«..هذه نذور العاشقين لأرضهم والعائدين إليها، نحن ما زلنا على قيد الحياة، على قيد الأمل والحب»، هذا عهد قطعته نباشة الفلكلور الفلسطيني المنسي ابنة دير الأسد، سناء موسى، على عاتقها حتى يعود الأحباب، أبناء الشتات، إلى بيوتهم، فتضيء لهم المشاعل، وتحني الأعتاب.
لم يعد هنالك ما يمنع اختلاط البحر بالنهر، بعدما كسرت سناء هذا البرزخ بامتزاج عذوبة صوتها الجبلي، الذي أصقله تراث الأجداد والجدات، بملوحة دموعها التي تنساب على وجنتيها، كلما أطلت بثوبها المطرز، لتشعل الأرواح قبل القلوب من أماكنها، مؤرخة لهموم وحكايات أجيال كاملة تعاقبت على حب أرض الأجداد، ليكون الشجن - وليس غيره - هو الخليل في رحلة الوجع، إلى حين العودة.
كان بإمكانها السير على نهج غيرها، تغني للرومانسية والأعراس والمناسبات، ولم تكن لتجد صعوبة في ذلك، فصوتها الشجي وإحساسها المتقد، يفتحان لها باب النجاح على مصراعيه، متى أرادت، لكنها اختارت الطريق الأصعب والأكثر مشقة ومتعة، فراحت تنبش عما لا يراه الآخرون من تراث وطنهم، لتطوف القرى والمخيمات، باحثة عن قوالب جديدة من «كنوز الجدات»، اللواتي ما زلن يحتفظن بها في ذاكراتهن، من فلكلور يحمل في طياته عمق القضية، ورائحة الشوارع التي افترشها بارود الاحتلال.
لم يكن هذا محض مصادفة، فقصة سناء مع التراث الفلسطيني طويلة ومتشابكة تشابك جذور أشجار الزيتون بأرضها، ساعدها فيها والدها الموسيقي علي موسى، وشقيقها الملحن محمد موسى، الذي تعاون معها في ألبوميها الوحيدين حتى الآن، «إشراق» و«هواجس»، كما تحكي في حوارها مع «رصيف22».
بينما كانت طفلة تغط في النوم في حِضن جدتها، كان صوتها يدندن معها ما احتفظت به من ذاكرتها من أغان فلكلورية، عن فترة ترحيلها من الجليل إلى لبنان قبيل النكبة عام 1948.
الوجع السوري في حد ذاته إشراق على مثيله الفلسطيني، كنت أبكي وصوتي يختنق حينما سجلت "يا رايح ع بلاد الشام"، كل هذا التجارب القاسية لا يجب أن ينفصل عنها الفنان، بل هي ذاتها التي تصنع هوياتهم.فبينما كانت طفلة تغط في النوم في حِضن جدتها «وطفة موسى»، كان صوتها يدندن معها ما احتفظت به من ذاكرتها من أغان فلكلورية، عن فترة ترحيلها من الجليل إلى لبنان قبيل النكبة عام 1948، فتغني لها «لفّي محرمتك ع السيف لفّيها، يا أمّ الوحيد أغراضك ظبّيها»، وحينما تتذكر وداع الأبناء أمهاتهم في رحلة التجنيد الإجباري عن طريق البحر، في «سفر برلك»، وقت الحكم العثماني في فلسطين، يزعق معها طير الحمام، ويقول: «بتهون». بخلاف ترحالها في التراث، كان استحضار الصوت النسائي في الأغنية الفلسطينية دافع ابنة الجليل نحو سلك هذا الدرب، كما توضح، لترسم به مخيلة لم تعاصرها الأجيال الحالية، عن مآسي اللجوء والتهجير وأحلام العودة، صانعةً مزيجاً من الصراحة والعمق وقوة التأثير، لدرجة تدفع دموعكم للانهمار، حينما تشدو بمشاهد توديع الرجال أمهاتهم وزوجاتهم في «سفر برلك»، بكلمات لا يفارقها الصدق وعمق المعنى. منذ 2005، عندما سلكت سناء هذا الدرب، كان اهتمام الكثير من الفنانين الفلسطينيين منصباً على الأغاني الطربية والكلاسيكية، لكن الشغف بتراث الوطن دفعها إلى الدوران حول هذا القالب، رغبة في إعادة تعريف أبناء وطنها بهويتهم، التي لم ينجح الاحتلال في طمسها، رغم محاولاته المستميتة. لا ترى المغنية الفلسطينية ضيراً من المحاولات الجادة لإعادة إحياء التراث على نمط الألوان والآلات الغنائية الحديثة، فلم ينقص استخدام الكونترباص في «نيالك ما هدى بالك» من هويتها، لكن اكتمال هذه المعادلة يتطلب الحرص على الاحتفاظ بأساس الأغنية، وتزيينها بنوع من الهدافة، الأمر يتعلق بالمنتج في شكله الأخير، وفي النهاية هذه مسألة أذواق، أيهما سيكون مسخراً لخدمة الآخر، هذا هو السؤال الذي يجب طرحه. بخلاف كونها مطربة لا يختلف عليها كثيرون، قررت سناء خوض تجربة جديدة بكتابة أغنية «يا رايح ع بلاد الشام»، في ألبومها الأخير هواجس، لتضيف إلى قدراتها حالة مميزة تشد الأنظار. تقول: «الكلمات والألحان خرجت مغناة قبل كتابتها، فهي نابعة من مكنون مشاعر قلب موجوع، أنهكته مشاهد الدم والتشريد التي يعانيها أبناء الوطن الجار، فالوجع السوري في حد ذاته إشراق على مثيله الفلسطيني، كنت أبكي وصوتي يختنق حينما سجلتها، كل هذا التجارب القاسية لا يجب أن ينفصل عنها الفنان، بل هي ذاتها التي تصنع هوياتهم». «زعق طير الحمام وقال: بتهون، علينا وع جميع الخلق بتهون، حق من نزل المي من العيون، ذكركم عندي دوم ما انتسى». لم ينس قلب ابنة الجليل هذه الكلمات العميقة المشاعر - رغم بساطتها – حينما كانت تغنيها أمامها جدتها، راوية مآسي سفر برلك، لتقرر تسجيلها بصوتها تحت اسم «هي يمَّا ودعيني»، ضمن قالب الشلعيات، الذي أطلقت عليه نساء فلسطين هذا المسمى، استناداً إلى كلماته المؤلمة والمؤثرة التي تمزق القلب، حسبما تحكي. بألبوميها، بدأت سناء مشروعها الخاص لتوثيق التراث الفلسطيني، لحمايته من الاندثار والاغتراب، ولتعيد صنع القوالب القديمة، التي تحتفظ بهوية خاصة مغايرة لأغاني الأعراس وغيرها، وفي طريقها لهذا الهدف، واجهت صعوبات كثيرة، على رأسها تحفظ الجدات وحتى الرجال على التطرق إلى كل ما يقود إلى ذكر «الشلعيات»، التي كان من الصعب استدراجهم إليها، لارتباطها بذكريات مؤلمة، حتى أن البعض كان يصفها بـ«التناويح»، وعادة ما تنتهي بانهمار دموعهم. صدق المشاعر الذي تلمسه في صوتها وكلماتها، جعل سناء مرجعاً غنائياً مؤثراً في جيل فلسطيني، لا يزال يصارع للحفاظ على هويته، ومعه وثقت مآسي أجيال النكبة وأبناء الشتات، بعد وعد بلفور، في فيلم تسجيلي عنوانه «مائة عام وعلى قيد الحب»، مستعرضةً شهادات أبناء القرى والبلدات، تحكيها وجوههم التي تحتفظ في تجاعيدها بذاكرة الوطن. / هذه الحالة دفعتنا لسؤالها: «هل الفن قد يكون وسيلة للمقاومة أحياناً؟»، لتنبه إلى دوره الكبير في خلق وعي بالقضية، فلا نضال يرجى دون هذا الوعي، الذي يزيد الانتماء لوطن يعيش في المخيلة، لم يعاصر أبناؤه الحاليون مآسيه، لكنهم استشعروها في كلمات غسان كنفاني عن صبرا وشاتيلا، ومن محمود درويش الذي «يفتش عسكري في كفه، فيصادر حيفا التي هربت سنبلة»، تماماً كما أنك لا تستطيع وصف حبيبة دون أن تكون صورتها مغروسة في أدغال ذاكرتك. سعادة سناء بجني ما زرعته في قلوب أحبتها، تستشعرها حينما يستوقفها أطفال صغار ليسألوها عن معنى«طارش الضرب» و«ما أريناها»، وغيرهما من عبارات، فتشرحها لهم، ممزوجة بحكايات الأجداد وذكرياتهم. لم تعد المعركة الآن ترتكز على البارود، بل باتت حرب هوية تستدعي حفظ الذاكرة الجمعية لشعب أنهكه الاحتلال والشتات، ليعيد صياغتها في بناء مجتمع مدرك لقضيته، يستشرف منها ملامح الوطن الذي يحلم ببنائه بعد تحرره. في الانتفاضتين الفلسطينيتين الأولى والثانية أطلق مطربون عرب أغاني داعمة لها، لكن سرعان ما خفتت هذه «الفورة» بعد ذلك، والحال نفسه في ثورات الربيع العربي، بالتأكيد التوقيت يدخل الفنان في أجواء الحالة، لكن سناء ترى أن الأمر ليس ظاهرة عابرة، فالأهم أن يكون نابعاً من إيمان حقيقي بالحدث، فإذا كان كذلك فسيكتب له الاستمرار في كل حين، هذا ما تراه على سبيل المثال في جوليا بطرس ومارسيل خليفة اللذين أثرا في الشارع العربي بشكل حقيقي، وواصلا الدفاع عن القضية بعذوبة صوتيهما حتى هذه اللحظة. / سوق الغناء العربية الحالية مرآة لكثير من التفاصيل في ثقافة مجتمعاتها، من وجهة نظر الفنانة الفلسطينية، لكنها في الوقت ذاته ليست دقيقة، فبالتأكيد هنالك التجاري الذي لا يحمل ثقلاً في لحنه أو نصوصه، وهناك آخرون مهتمون بالكلمة والفن البديل، وغض النظر عنهم، هو ما يعطي هذا الانطباع غير الحقيقي. بحسب رؤيتها، لم يقدم الفنانون الفلسطينيون سوى قسم بسيط من تراثهم الغني جداً، ويحتاجون إلى سنوات وعهود لتقديم صورة عادلة عن تنوعه، فالفن يستلزم وقتاً وإعادة قولبة لتقديمه بشكل ينصفه أمام موجة التغريب. لا ترى سناء نفسها حبيسة للفلكلور، لأنها قدمت أنماطاً أخرى ذات طابع حديث في ألبوميها، كما لا ترى ضيراً من غناء أي لون آخر إذا توافرت فيه المعايير التي تلمس روحها، لكنها ترى أنها حتى إن غنت نمطاً حديثاً فقد يعتقد البعض أنه فلكلور قادم من عمق التراث، هذا بالضبط ما حدث حينما ظن كثيرون أن «يا رايح ع بلاد الشام» تراثية، على الرغم من أنها من كلماتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع