلك، تم إطلاق سراحهم أثناء انتظارهم للاستماع إلى قضايا الهجرة في المحكمة. في المقابل، يعود إجراء فصل الأطفال عن ذويهم إلى أبريل الماضي، حين أعلن المدعي العام الأمريكي جيف سيشنز سياسة "عدم التسامح"، التي يخضع بموجبها كل مهاجر يعبر الحدود بشكل غير قانوني – حتى أولئك الذين يلتمسون اللجوء في الولايات المتحدة – للملاحقة الجنائية، وفق تقرير نشرته صحيفة "الغارديان" البريطانية. https://www.youtube.com/watch?time_continue=11&v=n5bexCUE3RI وبما أنه لا يُسمح باحتجاز الأطفال في سجن فيدرالي، يجري فصلهم عن أهاليهم ويوضعون بعهدة مكتب إعادة توطين اللاجئين (ORR)، وهؤلاء الأطفال (بعضهم لا يتجاوز 18 شهراً) يُنظر إليهم باعتبارهم "أطفال أجانب غير مصحوبين بذويهم"، وينتظرون في المرافق الحكومية، ربما أسابيع أو أشهر، بينما يبحث مسؤولو المكتب عن أقاربهم أو رعاة لهم.
"يمكن للتجارب المجهدة للغاية، مثل الانفصال الأسري، أن تسبب ضرراً لا يمكن إصلاحه، وتعطل بنية الدماغ لدى الطفل وتؤثر في صحته القصيرة والطويلة الأجل"قوبل إجراء إدارة ترامب الجديد بانتقادات لاذعة، داخلية ودولية وصلت إلى أن عبرت السيدة الأولى ميلانيا ترامب، في تصريح سياسي نادر، بأنها ضد فصل الأولاد عن أهاليهم. من جهتها، كتبت لورا بوش، زوجة الرئيس السابق جورج دبليو بوش، في "واشنطن بوست" واصفة سياسة عدم التسامح بالـ"قاسية" و"غير الأخلاقية" قائلة إنها تذكرها بـ"مراكز الاعتقال اليابانية في الحرب العالمية الثانية، التي تعتبر الآن واحدة من أكثر الأحداث المشينة في تاريخ الولايات المتحدة". بموازاة ذلك، خرجت تظاهرات عدة منددة رفعت شعارات "توقف عن إرهاب الأطفال المهاجرين" و"أين أطفالنا؟". مع ذلك، تستمر الإدارة في تبرير هذه السياسة، بينما يتبادل الجمهوريون والديمقراطيون الاتهامات المسؤولية. وفي وقت يعد مشرعون جمهوريون بأنهم يريدون معالجة ممارسة الفصل العائلي في مشروع قانون أوسع للهجرة، ويجتمع هؤلاء مع ترامب لإيجاء حلول مناسبة، تبقى احتمالات تمرير القانون مستبعدة مستبعداً. فما مصير هؤلاء الأطفال إذاً؟ حذرت مجموعات الدفاع عن الهجرة ومحامون من أنه لا يوجد نظام واضح لجمع شمل العائلات، وقال ناشطون حقوقيون إن الأطفال لا يعرفون كيف يعثرون على ذويهم، بينما لا توجد طريقة واضحة لهم لضمان ترحيلهم مع ذويهم في حال صدر قرار بالترحيل.
بين "أقفاص الأطفال" وأبو غريب… نقاط سوداء تتراكم
عدم وجود آلية أمريكية واضحة للم شمل الأسر التي يجري فصلها، يطرح علامات تساؤل كبيرة حول الآثار النفسية الحالية والمستقبلية لسياسة مماثلة. هذا ما لفتت إليه رئيسة الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال كولين كرافت التي زارت مراكز الاحتجاز وكتبت بعد زيارتها إن فصل الأطفال عن والديهم "يتناقض مع كل ما نقف من أجله نحن أطباء الأطفال. في الواقع، يمكن للتجارب المجهدة للغاية، مثل الانفصال الأسري، أن تسبب ضرراً لا يمكن إصلاحه، وتعطل بنية الدماغ لدى الطفل وتؤثر في صحته القصيرة والطويلة الأجل". "تعذيب المعتقلين وصور الانتهاكات بحقهم في سجن أبو غريب العراق أسهم في تهشيم صورة أمريكا كمدافع عن حقوق الإنسان - أما سياسة فصل الأطفال عن أهاليهم فقد تجهز على هذه الصورة". كان هذا ما كتبه بدوره الباحث مايكل فوكس في مقال مطول لـ"الغارديان" ربط فيه بين النقطة السوداء التي خلفها أبو غريب في سجل أمريكا الحقوقي والنقطة السوداء التي تخلفها سياسة "عدم التسامح" الحالية. قال فوكس "إن أصوات الأطفال الذين يبكون في سجون الولايات المتحدة بينما يطلق الحراس النكات تستحضر بشكل مخيف حراس الولايات المتحدة في سجن أبو غريب وهم يبتسمون لالتقاط صور مع سجناء عراقيين عراة في مواضع مهينة". ولفت إلى تأثير هذه السياسة على الأمن القومي، فكما أنتج أبو غريب ومثله غوانتانامو مشاعر حقد وكراهية تجاه الولايات المتحدة، ترجمها كثر على شكل اعتداءات إرهابية وتطرف، كذلك ستعزز صورة الأطفال في الأقفاص مشاعر العداء تجاه أمريكا من جهة، كما ستزيد من ضعف موقفها (الهشّ أساساً) تجاه الأنظمة والجماعات التي تطالبها واشنطن باحترام حقوق الإنسان، حسب فوكس.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين