حالة من الجدل بين سلطنة عمان وجارتها الإمارات ثارت بعد أن قرر تلفزيون أبوظبي إنتاج مسلسل دارمي يتناول شخصية القائد الأموي المهلب بن أبي صفرة، إذ نسبه إلى الإمارات، الأمر الذي لم يعجب العمانيين الذين يفاخرون بأن "أمير المشرق وخراسان" وُلد وتوفي على أرض السلطنة قبل 1316 عاماً.
وبلغت ذروه التراشق بين الجارتين عندما طالب مستشار السلطان قابوس للشؤون الثقافية الإماراتيين بعدم الاعتداء على الأموات. وقال عقب مشاركته في ندوة بولاية نزوى: "التاريخ ليس إرثاً لأحد، لكن الشخصيات تعود إلى أوطانها وإلى انتمائها"، مضيفاً في تصريح نحى منحى سياسياً: "تمنينا أن تكون جلستنا هذه لمد جسور الحوار مع الآخرين ليكونوا جزءاً من هذه الأرض الطيبة التي تحتوي الكثير، لكنهم تركوا عمانيتهم وذهبوا إلى شيء آخر، تاهوا في الأرض أربعين عاماً، وعادوا الآن مرة أخرى يريدون أن يكونوا عُمانيين، فعلى الرحب والسعة، لكن يجب أن نسمي الأشياء بمسمياتها ونعطي الحق لأصحابه".
خلال الندوة المذكورة التي عُقدت بمشاركة باحثين عرب وأجانب، أكد المشاركون أن المهلب بن أبي صفرة وُلد في سلطنة عمان، موضحين أن غضبهم نابع من محاولة الإماراتيين نسب هذه الشخصية إلى بلادهم.
وفي المقابل، وجد ناشطون إماراتيون في كتاب لوزير الثقافة السوري السابق رياض نعسان آغا بعنوان "المهلّب من دبا إلى مطلع الشمس" مرجعاً يستندون إليه لنسب القائد الأموي إلى دولتهم المؤسسة حديثاً.
يأخذ الجدل العماني الإماراتي منحى سياسياً أكثر مما هو جدل تاريخي، ويدور حول أصل المنطقة. ويذكر المؤرخ ابن حجر العسقلاني أن والد المهلب من مدينة دبا التي حدثت بها إحدى معارك حروب الردة، وكانت جزءاً من إقليم عمان التاريخي الذي ينقسم سياسياً اليوم إلى ثلاثة أقسام: الأول والثاني هما دبا الحصن ودبا الفجيرة ويقعان في الإمارات، والثالث ولايه دبا التي تقع في سلطنة عمان. ولا يوجد تأكيد جازم حول ولادة والد المهلب في أي من هذه المناطق التي تسمّى "الدبا".
من هو المهلب؟
تذكر كتب التاريخ أن المهلب اشترك مع والده في حملة جيش عبد الرحمن بن سمرة على مدينة سجستان، وقاتل ضد الفرس في معركة القادسية تحت قيادة سعد بن أبي وقاص. وينسب أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة الأحساء وعضو اتحاد المؤرخين العرب الدكتور محمد الملحم القبيلة التي ينتمي إليها المهلب إلى "أزد عمان"، ويؤكد أنهم أسلموا في السنة الثامنة للهجرة، ثم ارتدّوا مع مَن ارتدّ بعد وفاة الرسول، ثم عادوا إلى الإسلام من جديد، ونزحوا إلى البصرة، وقاتلوا تحت لواء السيدة عائشة في معركة الجمل، ثم بايعوا عبد الله بن الزبير على الخلافة وحاربوا معه. ويقول في بحث بعنوان "يزيد بن الملهب بن أبي صفرة ودوره في بلاد الشرق" :"لم يقوَ شأن الأزد إلا بعد أن استقر العدد الكبير منهم في أرض عمان، وكانوا في نهاية حكم معاوية بن أبي سفيان وبداية حكم ابنه يزيد قد جمعوا جموعهم وهاجروا إلى عمان"، ويضيف: "بدأ شأنهم يرتفع حينما ولي المهلب بن أبي صفرة خراسان، وذاع صيتهم بعد أن تصدى للخوارج الأزارقة الذين هددوا الدولة الإسلامية". ويؤكد الدكتور صالح الصقري، الأستاذ في قسم التاريخ والحضارة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، أنه لم يتم التركيز بشكل جيد على شخصية المهلب التاريخية. ويقول لرصيف22: "شخصيات إسلامية كثيرة وقادة عسكريون لم ينالوا حقهم من التركيز. هناك أربع قادة، في عهد عبد الملك بن مروان، كانوا وراء أكبر اتساع للدولة الأموية، وينسب الفضل للمهلب في أنه هو مَن قضى على فتنة الأزارقة الخوارج التي كادت تعصف بالدولة الإسلامية. كان قائداً قوياً وشجاعاً، كما كان له دور كبير في فتوحات المشرق". في بعض الروايات، يتم الخلط بين شخصية الأب المهلب، والابن يزيد: أيّهما وقعت في عهده الفتوحات؟ يؤكد الدكتور الصقري أن "المهلب انتقل إلى البصرة، وكان معارضاً للأمويين في البداية ومؤيداً لعبد الله بن الزبير". وظهر اسم المهلب بن أبي صفرة في التاريخ بشكل مفصل لأول مرة عندما شارك مع جيش الأمويين في غزو سجستان في الهند في عام 42 هجرية، وكان له دور كبير في نصر جيوش المسلمين في خراسان، بعد أن كاد الترك يفتكون بهم عندما حاصروهم، وكانوا لا يعرفون الطرق والشعاب كما يعرفها أهلها. وذكر الطبري في كتابه: "تولّى المهلّب الحرب، ولم يزل المهلّب يحتال، حتى أخذ عظيماً من عظمائهم فقال له: اختر بين أن أقتلك، وبين أن تخرجنا من هذا المضيق، فنجا وغنموا غنيمة عظيمة". وجاء في ذكر المهلب بن أبي صفرة في الموسوعة العربية، أنه غزا الهند سنة 44 هجرية (664) في خلافة معاوية بن أبي سفيان، ولمع نجمه أثناء الحركة الزبيرية، عندما أثار الخوارج الأزارقة الرعب في قلوب أهل البصرة، فكتبوا إلى عبد الله ابن الزبير الخليفة في الحجاز يسألونه أن يوجه إليهم رجلاً من قبله يتولى قتالهم، فأرسل إلى المهلب بن أبي صفرة الذي كان والياً على خراسان يطلب إليه أن يتولى قتال الخوارج الأزارقة. وعندما تولى عبد الملك بن مروان الخلافة، كان يعرف شجاعة وقوة وبأس المهلب، فقرر أن يستميله لكي يستفيد من خدماته. وعندما تولى الحجاج الثقفي العراق، دعم جيش المهلب في قتال الأزارقة وقائدهم قطري بن الفجاءة، فنجح خلال عامين في القضاء على ثورتهم، فولاه عبد الملك على كامل خراسان، وبقي والياً عليها حتى توفي وهو يقود الجيوش الإسلامية في مرو الروذ سنة 82 هـ، وولي خراسان بعده ابنه يزيد بن المهلب، الذي لم يكن مثله في الحكمة والقوة. يؤكد الدكتور عبد الرزاق القوسي، الباحث في التاريخ ومؤلف كتاب لغات جنوب الجزيرة العربية، لرصيف22 أن مجموعة من المصادر ذكرت أن قوم المهلب بن أبي صفرة كانوا ينزلون بين عمان والبحرين، هذا ما ذكره ابن كثير، غير أن ابن سعد في الطبقات وابن قتيبه في كتاب المعارف كانوا أكثر تحديداً، إذ ذكروا أن أصل المهلب من أزد العتيك أو أزد دبا اليمانية وهي من القبائل العربية التي خرجت من اليمن واستقرت بين المنطقة الواقعة بين عمان والبحرين. ويضيف :"الحدود القديمة قد لا تتفق مع الحدود السياسية المعاصرة".ليست المرة الأولى التي يتم فيها نسب شخصيات عمانية إلى الإمارات... تداخل الإقليمين لفترات طويلة ولّد الكثير من اللغط حول أمور عدّة، خاصة وأن الإمارات نفسها كانت جزءاً من إقليم عمان التاريخي
جدل بين العمانيين والإماراتيين حول موطن القائد الأموي المهلب بن أبي صفرة يضاف إلى سجالات سابقة حول الرحالة أحمد بن ماجد وحضارة ماجان وسجالات كثيرة سببها حداثة دولة الإمارات وتبعيتها السابقة لعمانوبحسب القوسي، تحتمل مدينة دبا التي ذكر المؤرخون أن المهلب ولد فيها أن تكون أكثر من مدينة، ولكن كلها تقع في منطقة واحدة، إحداها تتبع مسند العمانية والأخرى إمارة الفجيرة الإماراتيه وفق الحدود السياسية الحديثة. ويتابع: "لكنها كلها تتبع عمان وفق الحدود القديمة، على الرغم من أن رياض نعسان آغا قال في كتابة 'المهلب من دبا إلى مطلع الشمس' إنه ولد في دبا الفجيرة، وفي الندوة التي أقيمت في جامعة نزوى بعنوان ‘المهلب بن أبي صفرة الأزدي العماني' قدم الباحث الدكتور عبد المنعم سلامة، أستاذ التاريخ الإسكندري، ورقة بعنوان ‘أضواء جديدة على دور المهالبة السياسي والثقافي في جرجان' أشار فيها إلى أن دبا التي تورد بعض المصادر انتماء المهلب لها كانت قصبة عمان أي عاصمتها". ويشدد الدكتور القوسي على أن المهلب ولد في عمان وفق الحدود القديمة لأن الإمارات العربية المتحدة لم يكن لها وجود في ذلك الوقت، وكانت تتبع عمان بشكل عام في معظم تاريخها، كما أن المولود ينسب إلى الدولة التي ولد فيها بغض النظر عن تغير الدولة على مدى التاريخ.
خلافات سابقة على التاريخ والتراث
ليست هذه المرة الأولى التي يتم فيها نسب شخصيات عمانية إلى الإمارات. تداخل الإقليمين لفترات طويلة سبّب كثيراً من اللغط. يرجع التاريخ المترابط بين الدولتين لنحو 15 قرناً، إلى انهيار سد مأرب في اليمن في عام 575 ميلادية. حينها بدأت القبائل العربية اليمنية بالهجرة إلى كافة أنحاء الجزيرة العربية، وهاجرت قبائل الأزد إلى أرض عمان واستطاع قائدهم مالك بن فهم الدوسي الأزدي طرد الفرس، ومن نسله جاء الأمام أحمد بن سعيد بن أحمد آل بو سعيدي الأزدي، المؤسس الأول لدولة آل بو سعيد، والذي يتحدر من صلبه السلطان قابوس بن سعيد. قبل نحو أربعة أعوام، دار جدل كبير بين المؤرخين العمانيين ونظرائهم في الإمارات حول موطن الرحالة أحمد بن ماجد، بعد أن زعم تقرير لجريدة الاتحاد، وآخر لتلفزيون أبوظبي أنه إماراتي الموطن. وجاء في التقرير الذي نشر يوليو 2014: "أحمد بن ماجد، البحار الإماراتي العريق، واحد من الأسماء التي بقيت عالقة بالذاكرة على مر الزمان رغم أنه غادرنا منذ قرون"، مضيفاً أنه ولد عام 821 هجري بجلفار، رأس الخيمة حالياً. وأتى الرد العماني عبر كتاب "أسد البحار العماني أحمد بن ماجد في دراسات الأوروبيين والمستشرقين"، للتأكيد على هويته العمانية، مع التذكير بأن رأس الخيمة كانت عمانية وتتبع السلطنة. أما الجدل الأكبر فكان في نسب الإماراتيين حضارة مجان العمانية لأنفسهم، وهي حضارة موغلة في القدم، تعود إلى عام 2291 قبل الميلاد، وذكرها الدكتور جواد علي في المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. فقد قال تقرير لجريدة البيان الإماراتية إن حضاره ماجان هي جزء من الإمارات، وجاء في التقرير المنشور في 20 ديسمبر 2012: "قطع أثرية وجدت قبل مرحلة التدوين، أو ما يسمى العصر الحجري القديم، وكان الامتداد الإقليمي للإمارات وعُمان يعرف بمجان، وقد ورد ذكرها في النصوص المسمارية في بلاد ما بين النهرين، وكانت تدعى جبل النحاس، وقد اختلف المؤرخون المعاصرون بشأن تعريفها، حيث ذكروا أن مجان هي عُمان فقط، بينما رسم جورس زارنر (1986) خريطة للمنطقة، يظهر فيها بشكل واضح أن مجان كانت تشكل قسماً من الإمارات الحالية، وقسماً من سلطنة عُمان". ويرفض العمانيون هذا العرض بشدة، ويتمسكون بفكرة أن الإمارات ذاتها كانت جزءاً من عمان، فلم تنفصل إماراه رأس الخيمية المحاذية للسلطنه، عن عمان وتظهر كعاصمة لساحل عُمان الشمالي إلا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي. ووصل التجاذب بين الجيران إلى نسب حلوى عمانية شهيرة للإمارات عبر تقرير لصحيفة الاتحاد الإماراتية، كما نسبت تقارير إماراتيه "فن العازي" لها، وقامت بتسجيله في منظمة "اليونسكو"، وهي خطوة أثارت غضب العمانيين.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...