لا تشغل بالي كل تلك القصص التي عايشتها، وأدركتها كمأساة لا كعظة أو نصيحة، حين أدخن الحشيش مع أصدقائي نهاية الأسبوع، يقول بركات وميدو (اسمان مستعاران) اللذان تجاوزا الثلاثين من العمر، ويدخنان الحشيش منذ سنوات، كما يشربان الخمر إذا جاءت "مستوردة". وقد عايشا موت ثلاثة أشقاء من أصدقائهما وجيرانهما نتيجة "أوفردوز".
يقول "بركات" إن لحظة الأوفردوز الرهيبة والقاتلة لمن هم حول الضحية، هي نتيجة حتمية، لتجاهل عرف قديم بين الناس الذين يفضلون الكيف من أجل المزاج فقط، حتى إنهم سموه "كيف، لأنه علشان المزاج، مش علشان محتاجين يتحولوا لشخصيات تانية، قالوا في العرف ده "اعرف أخرك واقف قبيله".
كيف يحدث الأمر؟
طالما تكون كمية من المادة المخدرة أكثر من الكنية التي اعتادها الجسم. إذ ذاك تحدث الصدمة "الأوفردوز". يقول مصطفى رأفت الكميائي ومتخصص التحاليل لرصيف22. ويوضح: الجسم لا يستطيع التعامل مع كمية غير معتاد عليها من المادة المخدرة أيا كان نوعها، هذا هو تعريف الأوفردوز ببساطة، وإضافة إلى ذلك نعتبره من أنواع التسمم. ويضيف: تختلف الأعراض من مادة لأخرى، لأن كلاً منها تتعامل مع المخ وتؤثر عليه بشكل مختلف، هناك مواد تتعامل مع المخ بشكل مباشر، وهي أسرع في التأثير من حيث طريقة التعاطي من الحقن أو التدخين والبلع.نقطة مهمة
يجب أن نفرق بين اضطراب الهلع (panic attack) وبين الأوفردوز، لأنه من الممكن أن يتعرض أحد المتعاطين للبانيك أتاك، ويدخل في نوبة فزع شديدة سرعان ما تقترن بالخوف من الموت، فيظن المصاحبون له أنه أصيب بأعراض الأوفردوز. والأعراض التي تحدث في الحالتين، هي: التعرق الشديد، الدوار وانعدام التوازن، تسارع نبضات القلب، انقباض عضلات الصدر، اضطراب الجهاز الهضمي، الرعشة والارتجاف، الشعور بالاختناق وضيق التنفس.أمور لا تحتاج إلا إلى مرة واحدة لتحدث
ترى ما الذي يدفع الأخ الثاني لتكرار تجربة شقيقه الأوسط، الذي وصل إلى مرحلة أوفردوز نتيجة تعاطيه جرعة زائدة من المخدر، لم يلبث في المستشفي سوى ساعات، وهذا تكرر مرة ثالثة مع الشقيق الصغير، الذي لم يصل إلى المستشفى كأخويه، بل وجده شقيقاه المتبقيان لأمّ مات لها ثلاثة أبناء بأنواع مختلفة من المخدرات.نادراً ما يدرك من يقف على حافة الأوفردوز ما يحدث له، ولكن هناك علامات يسهل التعرف عليها تشير إلى أن أشخاص آخرين قد يكتشفون.
اللجوء إلى التعاطي خصوصًا المخدرات كالكوكايين والهرويين، هي نوع من إيذاء الذات المباشر، وسبب آخر هو الثقة بالمادة والعلاقة بها كأنها المخلص الأوحد لكل الأوجاع النفسية.يوضح "ميدو" أن الأشقاء الخمسة، تعودوا تعاطي المخدرات منذ كانوا أطفالاً ومراهقين، إذ كان الوالد يرسلهم لجلب المخدرات من الموزعين الصغار، وتدريجياً بدأ يشاركهم في الكيف، من أول زجاجة البيرة، وحتى تذكرة البودرة، مروراً بتدخين البانجو والحشيش وبلبعة البرشام والأدوية و"حقن الماكس". لا يوجد أي ظرف من شأنه دفع شخص ما إلى الحافة، والسقوط المفاجىء إلا جرعة زائدة. تقول Maggie May Ethridge في مدونتها على موقع مجلة فايس الأمريكية، وكانت أوضحت في تدوينة بعنوان "هذا ما يحدث بالضبط عندما تتعرض للأوفردوز". وتؤكد رأي ماغي رواية "بركات"، الذي قال إن تلك المفاجأة لا تحتاج سوى مرة واحدة فقط، وإنه بات متأكداً منذ وفاة كبير أسرة أصدقائي الأشقاء، أنه مهما كان الإنسان ذكياً، كجيراني الثلاثة -بينهم اثنان متفوقان دراسياً- فإنه عرضة لأن يصل لمرحلة لا يدرك فيها كمية المادة التي يتعاطاها، ولا أظن أن أحداً منهم كان يغفل عن هذا، ولكنه حدث في ثلاث مفاجآت متتالية، بمجرد تجاوز الحد دون وعي.. تقول "ماغي"، مستندةً على معلومات أوردها Anthony Morocco، الطبيب بمستشفى Sharp التذكاري بسان دييغو-كاليفورنيا، الذي قال إنه نادراً ما يدرك من يقف على حافة الأوفردوز ما يحدث له، ولكن هناك علامات يسهل التعرف عليها تشير إلى أن أشخاصا، آخرين قد يكتشفون، بما في ذلك النعاس الشديد واليد الباردة والتفكير الغائم والغثيان و / أو القيء وبطء التنفس.
خروج الرغوة من الفم
ورتبت "ماغي" ما يحدث عند صدمة الجرعة المفاجئة، في سبع مراحل، أولاها كما أوضح "رأفت" انتشار المادة المخدرة في جميع أنحاء جسمك، حسب طريقة التعاطي. ثم وصول الدم المخدر إلى الدماغ فتصبح سعيدًا. ثم يذهب الدم إلى القلب في دفقة ثانية، ليتصل بنظام مستقبلات الأفيون في جميع أنحاء جسمك، مارًا بجزء من الدماغ، تحديداً في مركز دائرة المكافآت، التي تسمى النواة المتكئة، حيث يتم إنتاج هرمون الدوبامين، أي هرمون السعادة، وهناك يمتزج العقار بالخلايا العصبية (GABAergic). ثم تتباطأ أنفاسك بشكل ملحوظ (دون عشرة أنفاس للدقيقة)، ثم يتباطأ معدل نبضات القلب ومعه تضطرب الإشارات العصبية. لتبدأ الأشياء في مرحلة الإغلاق، ثم يتلف الدماغ تماماً، ومن الممكن أن تحدث السكتة القلبية قبل ذلك، كما يحدث في كثير من الأحوال حسب معلومات "موروكو". لكن قبل المرحلة الأخيرة تبدأ الرغوة في الخروج من الفم بشكل لا إرادي، وهي عبارة عن تسرب سائل إلى المجاري الهوائية للرئة، ولكن الأطباء غير متأكدين حتى الآن من الآلية الدقيقة لهذا الحدث، ولكن يرجحون أن اضطراب الإشارات العصبية يعطل الاستجابة الطبيعية للجسم، وبالتالي لا تستطيع إخراج الإفرازات الموجودة بموخرة الحلق ولا حتى ابتلاعها، ومع الشعور بالاختناق، طوال 4 دقائق من الحرمان من الأوكسجين، يبدأ المصاب في استنشاق القيء ثم يفارق الحياة.الثقة في الخائن
لماذا لا يعبأ بعض الذين عايشوا مثل هذه التجربة مع أقرب الناس إليهم، أو معارفهم، بالخطر الذي يهددهم؟ تقول ستيفاني غانم، أخصائية في علم النفس العيادي والتحليل النفسي، إن هناك أسباباً كثيرة، مثل الشعور بفقدان السيطرة، أو عدم تحمل المسؤولية، أو نقص الوعي حول خطورة المسألة. وعن التفسير العلمي لعدم المبالاة بهذا الخطر لدى "المتعاطين المعتدلين" إن جاز التوصيف، توضح غانم أن اللجوء إلى التعاطي، خصوصًا المخدرات كالكوكايين والهرويين، هو نوع من إيذاء الذات المباشر، وسبب آخر هو الثقة بالمادة والعلاقة بها كأنها المخلص الأوحد لكل الأوجاع النفسية، إضافة إلى أن الدماغ يتعود شيئًا فشيئاً على الكمية، فتزيد الحاجة إلى كميات أكبر للوصول إلى اللذة المطلوبة. وعن الأثر النفسي الذي يحدثه الأوفردوز لمن نجا من التجربة، تقول غانم إن أول وأكبر إحساس يولد مع تلك التجربة، هو الإحساس بالفشل، إن كان الأوفردوز متعمداً بهدف إنهاء الحياة؛ الفشل لأن الهدف لم يتحقق، وأن الشخص سيستمر في حال العذاب النفسي والجسدي الذي يعيش فيه. أما إذا لم يكن الحادث مقصودًا، فإن الشخص، حسب ستيفاني، سيشعر بالخيانة وفقدان الثقة تجاه التاجر وتجاه نفسه، والمجتمع الذي لم يستطع حمايته من اللجوء إلى التعاطي، كما يمكن أن تنتج عن ذلك بعض الأعراض كالهلوسة والهذيان، مما يؤدي إلى فقدان شبه كامل للتواصل مع الواقع. أما عن الأثر النفسي الذي يقع على المحيطين بالحالة، سواء التي لم تنجُ أو التي نجت، فهو الشعور بالخوف من تكرار الحادث، ولوم الذات لأنهم لم يكونوا موجودين، ولم يستطيعوا حماية الشخص.كيف نتعامل مع تلك اللحظة؟
يوضح موروكو أنه يمكن للمتغيرات مثل درجة حرارة الجسم، أن تؤثر على الضرر الذي يلحق بالدماغ، فكلما كان الجسم أكثر برودة، كان الدماغ أكثر تعرضًا للتلف. وينبه إلى أنه في حالة تلقي المصاب لإنعاش قلبي رئوي خلال هذه الفترة، يمكن الوقاية من تلف الدماغ أو السيطرة عليه، حيث ينتهي المطاف بالشلل وعدم القدرة على الكلام، بدلاً من الموت فوراً. علماً أن بعض مضادات للاكتئاب يمكنها أن تواجه هذه التأثيرات، في بعض الأحيان، ولكن يجب تناولها على نحو يناسب كمية المواد الأفيونية في الجسم، لتفتت الجزيئات الأفيونية من المستقِبل، وتستبدلها، ثم يتم استقلاب المواد الأفيونية في الجسم. أما عن كيفية التعامل النفسي من قبل المحيطين بالناجي من الأوفردوز بعد التجربة المرعبة، فتؤكد غانم أنه يجب عليهم الاستعانة بأشخاص متخصصين لمساعدة الشخص على الإقلاع عن المخدرات، ومتابعته على الصعيد النفسي، وكذلك مساعدتهم هم على كيفية التعامل معه. والأهم معالجة الأسباب التي جعلته يلجأ إلى هذه الوسيلة للهروب من مشكلته، وتعليمه وسائل صحية لإدارة الضغط النفسي الذي قد يتعرض له."الأفيونيات" أكثر المخدرات المسببة للأوفردوز
يصف مركز السيطرة على الأمراض الأمريكي CDC - إحدى الهيئات الرئيسية في وزارة الصحة والخدمات الإنسانية بالولايات المتحدة الأمريكية- الأفيونيات بأنها وصفة طبية غير مشروعة، وهي المحرك الرئيسي لوفيات الأوفردوز. وقد تسببت الأفيونيات -حسب إحصاءات المركز- في 42,249 حالة وفاة في عام 2016، وكانت وفيات جرعة الأفيون الزائدة أعلى خمس مرات في عام 2016 مقارنة بعام 1999. وجاء في الإحصائية التي يندر أن نجدها في الوطن العربي أنه في عام 2016، حققت ولاية ويست فيرجينيا أعلى معدلات الوفيات بسبب الجرعات الزائدة من المخدرات (52.0 لكل 100000)، تليها أوهايو (39.1 لكل 100.000)، وقد شوهدت زيادات كبيرة في المعدلات من عام 2015 إلى عام 2016 في المناطق الشمالية الشرقية والغربية الوسطى والجنوب. وأظهرت إحصائية رسمية، نقل عنها الموقع الإلكتروني لجريدة القبس الكويتية في مارس 2017، أن 460 شخصاً كويتياً قُتلوا جراء تناولهم الجرعات الزائدة من المواد المخدرة خلال 7 أعوام، بمعدل وفاة 66 شخصاً كل عام، إذ لقي نحو 120 مواطنًا حتفهم خلال تلك السنوات، ونحو 200 مقيم عربي وخليجي خلال الفترة نفسها، كذلك لقي 140 آسيوياً من جنسيات مختلفة مصرعهم بالجرعات الزائدة. ووفق الإحصائية نفسها، فإن العام الماضي 2016 سجل مقتل 33 شخصاً بالجرعات الزائدة من المخدرات، في حين سجل عام 2015 مقتل 63، وعام 2014 مقتل 63 أيضاً، وعام 2013 مقتل 88 مواطناً ومقيماً.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...