ما الذي يحدد الهوية الأوروبية اليوم؟ سؤال لا بد أنه أخذ حيّزاً كبيراً من النقاش العام في ألمانيا، وفرنسا، ودول أوروبية أخرى، خصوصاً تلك التي استقبلت اللاجئين خلال العامين الماضيين. مجلة "ناشونال جيوغرافيك" فتحت صفحاتها للإجابة عن سؤال الهوية الأوروبية الراهنة، من خلال ملف موسع بعنوان "الأوروبيون الجدد"، ينشر مع عدد أكتوبر المقبل. الملف بات متوفراً على موقع المجلة، ويتضمن إلى جانب تقرير صحافي موسع من إعداد روبرت كونزيغ، صوراً وأشرطة فيديو للمصوّر روبرت هاموند.
بعد سنتين من التغطية الإعلامية المكثفة لأزمة اللاجئين، وضياع أسماء ووجوه كثيرين منهم وسط زحمة التغيطة الإخبارية لحوادث الغرق والسجالات السياسية، تحاول "ناشونال جيوغرافيك" أن تعطي للبعض منهم صوتاً، كي يرووا قصصهم. تغطية فريدة، قد تتيح لمن لم يختبروا أهوال اللجوء، التماهي مع مأساة اللاجئين، أو اكتشاف ما يشعر به من عاش سنوات طويلة بصفة مهاجر في بلد غريب.
بحسب المجلة، وصل إلى ألمانيا في العام 2015 أكثر من مليون لاجىء. وبحسب أرقام الأمم المتحدة، فإنّ عدد المهاجرين في العالم بلغ 244 مليوناً خلال العام الماضي. والمقصود بالمهاجرين هنا، أشخاص يعيشون في بلدان لم يولدوا فيها. أما عدد النازحين الذين أجبروا على مغادرة بلادهم خلال العام الماضي، فبلغ 21 مليوناً، أي أكثر من عدد النازحين منذ الحرب العالمية الثانية. وبحسب المجلة، من المتوقع أن يتزايد هذ العدد في السنوات المقبلة بسبب التغيّر المناخي.
تكتب "ناشونال جيوغرافيك" أنّ الدول الأوروبية التي كانت ترسل المهاجرين إلى الولايات المتحدة في سنوات خلت، لديها الآن سكان من أصول مهاجرة يوازون بعددهم أولئك الموجودين في أميركا. "لكن عقول أوروبية قليلة، وقلوب أوروبية أقل، مستعدة لتقبّل هذه الحقيقة"، بحسب كونزيغ.
في الأشرطة المصورة المرفقة بالقصة، تعطي المجلة لعائلات وأفراد مهاجرين، مساحة ليحكوا عن تجاربهم. بعضهم لجأوا إلى ألمانيا حديثاً من سوريا، وبعضهم الآخر مهاجرون هنود من الجيل الثاني أو الثالث يقيمون في بريطانيا، إلى جانب مهاجرين أتراك في ألمانيا، ومهاجرين جزائريون يقيمون في فرنسا منذ سنوات. لكلّ واحد منهم قصته، وفهمه لهويته، ولعلاقته بالبلد المضيف. من خلال إعطاء المهجرين الفرصو لسرد قصصهم الشخصية، تقول المجلّة أنهم ليسوا أرقاماً فقط، أو بياناتٍ وإحصائيات لأزمة تحاول الدول المضيفة الخروج منها. على عكس، هم أفراد يعانون كل يوم ليستكملوا حياتهم، ولكي يفهموا هوياتهم المركبة، ويتمكنوا ربما من نسيان أهوال الحرب التي مرّوا بها، ويتأقلموا مع معطيات حياتهم الجديدة.
إن نسينا صور الغرق والسجالات السياسية حول مستقبل أوروبا: ماذا يقول اللاجئون عم أنفسهم؟
موجة اللجوء الأخيرة هي الأكبر في التاريخ منذ الحرب العالمية الثانية... كيف ستغير هوية أوروبا؟في أشرطة الفيديو المرفقة بالتقرير، نتعرّف على سوريين من مختلف الأعمار، لجأو إلى ألمانيا. من بينهم أيمن وياسر، الذين فقدا أفراداً من عائلتهما في القصف. القصف ذاته أدّى إلى فقدان أيمن قدرته على النطق بشكل جزئي. حين يتذكّر الشاب ليلة إصابته، تنهمر دموعه. في فيديو آخر، يبكي العجوز عابد محمد الخضر (88 عاماً) الذي وصل إلى ألمانيا مع عائلته لاجئاً بعد سنتين من التنقل والبحث عن مسكن جديد. يبكي حين يتذكر بلده، ورحله هجرته. ومن بين اللاجئين السوريين إلى ألمانيا الذين صوّرتهم المجلة، ثلاثة أخوة أطفال، عبادة، وبيلسان، وعامر، يتحدثون عن تجاربهم المختلفة مع الألمان بين "من يحبونهم ومن لا يحبونهم، مثل النازيين". يعبر المهاجرون الذين حدثتهم المجلة عن درجات تماهي مختلفة مع مجتمعاتهم الجديدة، من بينهم علي رضا درمس الذي يقول أنّه تركي، ويعيش في ألمانيا كتركي، ويعتبر البلد المضيف مجرد مكان يعيش فيه، بانتظار عودته إلى بلاده. مع الإشارة إلى أنّ الرجل السبعيني يعيش في برلين منذ العام 1970. على المقلب الآخر، يحكي كولوانت سينتي عن تجربته كأوّل جندي ارتدى عمامة السيخ في الجيش البريطاني، في العام 1969. ويحكي عن هوياته المتعددة، فهو لم يتخلّ عن عاداته الأصلية، لكنه خدم في الجيش البريطاني رغم ذلك. من بين المهاجرين الجزائريين في فرنسا، اسماعيل شرتوك الذي ترك بلاده قبل 27 عاماً، ويقول إنه لا يفكر أن يعود أبداً إلى مسقط رأسه. ومن بينهم أيضاً الكاتبة باتريسيا فاطمة حويش التي تركت الجزائر بعد طلاقها لصعوبة عيشها في المجتمع الجزائري كامرأة مطلقة. تستعرض المجلة أيضاً قصص لمهاجرين صوماليين إلى السويد، ومن بينهم من لجأ إلى البلاد مطلع التسعينيات بعد الحرب الأهلية. أحدهم رجل الأعمال سعيد آدم الذي يقول أنه لا ينسى أصوله الصومالية، ويتذكر تفاصيل طفولته هناك، لكنه يشعر أنه ينتمي الآن إلى السويد. ومن الشخصيات المؤثرة التي صورتها المجلة منسقة الموسيقى إيبك إيبشيوغلو وهي تركية مقيمة في ألمانيا، والتي لخصت سؤال الهوية المعقد ببعض الكلمات. تقول: "أشعر أني تركية، وألمانية، وإنسانة، ومثلية، ومن برج الثور. هناك الكثير من الثقافات في داخلي". نشأت إيبك في برلين، ولكنها تقول أن ألمانيا لا زالت تجد صعوبة في تقبل أولاد المهاجرين الأتراك. من خلال بحثها في هويات "الأوروبيين الجدد"، لا تقارب ناشونال جيوغرافيك" مسألة اللجوء فقط، بل تفتح الباب أمام نقاش واسع حول هوية الفرد في عالم اليوم. فلم يعد بالإمكان اختصار مفهوم الهوية بمكان إقامة أو مكان ولادة، بل هي مجموعة عوامل متعددة، مفصلة على قياس كل فرد، وعلى قياس تجربته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...